تبقى مبارزة أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في يوم الخندق ومعركة الأحزاب وساماً ونيشان رباني على صدر التاريخ والزمن والأمة ويجب أن تفخر به لا أن تجحده وتنكره لأنهم جبنوا وخافوا وتخاذلوا بل عليهم أن يقروا الفضل لأهله حتى يكونوا من أهل الفضل، لأن مَنْ يجحد أو يُنكر...

وقعت معركة الخندق (الأحزاب) في 17 شوال سنة 5هـ في أطراف المدينة المنورة

مقدمة عسكرية

قالوا: "إن الحروب والمعارك قطار الحضارات"، لأنه ما من حضارة انطلقت أو نمت وترعرعت إلا بعد سلسلة من المعارك والحروب الطاحنة، وذلك لأن الشعوب والأمم تبدع في الحروب بالصناعات الحربية وبعد السلم تعززها وتحولها وتطورها إلى صناعات مدنية ثم تتقدم الشعوب وتتطور وتبني حضارتها، لأن الأمة أو الشعب في الحرب بحاجة إلى صناعات تحميه أولاً ثم تؤثِّر على عدوِّه ثانياً، فهو يسعى للانتصار بأي طريقة ووسيلة، لأن المنتصر يفرض نفسه وشروطه على المنكسر أو المنهزم وهذا التاريخ ببابك يشهد على ذلك بل الواقع لا يخلو من شهادات حية على هذا الكلام.

ولكن هناك معارك حضارية قيمية يصنع فيها القادة والسادة الأبطال والشجعان، وهي من الصناعات النفسية والمعنوية، وهؤلاء لهم تأثير ربما يفوق أو لا يقل عن التأثير للمادة والسلاح في أرض المعركة، لأن الجيوش تخوض عادة عدة معارك في نفس الوقت ولكل معركة سلاحها وأسلوبها وطريقتها ومنهجها وأهمها:

أولاً: المعركة الخشنة بالسلاح المتوفر.

ثانياً: المعركة الناعمة النفسية والمعنوية بالطريقة المناسبة.

ومن المعارك الحضارية في التاريخ الإسلامي التي كانت مفصلاً في التاريخ كله هي معركة الأحزاب التي تمرُّ علينا ذكرى معركة فاصلة بين الإسلام وجيشه، بل الإيمان وشخصه، وبين الكفر والشرك وجيوشه -الأحزاب- التي جيَّشوها لاستئصال الإسلام ورسوله الكريم في شوال من العام الخامس للهجرة النبوية الشريفة، فما قصتها وكيف حقق المسلمون النصر المؤزر فيها رقم التباين الكبير بين الجيشين في العدد والعدة؟

معركة الأحزاب (الخندق)

من الأخطاء الشائعة التي توارثتها الأمة الإسلامية من الحقبة الأموية السوداء وحكمها الظالم العضوض ما اصطلحوا عليه مما يسمونه (الغزوات)، وهي معارك دفاعية وليست غزوات نبوية إذ أنهم اصطلحوا على أن الغزوة هي المعركة التي يقودها النبي، وأما السَّرية فهي التي يقودها أحد الصحابة، وذلك لأن من عادة العرب الغزو لبعضهم البعض، والغزو هو الهجوم المفاجئ والمباغت لقوم آخرين وهم نائمون أو غارُّون في حياتهم، وهي ذات ظلال سوداء وسمعة في غاية السوء في الثقافة والفكر العربي الجاهلي، فأطلق المؤرخون الأوائل على تلك الحروب والمعارك بـ(الغزوات)، والنبي الأكرم لم يغزُ أحداً أبداً بل كانت قريش وأحلافها يغزون النبي والمسلمين في يثرب وهم يردون الغزو عليهم وأكبر دليل على ذلك أن معركة أحد والخندق أو الأحزاب فقد جرتا على أبواب وأطراف المدينة المنورة، لا سيما معركة الأحزاب فهي كانت سيلاً من الجيوش الجرارة جيَّشها وقادها أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية ليستأصل المسلمين عن بكرة أبيهم فجاءت الخطة الإلهية وظهرت على لسان الصحابي الكبير سلمان الفارسي الذي كان قد التحق جديداً بالمسلمين فاقترح على النبي الأكرم بأن يحفروا خندقاً يوقفون الهجوم القرشي المعادي عليهم به.

