q

لم ترسخ وسائل الإعلام المختلفة والمنتشرة بكثافة مفاهيم الدولة المعاصرة، أو التعايش السلمي، والقبول بالآخر، بل أن احتفاءها السطحي بقيم التعددية المجتمعية والفكرية أنتج حالةً من ردة الفعل العكسية التي قوضت المساعي الهادفة لإحلال ثقافة السلم المجتمعي. الميديا اليوم هي الشكل الأبرز والقريب للفرادة في قضية صناعة الرأي العام؛ لكونها أيقونة الممكن التواصلي الأسرع، فخلقت حالة من الانبهار لدى الملايين المتعاطين مع وسائلها أثمرت عن تأثير يذكر بالانبهار الذي أحدثته ولإذاعات والتليفزيونات ودور السينما على سلوك الأفراد في فترات سابقة. وتبدو قضية تشخيص الوظيفة الحقيقية لوسائل الميديا هي المهيمنة على أفكار المختصين بهذا المجال، وهل أنَّ حرية التعبير التي أتاحتها الوسائل الميديوية أنتجت شيئاً ذا فائدة، أم انها اقتصرت على أشكال بسيطة من التعبير عن الذات؟

الواقع يقول إننا ــ في ظل اضطراب الميديا ــ إزاء حالة من الاهتزاز السلوكي الذي يستلزم جهداً نقدياً يعيد النظر لواقع الميديا وهي تتعمد تهشيم الثقافات، وإشاعة حالة من (الكره الحضاري) بين مستخدمي وسائل التواصل، أو أولئك الذين أدمنوا شبهات فكرية وثقافية تنتعش في بعض البرامج التي تقدم عبر هذه الوسائل، أغلبها تدور حول محور ذوبان الهويات في هوية واحدة حتى وإن تعددت قيمها وتشظت في عوالم ضياع المعنى، وصراع الحضارات أوتصادمها، وصولاً للصورة الأمثل من العدمية التي تم التنظير والتأسيس لها منذ نهايات القرن التاسع عشر حيث هيمنت عبارة "الحط من القيم العليا" التي أطلقها (نيتشة) معبداً الطريق لآخرين من أمثال ميشال فوكو، وهايدغر في التنظير لها كلٌّ بطريقته الخاصة التي زاد بها من مساحات المتاهات الوجودية.

والمرحلة الحالية تشهد حالة من الضبابية في قضية الثبات على القيم التي تبدو وكأنها تتلاشى أمام السطوة الوحشية للعولمة، والتحولات الكبيرة التي تكاد تعصف بمجتمعاتنا نتيجة التأثر السلبي بثنائية العولمة/التكنلوجيا؛ من أجل إنشاء عالم متناغم عبر مفاهيم التوافقية و(المواطنة الكونية). إن قضية العالم المتناغم ليست مؤرقة في حال تمت العناية بقضية التنوع الثقافي ومستقبل هذا التنوع، وذلك لن يتم مالم يتم الانتباه لصياغة مشروع يمثل مثلثاً اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً، وكل ضلع من أضلاع هذا المثلث له وظائفه التي يقوم بها للوصول لحالة تكاملية تجعل العالم أكثر تفاؤلاً في نظرته للمستقبل.

وقد أثبتت الأحداث المتلاحقة غياب استراتيجية التعاطي مع أشكال الأزمات والصراعات، خصوصاً تلك التي تنطلق من جذور عرقية أو دينية والتي تشكل خطراً يهدد حياة الأبرياء عن طريق بعض اعمال العنف التي تبررها وسائل الاعلام والاتصال التي تتحكم بها الإيديولوجيا المنتمية، بل حتى الوسائل التي تدعي بالحيادية نراها ركست في فوضى المصطلحات والمفاهيم، فالمجرم الإرهابي الذي يفجر نفسه في سوق شعبي، أو مقهى يرتاده شبان في مناطق يغلب على سكانها لون مذهبي معين، يُسوَّقُ على أنه (مجاهد واستشهادي)، بينما يوصف من ذات الوسيلة الاعلامية في حال نفذ عملياته العنفية في بلدان أوروبا بأنه (انتحاري) أو ربما تلحقه صفة الإرهابي والمتوحش في وسائل اعلامية أخرى، الأمر الذي يعكس حالة من ترسيخ (الدونية) الإعلامية، وازدواج المعايير التي تنظم السلوك الاعلامي في التعاطي مع الأحداث.

مثل هذه الازدواجية تجعلنا نعتقد بفشل مشروع (القرية العالمية الصغيرة) الذي يمكن أن تأوي لها المجتمعات على اختلافها، وعدم واقعيته المنطلقة من أحلام رقصت في رأس مارشال كلوهان عالم الاتصال الكندي، فهذه القرية الصغيرة التي قدمها لنا على أنها الأنموذج الأمثل؛ مثلت بالوناً انتفخ لدرجة كبيرة قبل أن ينفجر بدبوس الإيديولوجيا الصغير.

ولايقتصر الموضوع على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة فقط، بل تدخل وسائل التواصل الاجتماعي على الخط وبقوة في هذا الصراع المحتدم بما تشكله من قوة تأثير وهيمنة على صناعة رأي عام منفعل تقف خلفه جهود جبارة عبر تجييشها الجيوش الالكترونية المختلفة التي تهاجم هذه الجهة أو تلك، أو تستهدف إشاعة ظواهر تبدو غريبة ، أو تحاول الانتقاص من قيم لاتتفق معها وتراها آخذة بالازدياد والقبول – الشعائر الدينية أنموذجاً - فضلاً عن الاهتمام بها من زاوية دارسة ومحللة لأسباب انتشارها الكثيف حتى مع الحرب الشعواء التي تشن عليها، ومن زاوية ثانية تلعب وسائل التواصل الاجتماعي في تشكيل رأي عام يعبث بالبنى الأخلاقية مستهدفة شرائح المراهقين والعاطلين والمأزومين وهم بطبيعة الحال نتاج السياسات الخاطئة؛ لذلك نجدهم يقعون بسهولة فريسة لرأي عام مكهرب وخطير.

السؤال الملح: لماذا على الإنسان أن يخسر دائماً بفعل هذا التعقيد، ولماذا يجب ان يكون منشغلاً ببرمجة توهمه أنه يسير في ركب التطور والحضارة بينما هي في الواقع تتجه به نحو مايمسخ دوره الحضاري، عبر انهاء دور العقل المنطفىء في صخب من الانفتاح الفوضوي غير المنتج؟

يبدو أننا بحاجة ماسة لنمط جديد من العلاقات التي تنظم العلاقة بين وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي من جهة، والمتابعين والمستخدمين لهذه المواقع الاتصالية؛ حتى نضمن للإنسان مسارات معقولة تقبل بالمختلف وتأتلف في قيمة الاختلاف القابل للتوافق.

اضف تعليق