قيس بن مسهر بن خليد بن جندب بن منقذ بن عمرو بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن خزيمة الأسدي الصيداوي. كان قيس رجلاً شريفاً في بني الصيداء شجاعاً مخلصاً في محبة أهل البيت كما أنّ الكميت بن زيد الأسدي ذكره في شعره، وأعتبره شيخ بني الصيداء...
مقدمة
لكل حركة تغييرية أبطال وفدائيون، يقدمون أنفسهم ودماءهم كقرابين على طريق الحق وترسيخ الحقيقة التي ينهضون من أجلها، وهؤلاء الكرام من حقِّهم على الأجيال أن تعرفهم، ليكونوا لها مناراً وشعاراً يرفعوهم ويُخلِّدوا ذكرهم لتبقى جذوة الجهاد وهاجة، والنضال أجَّاجة، وهم يكونون للأمة سرجا.
والنهضة الحسينية المباركة كانت كلها رموز جهاد، ومنارات نضال، وتكاد لا تستطيع أن تميِّز بينهم إلا بالقرب والبُعد النسبي إلى عمود النسب الطاهر لأهل البيت الأطهار (ع) وسيدهم وقائدهم الإمام الحسين (ع) المعصوم والمفترض الطاعة، وأما الأصحاب فهم لا شك ولا ريب متفاوتون فيما بينهم، ومتفاضلون بعضهم على بعض، ولكن بالنسبة لغيرهم يجمعهم الإمام الحسين (ع) ونهضته التي وحدتهم وصهرتهم في بوتقتها النورانية، فصاروا جميعاً شهداء سعداء رفقاء لسيد الشهداء (ع).
فأصحاب الإمام الحسين (ع) خير الأصحاب بشهادته لهم: (فإني لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي) (مقتل الخوارزمي246:1، اللهوف :79)
فهذه الثلة التي آمنت بربها، وزادها الله كرامة بصحبة إمامها والشهادة بين يديه المباركتين، الذين كانوا يُمثِّلون جميع أجيال الأمة في الأحوال العادية، ففيهم من الشيخ الطاعن في السن الذي تجاوز التسعين، حتى الطفل الرضيع في المهد، ففيهم من الشباب والشياب، والصغار والكبار، والرجال والنساء، ومن كل الطوائف والمذاهب والأديان، كالعلوي الولائي، والعثماني الهوى، والأباضي، والمسلم والمسيحي، والحرُّ والعبد، ولم يوجد فيهم مشرك ولا يهودي ولا مجوسي لأن هؤلاء لا خير فيهم أصلاً، وما تبقى فالدارس لواقع أصحاب الإمام الحسين (ع) يجد فيهم كل هذا التنوع، وذلك ليكون الحسين (ع) ونهضته المباركة نبراساً ومشعل هداية لكل البشر وفي كل العصور.
فهؤلاء الكرام من حقِّهم علينا أن نبحث عنهم ونقدِّمهم إلى الأجيال لتقتدي بهم لتهدي بهُداهم، وإن كان معظمهم ممَنْ محى زبانية بني أمية آثارهم من كتب التاريخ، فلا تكاد تحصل على معلومة عن بعض أولئك الشهداء العظماء إلا ما ذكره أئمة أهل البيت (ع) في الزيارات المختلفة، والذين حقق وبحث عنهم العلماء والأعلام محاولين معرفتهم والبحث عن أخبارهم لبثها في الأمة.
قيس بن مسهِّر الصيداوي
قالوا في نسبه: "هو قيس بن مسهر بن خليد بن جندب بن منقذ بن عمرو بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة الأسدي الصيداوي. (البلاذري، أنساب الأشراف، ج 11، ص 164؛ ابن حزم، جمهرة أنساب العرب، ص 195)
وصيداء بطن من أسد؛ ولذا نسبته بعض المصادر إلى شهداء بني أسد. ( تاريخ اليعقوبي: ج1، ص 230، وموسوعة كربلاء لبيب بيضون: ج 2، ص 24)
وقالوا: "كان قيس رجلاً شريفاً في بني الصيداء شجاعاً مخلصاً في محبة أهل البيت (عليهم السلام)، كما أنّ الكميت بن زيد الأسدي ذكره في شعره، وأعتبره شيخ بني الصيداء". (نفس المهموم؛ القمي: ص 586)
سفير من وإلى الحسين (عليه السلام)
ويروي المؤرخون عدة أدوار لهذا الرجل الفذ، والمجاهد البطل، "وأهم دور قام به قيس في أحداث حركة الإمام الحسين (عليه السلام)، أنه كان رسول الإمام (عليه السلام) وسفيره إلى أهل الكوفة وكذلك قام بإيصال الرَّسائل التي كُتبت بين الإمام، ومسلم بن عقيل، وأهل الكوفة، فمن أهم وجملة أعماله:
- إيصال رسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في مكة المكرمة. (تاريخ الطبري: ج 6، ص 294)
- إيصال رسالة مسلم إلى الإمام الحسين (عليه السلام) في أثناء طريقه إلى كربلاء.
