من الموارد التي ألقت هذه الفاجعة الأليمة بظلالها عليه بوضوح هو الشعر والشعراء، ويمكن القول: إن الشعر والشعراء من بعد فاجعة عاشوراء شهدا انعطافة كبيرة لا نظير لها في تأريخ البشرية. وكأنّ هذه الفاجعة نزلت على قرائح الشعراء وأروتها من معين حزنها وحماستها وثقافتها الأصيلة فجعلتهم ينظمون البدائع...
لم تكن فاجعة عاشوراء مجرد حدث مأساوي وقع في حقبة من الزمن ثم اندرست معالمه ولم يبق منه سوى نقل الحدث في طيات التأريخ، بل هي واقعة حيّة امتدت بظلالها على الكون بأسره وتركت بصماتها جلية في كثير من المجالات.
ومن الموارد التي ألقت هذه الفاجعة الأليمة بظلالها عليه بوضوح هو الشعر والشعراء، ويمكن القول: إن الشعر والشعراء من بعد فاجعة عاشوراء شهدا انعطافة كبيرة لا نظير لها في تأريخ البشرية.
يقول الدكتور أحمد أمين: ثورة الحسين مادة خصبة استطاع أُدباء الشيعة أن يستغلوها في فنهم استغلالاً واسعاً أمدّ الأدب الشيعي بثروة ضخمة من القصائد (1).
بالطبع لا يكاد ينكر دور الشعر الشيعي بشكل عام وجودته وتأثيره على المجتمعات خاصة العربية منها قبل حادثة عاشوراء ولكن من بعد الطف شهد الشعر الشيعي انعطافة جديدة.
ولا أتصور أن هناك حادثة في التأريخ الإسلامي بل في تأريخ البشرية أغنت الشعر وقدّمت للشعراء مادّة ودعماً كفاجعة الطف، وكأنّ هذه الفاجعة نزلت على قرائح الشعراء وأروتها من معين حزنها وحماستها وثقافتها الأصيلة فجعلتهم ينظمون البدائع من المعاني على مر العصور.
يقول السيد محمد حسن آل الطالقاني حول أثر واقعة الطف على الرثاء والشعر: ونحن إذا نظرنا إلى أدب الرثاء بعد واقعة الطف المروعة، وما نزل فيها بأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله) من خطوات وكوارث، من استشهاد الحسين بذلك الشكل المفجع وقتله على أيدي أولئك اللئام -قتلة لا يزال يرعد من هولها الدهر- كما قاله الأستاذ الزيّات، وإبادة أهله وأولاده وأصحابه، وسبي نسائه الخفرات من ودائع النبوة وعقائل الوحي، تلك الفجائع المؤلمة والأحداث الكبار التي خرجت على كل التقاليد، وسحقت النواميس البشرية بهتكها الحجب وإباحتها الحرمات، واستهانتها بالإنسانية وكل ما يمت إلى الشرف والمثالية بصلة، إننا إذا نظرنا إلى أدب الرثاء بعد تلك المآسي وجدناه قد اكتسى ثوباً جديداً وظهر بصورة تختلف عن سابقتها بما فتح فيه من أبواب جديدة وما دخل عليه من توسّع في الأفق وتطور ملحوظ، فقد جاء بوصف دقيق وتصوير حي يكاد يحس القارئ منه أنّ دم النبوة ما يزال ينزف في كلمات البيت وحروفه، حيث أصابت تلك النازلة قلوب العلويين وسائر شيعة أهل البيت فأحرقتها، وفجّرت قرائحهم فجادوا بالروائع الخالدة، وفاضت نفوسهم بالألم واللوعة والحزن والمرارة، ونظموا في وصف تلك المجزرة الفظيعة والمواقف المشجية، والمشاهد المؤلمة، مايصدع القلوب، ويفتّت الجلاميد، ويبعث الوجد، ويستنزف الدمع (2).
الملفت للانتباه أنّ السلطات والحكومات الجائرة منذ قتل الإمام الحسين (عليه السلام) حاولت أن تقف دون إنشاد الشعر فيه ولكنها لم تفلح، وإلى هذا المعنى يشير أبو الفرج الاصفهاني في (مقاتل الطالبيين)، فقال: كانت الشعراء لا تقدم على رثاء الحسين (عليه السلام) مخافة من بني أمية وخشية منهم (3).
