في تلك الأسرة الكريمة ولدت نجمة في برعم مخملي قدسي الذات، نوراني الطلعة، في إهاب أنثى فسمَّاها أبوها أو أخوها الأكبر علي بن موسى الرضا (ع) باسم أمه فاطمة الزهراء (ع)، وراح يرعاها يربيها كما يجب ويأمر به الإسلام العظيم، وفعلاً أحاطها بمزيد من الحب الأخوي، ورعاها أبوها...
ولدت السيدة فاطمة المعصومة في 1 ذي القعدة عام 173 هـ 21 آذار 790م في المدينة المنورة
مقدمة تربوية
كان والدي المرحوم يردد كثيراً قوله: "وربِّي لولا المربِّي ما عرفت ربِّي"، ولا أعرف مَنْ القائل لها، ولكن تبيَّنت صدقها في تجربتي الشخصية خلال هذه الرحلة التي انطلقت من قلب المعاناة في بيت نذر أهله حياتهم وكل ما فيه ولديه لله تعالى، حيث أن المرحوم الوالد كان في طليعة المستبصرين في منطقتنا الواقعة في شمال سوريا الجريحة، ولذا لا أذكر أو نادراً ما مرَّ علينا يوم أو ليلة وليس فيه حواراً دينياً عن أهل البيت (ع) وحقهم المغتصب، وقريش والصحابة وظلمهم لهم في مدى التاريخ الإسلامي.
فتلك الأجواء المفعمة بالحوار الهادئ والمنطقي أحياناً والصاخب والخارج عن المنطق في أحيان أخرى لا سيما في حوار أهل السلف المتخلف وسلاحهم في التكفير والتفسيق وغيره مما هو معروف عنهم لا سيما وأنهم لا يعرفون معنى ولا مبنى للأخلاق، لأن أخلاقهم نبعت من جفاء وغلظة نجد قرن الشيطان كما قال عنهم سيد البشر (ص): (ألا إِنَّ القَسْوَةَ وغِلَظَ القُلوبِ في الفَدَّادِينَ؛ عند أُصُولِ أذْنابِ الإِبِلِ، حيث يَطلُعُ قَرْنا الشيطانِ؛ في رَبِيعةَ ومُضَرَ). (البخاري: ح3302، ومسلم: ح51، والحديث صحيح عندهما)
وهناك تعلمنا الحوار وأصول العقائد، والكثير عن السيرة النبوية المطهرة، وعن أهل البيت الأطهار (ع) وأصحابهم الأخيار وعرفنا أن الحق لهم، وفيهم، ومعهم، فتبعناهم كما أمرنا الله تعالى بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ) (التوبة/119)، فهم الصادقون في كل حياتهم دون غيرهم كما أثبت ذلك بمزيد من البيان والتفصيل سماحة السيد مرتضى الشيرازي (حفظه الله) في بحوثه التي قررتها له في الحوزة الزينبية الشريفة في الشام، وأمرنا به رسوله الصادق الأمين في الآلاف من أقواله وأحاديثه الشريفة التي هم رووها ولكن أولوها وحرَّفوا الكلم عن مواضعه كبني إسرائيل تماماً، لا سيما حادثة وحديث الغدير الأغر الذي لم يترك عذراً لمعتذر من هذه الأمة كائناً مَنْ كان، حيث رَوَى بُرَيْدَةُ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَجَابِرٌ، وَاَلْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَنِ اَلنَّبِيِّ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): (أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ غَدِيرِ خُمٍّ مَنْ كُنْتُ مَوْلاَهُ فَعَلِيٌّ مَوْلاَهُ اَللَّهُمَّ وَالِ مَنْ وَالاَهُ وَعَادِ مَنْ عَادَاهُ). (العدد القویة: ج۱ ص۲4۷)
التربية أساس
فالتربية أساس في وجود الفرد، وتماسك الأسرة، وقوة المجتمع، ومتانة الأمة، وبناء الحضارة، وعلى هذا الأساس الرصين بنا الإسلام أفراده كأشخاص، وأسره كمجموعة، ومجتمعه كتجمعات مختلفة، وكأمة في أطيافها وكل ما فيها من التنوع والجمال البشري والاجتماعي حيث يعطيها غناء في الوجود وجمالاً في التكوين، وحضارة في التكامل فيما بين أفرادها، وهو لب وجوهر ما أشار الله تعالى إليه في قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات/13)، فالتربية الإسلامية نبعت اجتماعياً من هذه النظرة الكونية التكاملية للإنسان والإنسانية.
