اقترن مفهوم المواطنة بالمفاصل التاريخية التي شهدت نضالاً من أجل قيم الحرية والعدل والمساواة والانصاف، قبل أن يتطور تدريجياً ويدخل في الأدبيات السياسية والفكرية. وقد تنوعت افرازات هذا المفهوم بحسب الظروف السياسية وظهور التيارات الفكرية المختلفة، وبطبيعة الحال، لايمكن تحليل تلك الافرازات من دون ملاحقة الظروف المرحلية زمانياً ومكانياً بأبعادها السياسية والتربوية والإيديولوجية.
وقضية تأصيل مفهوم المواطنة؛ لابد أن تأخذ بنظر الاعتبار أنه لم ينشأ من حاضنة أحادية الفكر، انما نشأ في ظل حواضن متعددة تلتقي وتبتعد. ومهما يكن فإن مفهوم المواطنة يمثل الوعاء الأكبر والجامع لمختلف المسميات التي تخرج من معطفه، ويقوم بتأطير هذه المسميات بصيغ نظامية تلتقي عند المصلحة الأكبر والأهم وهي مصلحة الوطن. ومن أهم المعطيات والأبعاد التي يتكامل فيها مفهوم المواطنة: الهوية، الانتماء، التعددية.
فاعلية العلاقة بين الفرد والمجتمع
وتلعب العلاقة الإيجابية بين الفرد ومجتمعه دوراً محورياً وأساسياً في عملية تحوله إلى مواطن وفق المعطيات والأبعاد التي تحدثنا عنها، مكتسباً صفةً مدنية تُكسِبهُ فاعلية ونشاطاً. والأكيد أن التصاق الفرد بقضايا مجتمعه والتفاعل معها؛ هو ما سيعزز مواطنته ودوره بشكل أكبر وأهم من طبيعة العلاقة التي تربطه بالدولة، على أهمية هذه العلاقة طبعاً في حال كانت بعيدة عن المصالح التي تُضيِّق من مساحات التمية المجتمعية بسبب تداعياتها المختلفة.
والسبب في أن علاقة الفرد بالمجتمع تعزز المواطنة أكثر من العلاقة بالدولة؛ هو أن العلاقة الثانية (المواطن/ الدولة)؛ تتأثر بنظرة الدولة لقضية الحريات، والمرتبطة أساساً بمفهوم الديموقراطية ، وليس جديداً القول أن ثمة رؤى وتنظيرات وشروحات متعددة لهذا المفهوم العائم تتباين من رقعة جغرافية إلى أخرى، ما يعني أن الفرد في الدولة (سين) مثلاً قد يكون مواطناً؛ لأنه تماهى مع نظرة الدولة للديموقراطية والحريات، بينما لايكون الفرد في الدولة (صاد) مواطناً ؛ لعدم انسجامه مع ذات المفهوم أو طريقة شرح المفهوم من قبل الدولة. وهكذا سنكون أمام مأزق تصنيفي، يتلخص في تأكيد مواطنة (سين) وإنكار مواطنة (صاد).ومثل هذا المأزق يحضر بقوة في بلداننا الشرقية رغم أنها تدعي الديموقراطية القائمة على القبول بالاختلاف والحوار في النقاط غير المتفق عليها ما يتيح متسعاً لمساحة الحريات ، لكن هل هذه هي الحقيقة؟
في الخليج مثلاً، نقرأ كتابات وتنظيرات للعديد من المفكرين الليبراليين ذات الصلة بقضايا مجتمعاتهم ، وهو أمر لاشك إيجابي، غير أن كتاباتهم تأخذ شكلاً أحادياً يتمثل في الانتقاص من خصوصيات مجتمعاتهم التي يريدون لها أن تتحول برمشة عين إلى مجتمعات تشابه المجتمعات الأوروبية ضاربين بعرض الجدار القيم والعادات والتقاليد ، بينما لانراهم يتطرقون إلى مسؤولية الدولة والأنظمة الحاكمة في تعزيز التخلف المجتمعي الذي تنوء بلدانهم تحت وطأته، ولا للأسباب التي تجعل من مجتمعاتهم متأخرة على صعيد الفكر والثقافة ، ولا لرؤية الأنظمة الحاكمة للديموقراطية إن كانت هناك ديموقراطية أصلاً .