ونقل الشيخ القمّي (رحمه الله) في كتابه (الكُنى والألقاب) في أحوال عوف الأزدي، قال: عوف بن عبد الله ابن الأحمر الأزدي شهد مع علي (عليه السلام) صفين وله قصيدة طويلة رثى بها الحسين (عليه السلام) وحض الشيعة على الطلب بدمه وكانت هذه المرثية تخبأ أيام بني أمية وإنما خرجت بعد، كذا قال ابن الكلبي (4).
نعم، بالرغم من تلك المضايقات إلا أنّ ألوف الشعراء أخذوا يرثون الحسين (عليه السلام) ويندبونه بلغة الشعر رغم المخاطر والمضايقات التي لاقاها العديد منهم، ولذا كان المعصومون (عليهم السلام) يكرمون الشعراء المجاهرين بندبة سيّدالشهداء (عليه السلام) ويثنون عليهم أشد الثناء ومن ذلك ثناء الإمام الباقر (عليه السلام) على الكميت لما أنشده قصيدته: من لقلب متيّم مستهام.
فلما فرغ منها قال له الإمام (عليه السلام): لا تزال مؤيداً بروح القدس ما دمت تقول فينا (5).
رسالة الشعراء في فاجعة الطف
قبل أن نتعرّض إلى رسالة الشعراء في فاجعة الطف ونسلّط الأضواء على دورهم الريادي لا بأس أن نشير إلى حقيقة مهمة وهي أنّ الشعراء كانت لهم مكانة خاصة في المجتمعات وتأثير كبير على الشعوب.
وبعبارة أخرى كان الشعراء بمثابة اللسان الصادع والإعلام الناطق الذي ينقل للمجتمع المعلومات ويغذّيهم بالثقافة سواء أكانت تلك الثقافة والمعلومات واقعية أو مضلّلة.
وكانت الشعوب والمجتمعات عبر العصور تتردّد على الشعراء وتتلقّى منهم منظوماتهم، بل كانت للشعراء مكانة خاصة عند السلاطين والملوك وحكايات كثير منهم مدوّنة في موسوعة (الأغاني) لأبي الفرج الاصفهاني.
ولا يُنكر أنّ كثيرا من الشعراء لم يكونوا من أهل الصلاح، بل كانوا من حواشي السلاطين وندمائهم إلا أنّ ثلّة منهم كانوا من موالي أهل البيت (عليهم السلام)، وكان لهم دوراً ريادياً في شدّ الناس إلى المعصومين (عليهم السلام).
ويمكن بيان رسالة الشعراء الموالين في عصر المعصومين (عليهم السلام) من خلال عدة محاور ومنها:
1- أنهم كانوا لسان أهل البيت (عليهم السلام) مع الرعية فيوصلون كثيرا من فضائلهم ومظلوميتهم للناس.
2- أنهم كانوا يدعون إلى أهل البيت (عليهم السلام) من خلال أشعارهم المليئة ببيان مناقبهم.
3- أنهم كانوا ينفّسون عن الشيعة المضطهدين الذين كانوا يتعرّضون للكبت والضغوطات من خلال نظمهم وبيان ظلامة أهل البيت (عليهم السلام) وغصب وحقوقهم وجور الولاة عليهم أولاً وبالذات، والإشارة إلى ظلامة الشيعة بشكل عام وكيف أنهم يدفعون ضريبة ولائهم لأهل البيت (عليهم السلام) ثانياً وبالتبع.
4- أن بعض الشعراء الموالين كان يُعرّض بالحكام ويكشف عن مساوئهم ولذا كان الشيعة المضطهدين منهم يتقبّلون أشعار أمثال هؤلاء ممن حملوا همومهم وشاطروهم في مظلوميتهم.
