المقصود بالبيئة الثقافية مجموعة البنود الفكرية التي تحكم سلوك الإنسان، فإن كان سلوكه إنسانيا منضبطا تعاونيا يعود هذا الى البيئة الثقافية التي تشكلت فيها شخصيته، وفي حال تم إهمال الثقافة الفكرية الملتزمة، فإن حالة الانفلات هي التي ستحكم سلوك الشاب أو المراهق أو الرجل الكهل، والمجتمع على نحو عام، فالثقافة ومضامينها الفكرية هي التي تضبط الإيقاع السلوكي المتعدد الأوجه للفرد.
بالطبع هنالك أنواع متعددة للبيئة، فقضية ضبط السلوك على وفق ثقافة محددة، يمكن لبيئات أخرى أن تؤثر فيها، مثل البيئة الطبيعية، حيث تتشكل شخصية الإنسان تبعا لتأثير المناخ فيها، فإذا كانت المنطقة الجغرافية حارة، يولد الإنسان بطبع حاد سريع الغضب وجاهز للمشادات والعراك دائما، أما المولود في المناطق الباردة فإنه يكون أكثر هدوءا وأكثر قدرة في مجال السيطرة على أعصابه وسلوكه.
عن هذا التأثير للبيئة الطبيعية والجغرافية نقرأ ما يقوله الإمام الشيرازي:
(للبيئة الطبيعية أثر كبير على حياة الإنسان، فمن كان يعيش بعيداً عن الشمس في طرف الشمال أو الجنوب ـ مثـلاً ـ حيث يبرد الهواء هناك ليصل إلـى ما يقارب الثلاثين تحت الصفر أو أكثر، نلاحظ أثر ذلك في أمزجتهم الباردة وأخلاقهم عادة. أما مَـن كان قريباً من خط معدّل النهار ومن خط الاستواء فإن أمزجتهـم تصبح حارة وبشرتهم مائلة إلى السواد، لكثرة تعرضهم لأشعة الشمس وربّما تغلظ شعورهم ومشاعرهم ليغلب عليها حدَّة الطبع./ المصدر كتاب الفقه: البيئة).
أما البيئة الثقافية فإنها تؤثر بشكل فعال في تكوين شخصية الإنسان، وإذا عرفنا بأن الثقافة تتكون من حزمة معارف وعقائد وعلوم وقوانين وأعراف وأخلاق وعادات منقولة من جيل الى جيل، فإن التأثير الهائل للبيئة الثقافية سيكون ذا حضور منقطع النظير في تفكير وسلوك الفرد، وتنعكس تفاصيل هذه البيئة على كل حركة تبدر من الإنسان، ولا نخطئ إذا قلنا بأن البيئة الفكرية الثقافية هي العنصر الحاسم في تحديد طبيعة ونوع السلوك الفعلي للفرد، ويبدأ ذلك منذ الولادة ويعتمد على نوع البيئة التي يترعرع فيها الإنسان بأدق تفاصيلها.
يوجد نص آخر للإمام الشيرازي يؤيد ما نوّهنا به في أعلاه، يقول فيه سماحته: (للبيئة الثقافية تأثيرٌ في تنشئة الإنسان، وقد ذكر علماء النفس تأثير الثقافة على الجنين، فكيف بالوليد؟ ونقصـد بالبيئة الثقافية المعرفـة والعقائد والعلـم والقانون والأخلاق والعُرف والعادة وما أشبه ذلك./ المصدر السابق).
ولا يمكن الفصل بين البيئة الثقافية والطبيعية، فهناك تشابك حاد بينهما، لدرجة يصعب معها تفكيك البيئة الثقافية وعزلها عن البيئة الطبيعية، وكما يُقال دائما، فإن الإنسان ابن بيئته التي نشأ وترعرع فيها، لذا يظهر تأثير البيئة الثقافية بقوة في سلوك الفرد وقبل ذلك في تفكيره المحكوم بالبيئة الثقافية التي تدفع به في اتجاه محدد سلفا، علما أن هناك مشكلة أخرى تتعلق بالعلاقة بين الإنسان والبيئة التي يتواجد وينشط فيها.