وأما بالنسبة للأفراد فإنه جعل التربية أساس في إيجاد الشخص التقي الذي يجعل منه لبنة صالحة في أسرته الصغيرة وبيته، وفي عائلته الكبيرة وعشيرته، ثم في أمته الشاملة، إذ أن التفاضل في قوله تعالى: (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، فالجنَّة هي مشروع خاص وشخصي على هذا المستوى.
ولكن تربية الإنسان الفرد ليس كالشجرة التي تغرسها مفردة وتعتني بها إلى أن تكبر وتثمر لأن الإنسان اجتماعي بالطبع -كما يقول علماء الاجتماع- فهو لا بد له من أن ينشأ وكبر ويترعرع في أسرة وبين أبوين وإخوة وأهل ومجتمع يتأثر به ويؤثر أيضاً فيما بعد، ولكن الأسرة الصغيرة والبيت له تأثير كبير جداً وواضح لا يُنكر على الفرد، ولذا اهتمَّ الإسلام أيما اهتمام بالأسرة المسلمة أرادها أن تُبنى من اللحظة الأولى على المحبة والأصالة والتدين وهذه الأحاديث الشريفة والروايات تبدأ بالنصيحة للشباب قبل أن يتزوجوا فتقول لهم الرواية: (تَخَيَّرُوا لِنُطَفِكُمْ فَإِنَّ اَلْخَالَ أَحَدُ اَلضَّجِيعَيْنِ)، و(خَيْرُ نِسَائِكُمْ أَصْبَحُهُنَّ وَجْهاً وَأَقَلُّهُنَّ مَهْراً)، و(تَزَوَّجُوا اَلْوَدُودَ اَلْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ اَلْأَنْبِيَاءَ)، وجميل ما تنقله كتب الأثر من وصية لقمان الحكيم لولده في النساء حيث يقول: (يَا بُنَيَّ اَلنِّسَاءُ أَرْبَعَةٌ ثِنْتَانِ صَالِحَتَانِ، وَثِنْتَانِ مَلْعُونَتَانِ؛ فَأَمَّا إِحْدَى اَلصَّالِحَتَيْنِ فَهِيَ اَلشَّرِيفَةُ فِي قَوْمِهَا، اَلذَّلِيلَةُ فِي نَفْسِهَا، اَلَّتِي إِنْ أُعْطِيَتْ شَكَرَتْ، وَإِنِ اُبْتُلِيَتْ صَبَرَتْ، اَلْقَلِيلُ فِي يَدَيْهَا كَثِيرٌ، اَلصَّالِحَةُ فِي بَيْتِهَا.
وَاَلثَّانِيَةُ: اَلْوَدُودُ اَلْوَلُودُ تَعُودُ بِخَيْرٍ عَلَى زَوْجِهَا هِيَ كَالْأُمِّ اَلرَّحِيمِ تَعْطِفُ عَلَى كَبِيرِهِمْ، وَتَرْحَمُ صَغِيرَهُمْ، وَتُحِبُّ وُلْدَ زَوْجِهَا، وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِهَا، جَامِعَةُ اَلشَّمْلِ، مَرْضِيَّةُ اَلْبَعْلِ، مُصْلِحَةٌ فِي اَلنَّفْسِ وَاَلْأَهْلِ وَاَلْمَالِ وَاَلْوَلَدِ فَهِيَ كَالذَّهَبِ اَلْأَحْمَرِ، طُوبَى لِمَنْ رُزِقَهَا إِنْ شَهِدَ زَوْجُهَا أَعَانَتْهُ، وَإِنْ غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ.