يقول السيد محمد حسن آل الطالقاني عمّا نزل بالشيعة من ويلات وتوارثهم المحن وأثر ذلك على أشعارهم: وقد توارث شيعة أهل البيت (عليهم السلام) آلامهم المضنية وآمالهم الجسام خلفاً عن سلف، وجيلاً بعد جيل، وظل شعراؤهم عبر القرون يرسلون العبرات وينفثون الأحزان، ويرثون سادة البشر وقادة الأمة، وينعون مجد الرسول الذب أضاعه شرار أمته، وودائعه التي خانتها الأيدي المجرمة، ودم ذريته المهراق ظلماً وعدواناً... فقد فتقت تلك المآسي قرائحهم وألهبت الفجائع عواطفهم فاستنبطوا معاني جديدة ونهجوا مذاهب شتى أفادت الأدب ولغة العرب...
وقال الدكتور أحمد أمين: وشيء آخر لوّن الشعر الشيعي بلون خاص وهو كثرة ما توالى بينهم من الأحداث الفظيعة من قتل وحبس وتشريد، فحادثة علي والحسين وغيرهما من الحوادث الكثيرة جعلت شعرهم في كثير من الأحيان شعراً حزيناً باكياً، يستثير البكاء ويستنزف الدمع فجمع أدبهم بين القوة والضعف واللين والعنف، فبينما ترى شعراً قوياً يحرّض على قلب الدولة ويثير الغضب ويبعث على القتال ويشهّر بالأعداء إذ ترى شعراً ليّناً باكياً يعدّد مآثر المظلومين (6).
عوامل إبداع شعراء الطف
ولسائل أن يسأل عن العوامل التي جعلت شعراء الشعر الحسيني يبدعون في نظمهم، فنقول له:
هناك مجموعة عوامل ساقت الشعراء إلى النظم والإنشاد في فاجعة الطف ومنها:
1- تأثير الواقعة:
فقد تركت مأساة عاشوراء على نفوس البشرية آثارها وخلّفت من الحزن والأسى ما جعل كثيرا من الشعراء يتفاعلون مع أحداثها لا إراديا دون أن ينظروا إلى العطاء المادي أو الأجر الأخروي، وكما قال الشاعر:
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة-----لكن عيني من أجلك باكية.
تبتل منكم كربلا بدم ولا-----تبتل مني بالدموع الجارية
أنست رزيتكم رزايانا التي-----سلفت وهونت الرزايا الآتية
وقد أبدع الشعراء في إظهار تفاعلهم وتأثّرهم بهذه المأساة وأثروا عالم الشعر بالكثير من الصور التي قلّ نظائرها في عالم الشعر.
يقول الأستاذ الزيّات عن تفاعل شعراء الشيعة مع فاجعة الطف: وقتل الحسين قتلة لا يزال يرعد من هولها الدهر، وتلاحقت الفجائع الأموية فصرع زيد وقتل يحيى، وافتتنت المنايا الرواصد في اختلاج بني علي وهم يقابلون الغوائل الظاهرة والباطنة بالشجاعة والصبر والاحتساب، حتى اسفرت حول وجوههم طفاوة من التنزيه والتقديس، وتخلّلت محبّتهم قلوب المسلمين ولا سيما الشيعة... فاعتمدوا على استمالة القلوب وترفيفها بالبكاء والندب، وتصوير الآلام وإعلان الفضائل، فاصطبغ شعرهم بالحزن العميق والرثاء النائح، والمدح المبتهل، والعصبية الحاقدة، على أن هذه الخصائص لم تكن واضحة في شعر أوائل الشيعة وضوحها في شعر الأواخر منهم، فإنّ تغلغل الفكرة في أصل العقيدة، وتنكيل الحاكمين بآل البيت واضطهاد الولاة للشيعة، إنما تدرجت قسوة وقوة مع الزمن فضلا عن قلّة شعراء الشيعة في هذا العصر، لإفساد الأمويين الضمائر بالذهب والحديد، فشعرهم بدأ ولاء صادقاً، ومدحاً خالصاً، وهجاءاً مرّاً، ثم اشتدّ فصار مفاضلة جريئة، ومعارضة شديدة، ومناقشة فقهية، ودعاية حزبية (7).
2- العقيدة:
على الرغم أنّ معظم الشعراء وكعادتهم أنهم في كل واد يهيمون ولكن بين شعراء الشيعة ظهر كثير من أهل العقيدة والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) ووقفوا إلى جانب أهل البيت (عليهم السلام) وناصروهم بشعرهم وبيانهم.