- إيصال رسالة الإمام الحسين (عليه السلام) رداً على رسالة مسلم بن عقيل (ع).
- صُحبته لمسلم بن عقيل في رحلته إلى الكوفة وإيصال رسالة مسلم إلى الإمام الحسين (عليه السلام) بعد مبايعة أهل الكوفة.
- صحبته للإمام الحسين (عليه السلام) وإيصال رسالة الإمام (عليه السلام) من منطقة الحاجر إلى أهل الكوفة. (ويكي شيعة بتصرف، موسوعة كربلاء؛ لبيب بيضون: ج 1، ص 573)
وبعد هذا العرض السريع لأهم محطات هذا المجاهد البطل، نتوقف مع آخر رسالة أخذها من الإمام الحسين (ع) ليوصلها إلى مسلم بن عقيل (ع)، التي أدَّت به إلى أن يكون ثالث شهيد من دوحة الشهادة الكربلائية ولكن على أرض الكوفة، ونأخذها من سماحة الإمام الراحل (قدس سره) حيث يقول: "رُويَ أنه لما بلغ عُبيد الله بن زياد إقبال الحسين (ع) من مكة إلى الكوفة بعث الحُصين بن نمير صاحب شرطه مع ألف فارس حتى نزل القادسية ليمنع الحسين(ع) من دخول الكوفة، وليعتقله ويأخذه أسيراً إلى ابن زياد، فنظَّم الحصين بن نمير الخيل ما بين القادسية إلى خفان، وما بين القادسية إلى القطقطانة وقال للناس: "هذا الحسين يُريد العراق، وجعل جائزة على مَنْ يأتي بالحسين" (ع).
ولما بلغ الحسين (ع) الحاجر، (الحاجز) من بطن الرمة بعث قيس بن مسهر الصيداوي برسالة إلى أهل الكوفة، وكانت هذه الرسائل قبل وصول خبر قتل مسلم بن عقيل (ع) إلى الإمام (ع)، فكتب الإمام (ع) إلى أهل الكوفة: (بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وعبد الله بن وال، وجماعة المؤمنين، أما بعد: فقد علمتم أن رسول الله (ص) قد قال في حياته: (مَنْ رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسُنة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثم لم يُغيِّر بقول ولا فعل كان حقيقاً على الله أن يُدخله مدخله)، وقد علمتم أن هؤلاء القوم قد لزموا طاعة الشيطان وتولوا عن طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام الله وحرموا حلاله، وإني أحق بهذا الأمر، لقرابتي من رسول الله (ص) وقد أتتني كتبكم، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني، فإن وفَّيتم لي ببيعتكم فقد أصبتم حظكم ورشدكم، ونفسي مع أنفسكم، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم، فلكم بي أسوة، وإن لم تفعلوا ونقضتم عهودكم وخلعتم بيعتكم فلعمري ما هي منكم بنكر لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي، والمغرور من اغتر بكم، فحظكم أخطأتم، ونصيبكم ضيعتم، (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) (الفتح: 10) وسيغني الله عنكم، والسلام) (بحار الأنوار: ج44 ص381)
ثم طوى الكتاب وختمه ودفعه إلى قيس بن مسهر الصيداوي، فأقبل قيس بن مسهر بكتاب الإمام الحسين (ع) حتى إذا وصل القادسية فأخذه الحُصين بن نُمير وجيشه، فبعثوا به إلى عُبيد الله بن زياد إلى الكوفة، فقال لـه عبيد الله بن زياد: "اصعد فسبّ الكذاب الحسين بن علي" (روضة الواعظين: ص178)
وروي أنه: لما قارب قيس بن مسهر دخول الكوفة اعترضه الحُصين بن نُمير ليُفتشه فأخرج قيس الكتاب ومزّقه وعجنه بالماء بحيث لا يمكن قراءته، فحمله الحصين إلى ابن زياد، فلما مثل بين يديه قال لـه: مَنْ أنت؟
قال: أنا رجل من شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وابنه (ع).