هذه المشكلة بدأت بوادرها تظهر مع ظهور الثورة الصناعية في أوربا، أي مع انطلاقة الثورة الفرنسية وبداية العصر الصناعي الحديث، وتكاثر مصانع الحديد الصلب وصناعة السفن والقطارات، واكتشاف السيارات، ومن ثم المعدات العسكرية الهائلة من حيث الحجم والعدد، كل هذه المكتشَفات حوّلت العالم الزراعي البسيط، الى عالم أكثر تعقيدا وتشابكا، وبدأت مرحلة العبث بالبيئة والتجاوز على أنظمتها الطبيعية، فتضاعف انبعاث الغازات وبدأت السماء تتلبد بموجات هائلة من عوادم السيارات والقطارات والسفن والمصانع التي ملأت الأرض.
ويُضاف الى العوامل السابق ذكرها، انتعاش العصر الاستعماري وانتشار تجارة الرق والعمالة الرخيصة أو ما يسمى بعمالة (السخرة) أي العمل بلا أجور، فأدت كل هذه الأسباب مجتمعة الى التلاعب المخيف بالبيئة الطبيعية، نتيجة لانحلال البيئة الثقافية الفكرية الأخلاقية للعالم المتقدم آنذاك.
إن المتابع الحصيف يمكنه الإحاطة بالأدلة التاريخية التي تثبت تورط النخبة البشرية بتدمير البيئة الطبيعية، وهو ما نتج عن انحراف في البيئة الثقافية، فلولا تدهور القيم الإنسانية، كنتيجة منطقية لتدهور البيئة الثقافية، لما تجرّأ الإنسان على الإساءة للبيئة الطبيعية، وكان من واجب النخب الثقافية الفكرية أن تمنع العبث بالبيئة الطبيعية أياً كانت الأسباب التي تقف وراء ذلك، فمبررات التطور الصناعي لا يجب أن تتم على حساب تدمير البيئة الطبيعية.
وقد أشار الإمام الشيرازي في وقت مبكر الى النتائج السيئة التي طالت عالمنا الجديد فقال في وقتها: لقد (تدخُّل الإنسان في قوانين البيئة التي سنها الخالق عزّ وجل، وإخلاله بتوازن عناصرهـا ومكوناتهـا بحيث تكون حينئذ ضارة للإنسان أو الحيوان أو النبات أو ما أشبه ذلك. فقد كانت للثورة الصناعية التي قامت على أساس علماني آثار مدمّرة على البيئة، حيث دمرّت مقوَّمات الحياة في الهواء والماء والتربة والغذاء).
وقد ينتظر بعضهم نوع الخلاص الممكن من هذه النتائج المرعبة التي تمخضت عن حالات التجاوز على البيئتين الثقافية والطبيعية، وبعد أن فات الأوان، بدأت الدول الكبرى والمنظمات المناخية المعنية تجتمع بشكل دوري للتباحث حول الطرائق والسبل المزيلة للمخاطر التي تهدد كوكبنا بسبب عبث الإنسان.
وآخرها مؤتمر باريس للمناخ، والمحاولات التي قيل أنها قد لا تكون ذات نتائج فعالة في معالجة أخطاء البشرية تجاه الطبيعة بسبب اللهاث وراء الإنتاج الصناعي والسباق التكنولوجي، والحقيقة أن الحال لا يتعلق بالتطور الصناعي والتكنولوجي بقدر ما يتعلق بتحقيق أعلى نسبة من الأرباح المادية وكنز الذهب والأموال في خزائن خفية، وكل هذا يجري على حساب حقوق البشرية جمعاء وخصوصا الطبقة الأكثر فقرا في الأرض.
بالنتيجة توجد حاجة ماسة الى إعادة النظر في الكثير من أفكار وسلوكيات البشر على المستوى العالمي، وأهمها أن تكون هنالك صياغات مختلفة للتعامل مع البيئة الطبيعية، ولكن ينبغي أن نبدأ بصيانة البيئة الثقافية عالميا، فعندما نصون الثقافة ونشذبها من أدرانها، سوف تتحسن البيئة الطبيعية ويكون من الممكن العيش في حيز جغرافي نقي خالٍ من عوادم وغازات حضارتنا الراهنة.
اضف تعليق