وكذلك جميع معارك الرسول القائد كانت حضارية قيمية بامتياز فهو لم يعتدِ على أحد قط بل كان يردُّ الاعتداء عن نفسه وأمته الناهضة، ولذا جاء زبانية وكتاب بني أمية الأوائل وكتبوا (الغزوات–أو المغازي) ليقولوا للناس والأجيال بأن رسول الله نشر الإسلام بالسيف وغزو القبائل العربية، وهذا بالضبط ما قرأه صحيحاً المستشرقون وراحوا يتشدقون به إلى الآن -للأسف الشديد- والعجيب أنهم سموا غزوات الخليفة القرشي الأول التي قام بها ضد المسلمين بـ(حروب الردَّة)، وهي في الحقيقة غزوات على مانعي الزكاة كما كان يقول، وأما المعارك الأخرى في الشام والعراق ومصر فكانوا يسمونها بـ(الفتوحات الإسلامية)، فلماذا معارك رسول الله (ص) فقط هي غزوات ومعارك قريش وحكامها هي معارك وفتوحات يا أمة الخير والرحمة؟

 فيجب تصحيح هذا الخطأ التي وقعت فيه الأمة ومازالت تردِّده على ألسن الجميع لا سيما العلماء والأدباء والباحثين، كما أن المعركة التي نحن في بابها للحديث عن مسألة الانتصار فيها هي من المعارك الفاصلة التي سمَّاها الله تعالى في كتابه بـ(الأحزاب) وأنزل سورة بهذا الاسم إلا أن الأمة سمَّتها بـ(الخندق) ومازالت تصرُّ على تسميتها القرشية وكأنها تريد أن تذكر الأجيال بتلك المكيدة الفارسية التي أنقذت المسلمين وأربكت المشركين فهي نوع من دق ناقوس الخطر من الأفكار التي كان لها وقع وتأثير في التاريخ الإسلامي كهذه الحادثة والمعركة التي أدى حفر الخندق فيها إلى إفشال كل المخطط الأموي القرشي في إجهاض الحركة الإسلامية في بداياتها، وكأنه لا فعل جرى غير حفر ذلك الخندق الرهيب بالنسبة لهم، ففي رسائل المرتضي: "أمر النبي (صلى الله عليه وآله) بحفر الخندق وكان قد أشار بحفره سلمان الفارسي، فلما رأته العرب قالوا: هذه مكيدة فارسية.. ورجَّح صاحب الصحيح من السيرة السيد مرتضى العاملي قول الواقدي بأن النبي (صلى الله عليه وآله) هو الذي أشار بحفر الخندق، فاختلف فيه المسلمون، فتكلم سلمان عن الحكمة فيه (في حفر الخندق)، وأن الفرس يخندقون على مدنهم لصد هجوم العدو، فاقتنعوا بحفر الخندق، وفي تفسير القمي؛ فَقَالَ سَلْمَانُ اَلْفَارِسِيُّ: يَا رَسُولَ اَللَّهِ إِنَّ اَلْقَلِيلَ لاَ يُقَاوِمُ اَلْكَثِيرَ فِي اَلْمُطَاوَلَةِ قَالَ: فَمَا نَصْنَعُ؟ قَالَ: نَحْفِرُ خَنْدَقاً يَكُونُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ حِجَاباً فَيُمْكِنُكَ مَنْعُهُمْ فِي اَلْمُطَاوَلَةِ، وَلاَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُونَّا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّا كُنَّا مَعَاشِرَ اَلْعَجَمِ فِي بِلاَدِ فَارِسَ إِذَا دَهَمَنَا دَهْمٌ مِنْ عَدُوِّنَا نَحْفِرُ اَلْخَنَادِقَ فَيَكُونُ اَلْحَرْبُ مِنْ مَوَاضِعَ مَعْرُوفَةٍ، فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَقَالَ: أَشَارَ سَلْمَانُ بِصَوَابٍ)، ويعزز ذلك جواب رسالة الرسول الأكرم (ص) على رسالة أبو سفيان بعد المعركة حيث قال له فيها: (وأما قولك مَنْ علَّمنا الذي صنعنا من الخندق، فإن الله ألهمني ذلك)، فهي إلهام من الله تعالى بطريقة من طرق الإلهام.