وَأَمَّا إِحْدَى اَلْمَلْعُونَتَيْنِ فَهِيَ اَلْعَظِيمَةُ فِي نَفْسِهَا اَلذَّلِيلَةُ فِي قَوْمِهَا اَلَّتِي إِنْ أُعْطِيَتْ سَخِطَتْ وَإِنْ مُنِعَتْ عَتَبَتْ وَغَضِبَتْ فَزَوْجُهَا مِنْهَا فِي بَلاَءٍ وَجِيرَانُهَا مِنْهَا فِي عَنَاءٍ فَهِيَ كَالْأَسَدِ إِنْ جَاوَرْتَهُ أَكَلَكَ وَإِنْ هَرَبْتَ مِنْهُ قَتَلَكَ.
وَاَلْمَلْعُونَةُ اَلثَّانِيَةُ فَهِيَ عِنْدَ زَوْجِهَا وَمَيْلُهَا فِي جِيرَانِهَا فَهِيَ سَرِيعَةُ اَلسَّخْطَةِ سَرِيعَةُ اَلدَّمْعَةِ إِنْ شَهِدَ زَوْجُهَا لَمْ تَنْفَعْهُ وَإِنْ غَابَ عَنْهَا فَضَحَتْهُ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ اَلْأَرْضِ اَلنَّشَّاشَةِ إِنْ أَسْقَيْتَ أَفَاضَتِ اَلْمَاءَ وَغَرِقَتْ وَإِنْ تَرَكْتَهَا عَطِشَتْ وَإِنْ رُزِقْتَ مِنْهَا وَلَداً لَمْ تَنْتَفِعْ بِهِ.. يَا بُنَيَّ لاَ تَتَزَوَّجْ بِأَمَةٍ فَيُبَاعَ وَلَدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَهُوَ فِعْلُكَ بِنَفْسِكَ يَا بُنَيَّ لَوْ كَانَتِ اَلنِّسَاءُ تُذَاقُ كَمَا تُذَاقُ اَلْخَمْرُ مَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ اِمْرَأَةَ سَوءٍ أَبَداً). (الإختصاص: ج۱ ص۳۳6)
فالإسلام العظيم أراد أن يبني أمة عظيمة وهذا لا يمكن إلا أن يبني أسرة عظيمة، وأساس التربية في الإسلام ينطلق من عدَّة قواعد أساسية أثبتها العلم الحديث أولها وأعظمها هي قاعدة؛ (التربية بالقدوة والأسوة)، فقدَّم لنا القرآن الحكيم المثال للشخص العظيم فقال: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب/21)، كما قدَّم لنا أسرته الطاهرة وأهل بيته الأطهار على أنهم الأسرة المثال والقدوة والأسوة في هذه الأمة، حيث قدَّمهم في إطار سورة كاملة نزلت بهم ولم يشاركهم فيها أحد وسماها بسورة (الإنسان) لتكون الأسرة النبوية خير قدوة وخير مثال للأسر التَّقية النَّقية الصالحة عبر الأجيال.
كيف لا وقد وصفهم الله تعالى بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) (الأحزاب/33)، فهم أهل البيت الذين خصَّهم الباري تعالى بهذه الكرامة فجعلهم جميعاً من المعصومين المكرَّمين وهذا لم تتصف به عائلة أو أسرة من أسر العالمين منذ أبينا آدم (ع) وحتى الآن، ولذا فإننا نرى بأن الله جعل من هذه الأسرة مثالاً يُحتذى وقدوة يُقتدى بها في التربية الفاضلة بكل نواحيها المادية والمعنوية.