يقول الأستاذ أحمد حسن الزيّات عن هذا الجانب: على أنّ من شعراء الأحزاب من قالوا الشعر عن عقائد دينية وعواطف نفسية، ونوازع عصبية، فكان لشعرهم جمال الإخلاص، وروعة اليقين، وقوة الحقيقة، أولئك هم الشيعة (8).
وعلى كل فقد ظهر الجانب العقائدي في شعر العديد من شعراء الطف ممّن أظهروا عقيدتهم الشيعية من خلال شعرهم، وكمثال على ذلك ما أنشده السيد جعفر الحلي (رحمه الله) قال:
رأى بأن سبيل الغي متبع-----والرشد لم يدر قوم أية سلكا
والناس عادت إليهم جاهليهم-----كأنّ من شرع الإسلام قد أفكا
وقد تحكم بالإسلام طاغية-----يمسي ويصبح بالفحشاء منهمكا
لم أدر أين رجال المسلمين مضوا-----وكيف صار يزيد بينهم ملكا
العاصر الخَمر مِن لُؤم بعنصره-----وَمِن خَساسة طبع يَعصر الودكا
هَل كَيفَ يَسلم مِن شرك وَوالده-----ما نَزعت حَمله هند عَن الشركا
لأَن جَرَت لَفظة التَوحيد في فَمه-----فَسَيفه بِسوى التَوحيد ما فَتَكا
قَد أَصبَح الدين مِنهُ شاكياً سَقما-----وَما إلى أَحد غَير الحسين شَكى
3- حث أهل البيت (عليهم السلام) في رثاء الحسين (عليه السلام):
وكان هذا جليا لكل من تتبّع سيرتهم (عليهم السلام) حيث كان المعصومون (عليهم السلام) يدعون الشعراء إلى ذكر الإمام الحسين (عليه السلام) ويبشرون كل من أنشد فيه بالمقامات الرفيعة ومن ذلك: ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: ومن أنشد في الحسين شعرا فبكى فله الجنة، ومن أنشد في الحسين شعرا فتباكى فله الجنة (9).
ولم يقتصر أهل البيت (عليهم السلام) على التحفيز المعنوي لشعراء الإمام الحسين (عليه السلام) من خلال بيان مقام من ينشد الشعر فيه بل كانوا يدعمونهم ماديا أيضاً ويبالغون في العطاء لهم ومن ذلك ما ورد عن صاعد مولى الكميت، قال: دخلنا على أبي جعفر محمد بن عليّ (عليهما السّلام) فأنشده الكميت قصيدته التي أولها: من لقلب متيّم مستهام.
فقال (عليه السلام): اللهم اغفر للكميت، اللهم اغفر للكميت.
قال: ودخلنا يوماً على أبي جعفر محمد بن عليّ (عليه السلام)، فأعطانا ألف دينار وكسوة، فقال له الكميت: واللَّه ما أحببتكم للدنيا، ولو أردت الدنيا لأتيت من هي في يديه، ولكني أحببتكم للآخرة؛ فأما الثياب التي أصابت أجسامكم فأنا أقبلها لبركاتها، وأمّا المال فلا أقبله، فردّه وقبل الثياب (10).
وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: شكوت إليه الحاجة، فقال: يا جابر، ما عندنا درهم.
قال: فلم ألبث أن دخل الكميت بن زيد الشاعر، فقال له: جعلني الله فداك أتأذن لي أن أنشدك قصيدة قلتها فيكم؟
فقال له: هاتها. فأنشده قصيدة أولها: من لقلب متيم مستهام.
فلما فرغ منها قال: يا غلام، ادخل ذلك البيت وأخرج إلى الكميت بدرّة، وادفعها إليه. فأخرجها ووضعها بين يديه.
فقال له: جعلت فداك، إن رأيت أن تأذن لي في أخرى.
فقال له: هاتها. فأنشده أخرى، فأمر له ببدرة أخرى، فأخرجت له من البيت.
ثم قال له: الثالثة. فأذن له، فأمر له ببدرة ثالثة، فأخرجت له.
فقال له الكميت: يا سيدي، والله ما أنشدك طلبا لعرض من الدنيا، وما أردت بذلك إلا صلة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، وما أوجبه الله علي من حقّكم.