قال: فلماذا خرقتَ الكتاب؟
قال: لئلا تعلم ما فيه.
قال: وممَنْ الكتاب وإلى مَنْ؟
قال: من الحسين بن علي (ع) إلى جماعة من أهل الكوفة لا أعرف أسماءهم.
فغضب ابن زياد فقال: والله لا تفارقني حتى تخبرني بأسماء هؤلاء القوم أو تصعد المنبر فتلعن الحسين بن علي وأباه وأخاه، وإلاّ قطَّعتك إرباً إرباً..
فقبل قيس أن يصعد المنبر ويتكلم بما أراده ابن زياد، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه وصلّى على النبي (ص) وأكثر من الترحم على علي (ع) والحسن والحسين (عليهم السلام) ثم لعن عبيد الله بن زياد وأباه، ولعن عتاة بني أمية عن آخرهم، ثم قال: "أيها الناس أنا رسول الحسين (ع) إليكم وقد خلفته بموضع كذا فأجيبوه" (اللهوف في قتلى الطفوف: ص46)
فاشتد غضب عبيد الله بن زياد وأمر به أن يُرمى من فوق القصر، فرمي به فتقطَّع ومات شهيداً، رضوان الله تعالى عليه" (مقتل الحسين (ع): ص72)
وروي أنه وقع إلى الأرض مكتوفاً فتكسرت عظامه وبقي به رمق فأتاه رجل يقال لـه: عبد الملك بن عمير اللخمي (ناصبي شامي) فذبحه. (الإرشاد: ج2 ص71)
ولما بلغ الإمام الحسين (ع) قتل قيس استعبر باكياً ثم قال: (اللهم اجعل لنا ولشيعتنا عندك منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مستقر من رحمتك، إنك على كل شيء قدير). (من حياة الإمام الحسين (ع) السيد محمد الشيرازي: ص 116، عن بحار الأنوار: ج44 ص382)
كما يُروى عن هذا المقاتل البطل، والفدائي الشرس، أنه عندما أخذه جنود عُبيد الله بن زياد، وأيقن بأنه قد وقع في أسرهم، وأنهم سيُجبرونه على الرسالة ويأخذوها منه، وثم يأخذونه إلى ابن زياد الحاكم الظالم، وأن فيها بعض الأسماء وبذلك يُعرِّض هؤلاء إلى الخطر، فما كان منه إلا أن وضع الرسالة في فمه ولاكَها (مضغها) حتى تمكن منها وابتلعها حتى لا يستطيع أحد أن يأخذها منه، وبهذه الخُطة المحكمة أن يحمي أسرار إمامه وقائده، وأصحابه المقربين في الكوفة، وهذا ما اغضب عبيد الله بن زياد أشد الغضب، ولذا أمره بما تقدَّم من الرواية، ثم قتلوه بتلك الطريقة البشعة بحيث ألقوه من أعلى القصر وهو مكتف فتكسرت عظامه رحمة الله عليه قبل أن ينقضَّ عليه ذاك الناصبي الشامي ويذبحه.
درس قيس بن مسهَّر
إن من أبلغ دروس هذا الفدائي هي حفظ أسرار الحركة الرسالية، وأوامر القيادة، وأعيان الحركة بأي طريقة ممكنة حتى ولو أدى ذلك إلى الشهادة، أو السجن، والتعذيب، وليعلم أنه مؤتمن على تلك الأسرار والبوح بها سيؤدي إلى كارثة على كل الحركة الرسالة في الأمة الإسلامية.
فما أحوجنا اليوم لهذا الدرس البليغ من هذا البطل الشهيد، الذي جعل رسالة قائده في بطنه حتى لا يستولي عليها العدو، لا سيما ونحن نعيش في عصر الثورة الإلكترونية وثورة الاتصالات العملاقة والتي تديرها جميعها شبكات المخابرات العالمية، وعلى رأسها المعادية بكل أصنافهم ودولهم بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية التي تُسيطر على كل شبكات التواصل وتتحكم فيها وتأخذ المعلومات كاملة عن كل متصفح لتلك الشبكات فلنكن على درجة عالية من الوعي، والحيطة والحذر بتناولنا إلى أي موضوع حساس وفيه معلومات وأسرار لحركة الأخوة والمجاهدين لأنه سيُعرِّضهم إلى الخطر، وما أكثر القصص في ذلك.
اضف تعليق