أسرة السيدة فاطمة المعصومة (ع)
من تلك الأسرة الكريمة ولدت أسرة كبيرة بل عملاقة في زمن حرج وعصر متقلِّب كلِب على آل محمد، وهي أسرة الإمام السابع من أئمة المسلمين الإمام موسى بن جعفر (ع) الذي كان شوكة في عيون بني العباس الأغبياء الذين رأوا فيه تهديداً لسلطتهم وحكومتهم وهم يعلمون علم اليقين أنهم أبعد ما يكونوا أو يفكروا بأن يكونوا حكاماً على الناس لولا بشارة الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) لذي القباء الأصفر، فقد روي أن جماعةً من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء، منهم: إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وأبو جعفر المنصور، وعبد الله بن الحسن، وابناه محمد وإبراهيم، وأرادوا أن يعقدوا لرجل منهم، فقال عبد الله: هذا ابني هو المهدي. وأرسلوا إلى جعفر، فجاء فقال: (لماذا اجتمعتم؟)، قالوا: نبايع محمد بن عبد الله فهو المهدي.
قال جعفر: (لا تفعلوا)، قال: (ولكن هذا وإخوته وأبناءهم دونكم)، وضرب بيده على ظهر أبي العباس، ثم قال لعبد الله: (ما هي إليك ولا إلى ابنيك، ولكنها لبني العباس، وإن ابنيك لمقتولان)، ثم نهض وقال: (إن صاحب الرداء الأصفر ـ يعني أبا جعفر (المنصور) ـ يقتلهما)، وانفضَّ القوم فقال أبو جعفر: تتم الخلافة لي؟. فقال: (نعم، أقوله حقاً)، (بحار الأنوار: ج47 ص120)، وأوصاه ببنيه خيراً، وذلك لأن الثورة على الأمويين قامت لظلمهم لآل محمد فكانت الدَّعوة إلى (الرِّضا من آل محمد).
ولكن الإمام الصادق (ع) لم ينجُ منهم فقتله الحاكم المجرم نفسه وراح يضيِّق على وصيه وولده الإمام موسى الكاظم (ع) ثم راح ينقله من سجن إلى سجن حتى انتهى به المطاف إلى سجن السندي بن شاهك في بغداد ولكن الله وهب للإمام موسى ميزة لم تكن لغيره من الأئمة فرغم أنه قضى أكثر من أربعة عشر عاماً في السجن إلا أنه كان أكثرهم عيالاً وأولاداً إذ أن العلماء يقولون بأنه كان لديه 36 ولدا 18 ذكر و18 أنثى، والكثير من العبيد والإماء بحيث أنه يبلغ مجموعهم الخمسمائة، وكانت يد الإمام في غاية الضيق فإن الخطباء يتناقلون بأنه لم يكن لبناته الكريمات إلا ثوباً واحداً ويتبادلونه للصلاة، ولم يزوِّج أكثرهن لقلَّة ذات اليد كما أفصح عن ذلك للحاكم حين قَالَ: يَا أَبَا اَلْحَسَنِ مَا عَلَيْكَ مِنَ اَلْعِيَالِ؟ فَقَالَ: يَزِيدُونَ عَلَى اَلْخَمْسِمِائَةِ، قَالَ: أَوْلاَدٌ كُلُّهُمْ؟ قَالَ: لاَ أَكْثَرُهُمْ مَوَالِيَّ وَحَشَمٌ فَأَمَّا اَلْوَلَدُ فَلِي نَيِّفٌ وَ ثَلاَثُونَ اَلذُّكْرَانُ مِنْهُمْ كَذَا وَاَلنِّسْوَانُ مِنْهُمْ كَذَا، قَالَ: فَلِمَ لاَ تُزَوِّجِ اَلنِّسْوَانَ مِنْ بَنِي عُمُومَتِهِنَّ وَأَكْفَائِهِنَّ؟ قَالَ: اَلْيَدُ تَقْصُرُ عَنْ ذَلِكَ). (عيون الأخبار: ج۱ ص۸۸)
في تلك الأسرة الكريمة ولدت نجمة في برعم مخملي قدسي الذات، نوراني الطلعة، في إهاب أنثى فسمَّاها أبوها أو أخوها الأكبر علي بن موسى الرضا (ع) باسم أمه فاطمة الزهراء (ع)، وراح يرعاها يربيها كما يجب ويأمر به الإسلام العظيم، وفعلاً أحاطها بمزيد من الحب الأخوي، ورعاها أبوها بكل الحنان الأبوي فجاءت آية من آيات الله في تلك الأسرة النبوية الشريفة، فكانت مثل عمَّتها السيدة زينب (ع) لأخيها الإمام الحسين (ع) رغم أن البعد الزمنى وكبر السن كبيراً جداً بينهما وليس كما كان بين زينب والحسين (ع)، إلا أن أخاها رعاها بأحداق عينيه وربَّاها على قيم السماء، وعلَّمها وحشا إهابها المخملي الناعم بكل ما يتحمَّل من العلم والأخلاق والفضيلة، ولذا ما أن اكتملت كأنثى تكاملت كإنسانة في غاية النبل والعفة والتدين.