فدعا له أبو جعفر، ثم قال: يا غلام، رد هذه البدر في مكانها. فأخذها الغلام فردها.
قال جابر: فقلت في نفسي: شكوت إليه الحاجة، فقال: ما عندي شيء، وأمر للكميت بثلاثين ألف درهم !
وخرج الكميت، فقال: يا جابر، قم فادخل ذلك البيت.
قال: فدخلت فلم أجد فيه شيئاً، فخرجت فأخبرته، فقال: يا جابر، ما سترنا عنك أكثر مما أظهرناه لك (11).
4- عامل المأساة:
وهو عامل مؤثّر جدا حيث انعكست آثار المأساة والحزن والفجيعة على نفوس الشعراء وظهر من خلال نظمهم الشجي الذي مزج بالجراحات والآهات التي يلامسها كل من يطلع على نظمهم.
ولا يكاد منصف ينكر مآسي الشيعة وما جرى عليهم من ويلات بعد فاجعة الطف وذلك لتعلّقهم بأهل البيت (عليهم السلام) وتفاعلهم مع ماجرى عليهم من ظلمات وويلات، فانعكس هذا الجانب المأساوي بل طغى على شعرهم.
ويظهر من بعض الأخبار أنّ المعصوم (عليه السلام) حرص على أن يكون إظهار المأساة بالرقّة لتنال المأساة منالها وتصيب أهدافها من النفوس، ويشهد لذلك أن أبا هارون المكفوف دخل ذات يوم على الإمام الصادق (عليه السلام) فقال له: يا أبا هارون أنشدني في الحسين (عليه السلام) فأنشدته، قال:
فقال لي أنشدني كما ينشدون يعني بالرقّة قال فأنشدته هذا الشعر:
أُمرر على جدث الحسين------فقل لأعظمه الزكية
قال: فبكى، ثم قال: زدني، فأنشدته القصيدة الأخرى، قال: فبكى وسمعت البكاء من خلف الستر، قال: فلما فرغت، قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام) شعرا فبكى وأبكى عشرة كتب لهم الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعرا فبكى وأبكى خمسة كتب له الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) شعرا فبكى وأبكى واحدا كتب لهم الجنة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عزّ وجلّ ولم يرض له بدون الجنة (12).
وعن أبي عمارة المنشد، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال لي: يا أبا عمارة أنشدني للعبدي في الحسين (عليه السلام) قال: فأنشدته فبكى، قال: ثم أنشدته فبكى، قال: فوالله ما زلت أنشده ويبكي حتى سمعت البكاء من الدار، فقال لي: يا أبا عمارة من أنشد في الحسين بن علي (عليه السلام) فأبكى خمسين فله الجنة، ومن أنشد في الحسين (عليه السلام) فأبكى أربعين فله الجنة (13).
وعن سفيان بن مصعب العبدي، قال: دخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال: قولوا لأُم فروة تجيء فتسمع ما صنع بجدها، قال: فجاءت فقعدت خلف الستر، ثم قال: أنشدنا قال: فقلت:
فرو جودي بدمعك المسكوب.