وفي الحقيقة، فإن مثل هؤلاء المثقفين والكتاب الذين يدّعون اللبرلة والانفتاح والتحرر ليسوا سوى بيادق سلطوية لتدجين الأفراد، وآخر شيء يمكن التفكير به هو قضية صنع المواطن في داخل الفرد المجتمعي، وهذا ماتجلى بوضوح خلال الأزمة الأخيرة بين السعودية وقطر حيث المناوشات الكلامية وارتفاع حدة التصريحات والتصريحات المضادة على خلفيات سياسية ، أي تتعلق بالدولة وسياساتها ومصالحها ، وشاهدنا كيف أن النخب الثقافية في البلدين ضجت بتنظيراتها المنحازة لأنظمتها دون التطرق إلى الخطر الذي قد يصيب هوية المواطنين وعلاقاتهم المتشابكة في هذه المنطقة النفطية المثيرة للجدل. بل أن مثقفين وكتاب آخرين من دول أخرى تطوعوا للدفاع عن موقف معين دون آخر وبطريقة التكسب الرخيص لإرضاء هذا الملك أو ذاك الأمير ليتجه الصراع إلى مرافق لا علاقة لها بالصراع السياسي أصلاً كما في قضية طلب الاتحاد الإماراتي بتغيير حكم مباراته مع منتخب قطر، ربما لأن الحكم ينتمي لدولة لا علاقة لها بالصراع بين قطر ومعارضيها الخليجيين الجدد!
والسؤال هنا: إذا كنا نتعامل بهذه العقلية، كيف لنا أن نرسخ قيمة المواطنة في نفسية الفرد؟
تهيئة الأجيال اللاحقة
الدور الذي تلعبه الثقافة، والدور الذي يلعبه العلم، والنظام التربوي؛ هو مايجب أن نعول عليه في قضيتنا التي نناقشها هنا وهي قضية المواطنة، ولابد لنا أن نولي اهتماماً مضاعفاً في قضية تنمية الأجيال على أسس صحيحة متخلصة من شوائب الماضي ومن عقده ومخلفاته، خصوصاً تلك التي أشعلت المنطقة وهددت قيم السلم والتسامح والتعايش، وصار لمظاهر العنف الحضور الأبرز. وأول مايجب البداية به هو تطوير الأنظمة التعليمية بما ينسجم والنظرة العصرية للحريات ، فالحصول على الموارد البشرية والطبيعية والمفكرين والمثقفين ؛ لايمكن أن ينتج مواطنة من دون أن يكون هناك أساس لنظام تعليمي وتربوي يهتم بتنشئة الأجيال، مدعوماً بمجتمع مدني متطور، ونظام ديموقراطي يرى الديموقراطية من خلال مفهومها الحقيقي وليس من خلال نظرته المعتمدة لمصالح فئات أو أشخاص أو إيديولوجيات، ولعل تجربة سقوط الاتحاد السوفياتي السابق ماثلة أمامنا وهي الدولة العظمى التي كانت تمثل مع الولايات المتحدة الأمريكية قوتان عالميتان كبيرتان، فمع كل ماتمتلكه من موارد سقطت ؛ بسبب نظرتها الضيقة التي كانت ترى في غير الشيوعي أو غير المنسجم مع الشيوعية عدواً يهدد النظام، وبذلك قلصت من فرص الانفتاح على الطاقات الانسانية الخلاقة والمبدعة والتي ستقود إلى مجتمع متطور ومزدهر. لذلك يلزم الاستفادة من التجارب السابقة، والعمل على إيجاد نظام تربوي لايعتمد تذويب الفرد في الجماعة على حساب طاقاته وقدراته، نظام لايقدم الجماعات على الأفراد حسب منطق الانقياد الأعمى سياسياً وفكرياً واقتصادياً وثقافياً.
اضف تعليق