على أي تقدير من القول بولادتها ما بين (173هـ 179هـ 183ه) فقد عاشت السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) في كنف أخيها الرضا (عليه السلام) ورعايته مدّة من الزمن تمكّنها من تلقّي التربية والتعليم اللائقين بمقامها على يد أخ شقيق لم يكن في علمه ومقامه كسائر الناس، فهو الإمام المعصوم وهو المربّي والمعلم والكفيل.. وينقل صاحب كتاب (كشف اللئالي) لابن العرندس الحلي، قصة تقول: إن جمعاً من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) للتشرّف بلقائه والسلام عليه، فأُخبروا أن الإمام (عليه السلام) خرج في سفر وكانت لديهم عدّة مسائل فكتبوها، وأعطوها للسيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام) ثم انصرفوا.
وفي اليوم التالي وكانوا قد عزموا على الرَّحيل إلى وطنهم مرّوا ببيت الإمام (عليه السلام)، ورأوا أن الإمام (عليه السلام) لم يعد من سفره بعد، ونظراً إلى أنّه لا بدّ لهم أن يسافروا طلبوا مسائلهم على أن يقدِّموها للإمام (عليه السلام) في سفر آخر لهم للمدينة، فسلّمت السيدة فاطمة (عليها السلام) المسائل إليهم بعد أن كتبت أجوبتها، ولمّا رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم، وفي أثناء الطريق التقوا بالإمام الكاظم (عليه السلام) وهو في طريقه إلى المدينة، فحكوا له ما جرى لهم فطلب إليهم أن يروه تلك المسائل، فلمّا نظر في المسائل وأجوبتها، قال ثلاثاً: (فداها أبوها).
فكم لهذه الحادثة من دلالة عظيمة إن صحَّت على عظمة وعلم ومكانة هذه السيدة الجليلة؟
بركة قم ونجمتها الزاهية
والسيدة فاطمة المعصومة لحقت بأخيها الرضا (ع) عندما سلَّه عبد الله المأمون من بين أهله وإخوته وأخذه إلى مرو ثم إلى خراسان ولم تستطع السيدة فاطمة أن تتحمَّل غياب أخيها عنها فلحقت به بعد أن استأذنته ولكن في طريقها إليه وعندما وصلت إلى ساوه جرى لها ما جرى من حوادث الدهر الخؤون فخرج إلى استقبالها موسى الأشعري وأعيان القرية وجاؤوا بها إلى قريتهم لتسكن في بيته لمدة سبعة عشر يوماً وفارقت هذه الدنيا فاتخذ لها قبراً في أرضها ومنذ ذلك اليوم تحولت تلك القرية الصغير قم إلى أرض مقدسة لأنها حوت تلك البضعة الطاهرة فمنحتها بركتها، ثم تألقت في هذه الدنيا من بين بلاد المسلمين بخدمتها وخدمة شيعة أهلها على طول المدى فصارت نجمة في سمائها، فهي الآن مهوى القلوب والأفئدة التواقة لزيارتها والتبرك بها، أو للسكن في جوارها والاستفادة من بركتها ونورها في هذه الحياة.