قال: فصاحت وصحن النساء، فقال أبو عبد الله (عليه السلام): الباب الباب، فاجتمع أهل المدينة على الباب، قال: فبعث إليهم أبو عبد الله (عليه السلام) صبي لنا غشي عليه فصحن النساء (14).-----
من بركات النظم الحسيني
لعب الشعر والشعراء دوراً عظيماً في إيصال صوت الواعية وتجسيد ما جرى على الإمام الحسين (عليه السلام) ومن كانوا في واقعة كربلاء ونقلوا للأجيال عبر العصور المختلفة أموراً كثيرة عن هذه الواعية نشير إليها باختصار ومنها:
1- نقل الأحداث:
وقد أبدع الشعراء في هذا الجانب ولم يتركوا وقائع عاشوراء تغيّبها الأقلام المزيفة والأيادي المأجورة بل نظموا في كل ما جرى فيها بدقة عالية، وكمثال على ذلك فقد وصف الحاج هاشم الكعبي (رحمه الله) مفردة من مفردات خروج العلويات بعد المصرع الشريف، فقال:
فأقبلن ربات الحجال وللأسى-----تفاصيل لا يحصى لهن مُفصّل
فواحدة تحنو عليه تضمّه-----وأخرى عليه بالرداء تُضلّل
وأخرى بفيض النحر تصبغ وجهها-----وأخرى تفدّيه وأخرى تُقبّل
وأخرى على خوف تلوذ بجنبه-----وأخرى لما قد نالها ليس تعقل
وأخرى دهاها فادح الخطب بغتة----- فأذهلها والخطب يدهي ويذهل
وجاءت لشمر زينب ابنة فاطم-----تعنفه عن فعله وتعذل
تدافعه بالكفّ طوراً وتارة-----إليه بطه جدّها تتوسل
أيا شمر هذا حجة الله في الورى-----أعد نظرا يا شمر إن كنت تعقل
2- التصوير الدقيق:
وهذا ممّا أبدع فيه شعراء الطف وتفنّنوا به حيث إنهم وبتصويرهم الدقيق وبخيالهم الرفيع الرائع فجّروا عواطف البشرية وأقرحوا جفون الموالين وكمثال على ذلك ما أنشده السيّد رضا الهندي (رحمه الله) قال:
صلّت على جسم الحسين سيوفهم-----فغدا لساجدة الظبا محرابا
ومضى لهيفا لم يجد غير القنا-----ظلا ولا غير النجيع شرابا
ظمآن ذاب فؤاده من غلّة-----لو مست الصخر الأصم لذابا
لهفي لجسمك في الصعيد مجردا-----عريان تكسوه الدماء ثيابا
ترب الجبين وعين كل موحد-----ودت لجسمك لو تكون ترابا
لهفي لرأسك فوق مسلوب القنا-----يكسوه من أنواره جلبابا
يتلو الكتاب على السنان وإنما-----رفعوا به فوق السنان كتابا
3- الحماسة:
وقد وجد أصحاب هذا الطراز من النظم في فاجعة الطف الكثير من المعاني الحماسية التي جعلوها كمادة خصبة في نظمهم الحماسي الذي ألهبوا به العالم.
فمن أبيات للسيد جعفر الحلي (رحمه الله) يستعرض فيها حماسة أبي الفضل العباس (عليه السلام) وبطولته الحيدرية، قال:
عبست وجوه القوم خوف الموت-----والعباس فيهم ضاحك متبسم
قلب اليمين على الشمال وغاص في-----الأوساط يختطف النفوس ويحطم
وثنى أبوالفضل الفوارس نكصا-----فرأوا أشد ثباتهم أن يهربوا
ما كرّ ذو بأس له متقدما-----إلا وفرّ ورأسه المتقدم
بطل تورث من أبيه شجاعة-----فيها أنوف بني الضلالة ترغم
أوتشتكي العطش الفواطم عنده-----وبصدر صعدته الفرات المفعم
في كفه اليسرى السقاء يقله-----وبكفه اليمنى الحسام المخذم
قسما بصارمه الصقيل وإنني-----في غير صاعقة السما لا أقسم
لولا القضا لمحا الوجود بسيفه-----والله يقضي ما يشاء ويحكم
4-التشبيه:
وهو عالم آخر قدّم فيه شعراء الطف صورا فريدة قلّ نظائرها في عالم التشبيه الشعري.
يقول الجواهري في أبياته:
وطفت بقبرك طوف الخيال-----بصومعة الملهم المبدع
كأن يداً من وراء الضريح-----حمراء مبتورة الاصبع
تمد إلى عالم بالخنوع-----والضيم ذي شرق منزع
لتبدل منه جديب الضمير-----بآخر معشوشب ممرع
وقال شاعر آخر:
فانقضّ مثل الصقر شام فريسة-----وجلا الصفوف وجال في الأرجاء
حتى إذا دفع العدى عن شبله-----آوى إليه بلوعة وبكاء
وقال آخر:
الدهر عبدك والخلود والحواري-----فاهنأ بنصرك يا أبا الأحرار
وإذا الحسين وصحبه من حوله-----عزم يصم مصارع الأعصار
سبعون بدرا ما رأيت نضيرهم-----إلا ببدر من أسود الغار
خرّو على وجه الثرى فكأنما-----شاهدت فيهم مصرع الأقمار
5- التظلّم:
وقد أجاد شعراء الشيعة هذا الجانب من الشعر وجسّدوه بأرقى معانيه وذلك لتفاعلهم مع واقعة الطف ومعايشتهم الظلم والاضطهاد الذي لاقوه من الحكومات الجائرة والسلطات الباغية.
