q

تسود في عالمنا اليوم ظاهرة الـ (أنا)، وهي تؤصل حالة من الفردانية التي تعبث بممكنات الحياة اليومية البسيطة للإنسان ، مايجعل الذات الانسانية تشعر بعدم الارتياح وبالضبابية والتشوش في كثير من مفاصلها. وظاهرة الأنا في الحقيقة ليست جديدة أو دخيلة على واقعنا الانساني ، بل أن كثير منها يكاد يبسط حضوره على الذاكرة من خلال حضورها اللافت في منجز الأدب العربي وغيره خصوصاً في الأنا المتعالية في قصائد أبي الطيب المتنبي وأبي العلاء المعري ، فضلاً عن سجالات الهجاء الكثيرة بين جرير والفرزدق، وغيرها من شواهد طغيان الأنا. وغريزة حب الذات متلازمة مع السلوك البشري وتبدو في حال السيطرة عليها أمراً طبيعياً، لكن إذا وصلت لمراحل أعلى فأنها ستشكل آفة مجتمعية ربما يتطور إلى وباء ينخر في الجسد المجتمعي لدرجة استحالة علاجه من هذه الآفة الخطيرة.

وعلى الأغلب، فإن النرجسية المفرطة تظهر في المجتمعات المتخلفة ، حيث غياب سلطة القانون، وسيطرة مظاهر الفساد، وغياب المناهج التعليمية الناضجة . كل هذه الإشكاليات تؤدي بالنتيجة إلى انتاج أفراد مأزومين يعملون على تضخيم ذواتهم حد التورم مستغلين حالة الجهل التي يقع المجتمع تحت تأثيراتها.

وإذا كانت ظاهرة الأنا مقتصرة على طبقات النخب والفعاليات الثقافية والفكرية؛ فإنها اليوم وبسبب الفضاء الاتصالي الالكتروني الحديث امتدت لتشمل فئات كثيرة في المجتمع، إذ رسخ الاستخدام العشوائي والفوضوي لمواقع التواصل الاجتماعي حيث السعي لحب الظهور والبروز في فضاء مجاني يتيح كل أشكال الفوضى وكأنه يعمل على إعادة انتاج أسباب التجهيل لكن بشيء من الحداثة التقنية والاتصالية. وعلى الرغم من التسمية الشائعة لهذه المواقع ( وسائل التواصل الاجتماعي ) ؛ إلا أننا نلحظ أنها أسهمت في ترسيخ عزلة الذات لكنها (عزلة جماعية) فالكل تقريباً متواصلون مع منطق العزلة، وبالتالي فإن هذا المنطق سيبث ذبذبات الأنا قتتلقفها الذات الابشرية بكل سعادة ومقبولية .

وبحسب مختصين في علم النفس؛ فإن الأنا عبارة عن تفاعل مستمر ومتحرك مابين الماضي والحاضر، ودائماً تكون في حالة إعادة صياغة؛ لتنسجم مع القيم المعرفية الجديدة.

وعندما نريد تنقية الأنا من مشاكلها وترسباتها السلبية؛ لابد من الأخذ بنظر الاعتبار أن حالة الصراع والغليان التي تعيشها هي حالة طبيعية وجزء من الفطرة التي فطر الله الإنسان عليها، غير أن الخوف هو في تحول هذا الصراع أو هذا الغليان فيها إلى نسق يحدث شرخاً في العلاقة بين الأنا الفردية والأنا المجتمعية وعندئذ يتحول هذا النسق إلى مرض يستلزم العلاج الذي سيكون لاشك صعباً؛ لفقدان قيمة التنوع والقبول بالأنا الأخرى.

ليس لنا أن نخاف أو نقلق من تعددية الأنا وتنوعها، بل وحتى في اضطرابها؛ لأنها ستصل لنتيجة في آخر صراعاتها، وستعمل على حل كثير من الإشكاليات بين الماضي والراهن شريطة تفاعلها مع مايتشكل من أنوات أخرى، هذا التفاعل سيقود إلى اكتشاف الخلل والعمل على إصلاحه، ويمهد الطريق لحالات أكثر توازناً وانسجاماً ومصالحة مع الذات.

ومثلما تلعب فوضى الميديا في ترسيخ ظاهرة الأنا المتعالية والمتضخمة، ثمة عوامل أخرى تلعب ذات الأدوار، وتتمثل بأشكال التطرف المنقسمة بين انفتاح مجاني وتشدد منغلق، الأمر الذي يعيد إشكالية العلاقة بين الانغلاق والانفتاح، بين مجانية يتيحها الأول، وتشدد يقوم عليه الثاني في غياب تام لحالة الوسطية. وأمام هذه الإشكالية المعقدة تتضخم الأنا المنفتحة في مواجهة الأنا المتشددة لتنتعش القيم العنفية على صعيد الأفكار، وطبعاً فإن فوضى الميديا ستجعل من نفسها مسرحاً مجانياً لهذا التصارع غير العقلاني وغير المفضي لأية نتيجة يمكن الخروج منها بحصيلة فكرية أو معرفية أو ثقافية؛ لذلك لابد من السعي للوصول لحالة وسطية تعمل على حلحلة التشدد الإنغلاقي من جهة، وإيقاف أمواج المجانية الانفتاحية من جهة أخرى .

والمقصود بالوسطية التي ننشدها هنا هو التعامل مع الذات/ الأنا على أنها إرادة وعلم وحكمة، فضلا عن القدرة على استلهام الواقع واستقراء مشكلاته وصولا لعملية منطقية في صناعة الحلول، ومن المهم اعتبار الأنا هوية يمكن للفرد توجيهها لو تعامل معها بمضامين الوسطية التي تحدثنا عنها مزاوجاً بين المفاهيم القديمة والمعاصرة لها فهي العقل والادراك والصدق والبساطة ، يقول سقراط: "الذات هي الوعي والادراك الحسي الذي يتكون من جراء البحث وراء العلة الأولى للأشياء والفعل الأول للوجود". وهنا تكمن أهمية التقصي والبحث عن الحقائق وذلك بتحقيق التكامل والتفاعل بين الأنا الفردية والأنا الجمعية ، ولحظة الوصول إلى هذه النقطة من الوعي سيكون من الصعب إن لم نقل من المستحيل على كل الفضاءات الفوضوية ممثلة بالميديا بشقيها المجاني المنفتح، والإنغلاقي المتشدد أن تعمل على انتاج أنوات متعالية تتضخم ، والتقصي الجاد والمستمر سيقود لثورة نقدية هائلة تعري عوامل الفردانية غير الناضجة بالأنا التنويرية التي تجيد قراءة نفسها بعيداً عن عتمات التطرف والتجهيل.

اضف تعليق