ففي رواية قبل أن تُخلق عن جدها الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إن لله حرماً وهو مكة، ألا إن لرسول الله حرماً وهو المدينة، ألا وإن لأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ألا وإن قم الكوفة الصغيرة.. ألا إن للجنة ثمانية أبواب ثلاثة منها إلى قم، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى، وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم). (بحار الأنوار: ج ٥٧ ص ٢٢٨)
وفي رواية أخرى عنه (ع) قال: (إِنَّ لِلَّهِ حَرَماً وَهُوَ مَكَّةُ، وَلِرَسُولِهِ حَرَماً وَهُوَ الْمَدِينَةُ، وَلِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ حَرَماً وَهُوَ الْكُوفَةُ، وَلَنَا حَرَماً وَهُوَ قُمُّ، وَسَتُدْفَنُ فِيهِ امْرَأَةٌ مِنْ وُلْدِي تُسَمَّى فَاطِمَةَ مَنْ زَارَهَا وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ)، (وَبِسَنَدٍ آخَرَ عَنْهُ (ع): أَنَّ زِيارَتَهَا تَعْدِلُ الْجَنَّة). (بحار الأنوار: ج 99 ص 267)، والإمام الشيرازي الراحل (قدس سره) ينقل في كتابه (في رحاب السيدة فاطمة المعصومة) عدداً من الروايات في فضلها وفضائها، كما أن له كتاباً جميلاً وجليلاً عن مدينة قم بعنوان: (قم المقدسة رائدة الحضارة)، وفيه مجموعة من الأفكار والرؤى الإبداعية عن مدينة قم المقدسة وحوزتها الشريفة، يقول في بعض صفحاته: "إن قم المقدسة اليوم أكبر موقع روحي بالنسبة إلى العالم الإسلامي، بل مع كل العالم حيث يوجد فيه إنسان مسلم، وذلك لأنها أصبحت اليوم (لما فيها من المراجع، والفقهاء، والحوزة العلمية، ورجال الدين) محطاً لأنظار كل المسلمين، ومورداً لاحترامهم، وهذا مما يزيد في مسؤوليتها تجاه المسلمين بل تجاه كل العالم بأسره، إذ عليها اليوم أن توصل إليهم ما يحتاجونه من الأمور المعنوية والأخلاقية، وما يهمهم من المسائل الدينية والشرعية، وهذا لا يتم إلا بالتبليغ والإرشاد". (ص 20)
ثم يقارن سماحته بين عدد الطلاب في الحوزة العلمية في قم المقدسة، وعدد المبشرين لدى بابا الفاتيكان، رغم أن عدد المسلمين والمسيحيين متقارب بعض الشيء كما تقول الإحصائيات، ولكن عدد المبشرين أكبر بكثير من عدد طلاب العلوم الدينية في الحوزة العلمية ولذا يهيب بالأمة الإسلامية وأهل الفكر والعلم والفضيلة فيها أن يضاعفوا جهودهم ويزيدوا من عدد المبلغين وطلاب العلوم الشرعية لإيصال المعنوية والمسائل الشرعية وصوت الحق ورسالة الحقيقة الإسلامية إلى كل أصقاع الدنيا.
وفي الحقيقة إن مدينة قم المقدسة كانت قرية صغيرة مهملة تغفو على ضفاف الصحراء وبحلول السيدة المعصومة فيها تحولت إلى مدينة مقدسة وصارت مهوى القلوب والأفئدة، لأن البركة حلَّت في أرضها وتألَّقت السيدة المعصومة نجمة منيرة في سمائها، سلام الله عليها أبد الدهر ومدار العصر..
أسعد الله أيامكم يا موالين بمولدها الشريف.
اضف تعليق