يقول السيّد مهدي الأعرجي (رحمه الله):
حتّى مَتَى أَجْفَانُنَا عَبْرى-----وَإِلى مَتَى أَكْبَادُنَا حَرّى
قَدْ حَلَّ فِينَا يَا ابنَ بِنْتِ مُحَمَّدٍ-----مَا لَم نُطِقْ فِي حَمْلِهَا صَبْرا
نَهْضَاً فَقَد كَادَت شَريعةُ أحمَدٍ-----تُمحَى وتَنشَأُ شِرعةٌ أُخرَى
طالَ احتجابُكَ سيدي مَا آنَ أنْ-----نَحظَى بتلكَ الطلعةِ الغرّا؟!
6- العتاب:
وفي العتاب تفرّد كثير من شعراء الطف وبرعوا في أشعارهم وهو ليس بعجيب منهم إذ إن كثيرا منهم امتزجت نفوسهم بمآسي الطف واختلطت أرواحهم بوقائعها فألفوها وألفتهم.
وكشاهد على براعة شعراء الشيعة في العتاب قول الشاعر معاتبا المولى أميرالمؤمنين (عليه السلام):
وبليلةٍ نحوَ المدائنِ قاصدا-----فيها لسلمانٍ بعثت مغسلا
يا ليت في الإحياء شخصَك حاضرٌ-----وحسينُ مطروحٌ بعرصة كربلا
عُريانَ يكسوه الصعيدُ ملابسا-----أفديه مسلوبَ اللباسِ مُسربَلا
متوسدا حرَّ الصعيدِ معفَّرا-----بدمائه تَرِبَ الجبينِ مُرمَّلا
ظمآنَ مجروحَ الجوارحِ لم يجد-----ماءً سوى دمِه المبدَّدِ بالفلا
ولصّدرِه تطأ الخيولُ وطالما-----بسريره جبريلُ كان موكَّلا
عُقِرَتْ أما علمت لأيّ معظَّمٍ-----وطأت وصدرا غادرتْه مفصلا
ولثغره تعلو السياطُ وطالما----- شغفا له كان النبيُّ مقبلا
وبنوه في أسر الطغاةِ صوارخٌ-----ولهاءَ معولةً تُجاوبُ معولا
ونساءُه من حوله يندبْنَه-----بأبي النساءَ النادباتِ الثُكَّلا
7- الندبة:
وقد ورث الشيعة من أئمتهم لغة الندبة الممزوجة بالحرمان حيث كانوا يندبون رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأميرالمؤمنين (عليه السلام) في الشدائد.
ويكيفك في هذا المجال ما نظمه السيد صالح الحلي (رحمه الله)، قال:
يا مُدرك الثار البدار البدار-----شنّ على حرب عداك المغار
وأتي بها شعواء مرهوية-----تعقد أرضاً فوقها من غبار
يا قمر التم أما آن أن-----تبدو فقد طال علينا السرار
يا غيرة الله أما آن أن-----تغير أعدائك فالصبر غار
يا صاحب العصر أترضى رحى-----عصّارة الخمر علينا تدار
فاشخذ شبا عضبك وأستأصل-----الكفر ولا تبقى صغاراً كبار
عجّل فدتك النفس واشفي به-----من غيظ اعداك قلوباً حرار
فهاك قلبها قلوب الورى-----أذابها الوجد من الانتظار
قد ذهب العدل وركن الهدى-----قد صد والجور على الدين جار
أغث رعاك الله من ناصر-----رعية ضاقت عليها القفار
متى تسل البيض من غمدها-----وتشرع السمر ويحمى الذمار
في فئة لها التقى شيمة-----ويالثارات الحسين الشعار
كأنها الموت لهم غادة-----والعمر مهر والرؤوس النثار
اضف تعليق