والسبب في حفر الخندق في الحقيقة هو صد ذلك الهجوم الغاشم والغادر عن المدينة، فقد جيَّش أبو سفيان أكثر من عشرة آلاف من قريش وغطفان وأحابيشهم، ثم اتفق مع يهود بني قريظة الذين نقضوا العهد مع النبي وكانوا حوالي 1400 بكامل عدَّتهم وسلاحهم، وكان المسلمون مع النبي القائد لا يتجاوزون 3000 فقط، ولذا خافوا خوفاً شديداً قال الله تعالى بوصفهم: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا) (الأحزاب/12)

فعندما وصلت تلك الجيوش ووقفت خلف الخندق وحاصرت المسلمين في المدينة، هناك زلزل الصحابة جميعاً زلزالاً عظيماً وابتلوا بلاء شديداً لا سيما أولئك الذين ليس لهم حظ ولا نصيب بالحرب والقتال والشهامة والشجاعة فراحوا يتَّهمون رسول الله (ص) تارة بل يتَّهمون الله سبحانه الذي وضعهم في هذا الموقف الصعب الحرج في مقابل أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية وحامل رايته معاوية بن هند الهنود، ولكن الله سبحانه أراد أن يحكم عليهم الحلقة في الامتحان والبلاء حتى يعلم مدى إيمانهم وصبرهم في سبيل الله، فهيَّأ لفارس العرب المغوار الذي يعدُّ بألف فارس وهو عمرو بن عبد ود العامري وبعض رجاله أن يهمزوا خيولهم فيجتازون الخندق ليصيروا في جانب المسلمين وجهاً لوجه وطلب المبارزة وثلاثة آلاف منهم يقفون واجمين وكأن على رؤوسهم الطير -كما يقول العرب بأمثالهم- بل وكأن ملك الموت عزرائيل (ع) هو الذي برز وتحداهم جميعاً فلم ينبث أحد منهم ببنت شفَّة وكأنهم ليسوا برجال أمام رجل يتجاوز عمره التسعين.. والعجيب أن رسول الله (ص) قام خطيباً فيهم وراح يُشجِّعهم على مبارزة هذا الرجل، ويقول ثلاث مرات لهم: (أيكم يبرز إلى عمرو وأضمن له على الله الجنة)؟! وفي كل مرة لا يقوم إلا علي (عليه السلام) والقوم ناكسو رؤوسهم ولا أحد منهم يرفع رأسه حتى أن الرجل ضجر وقال بشعره المعروف جداً:

وَلَقَدْ بَحَحْتُ مِنَ اَلنِّدَاءِ بِجَمْعِكُمْ هَلْ مِنْ مُبَارِزٍ 

وَوَقَفْتُ إِذْ جَبُنَ اَلشُّجَاعُ مَوَاقِفَ اَلْقَرْنِ اَلْمُنَاجِزِ

إِنِّي كَذَلِكَ لَمْ أَزَلْ مُتَسَرِّعاً نَحْوَ اَلْهَزَاهِزِ 

إِنَّ اَلشَّجَاعَةَ فِي اَلْفَتَى وَاَلْجُودَ مِنْ خَيْرِ اَلْغَرَائِزِ

فقال رسول الله: (مَنْ لهذا الكلب)؟ فلم يجبه أحد". (راجع كتابنا: الإمام علي وحروب التنزيل: ص251)

مبارزة النَّصر المؤزَّر

فكان لا بدَّ من مبارزة هذا الطاغية واستجابة نداء الرسول القائد وإلا فهي الكارثة والفضيحة ونزول العذاب على المتخاذلين ولذا في كل مرَّة لا ينهض إلا أصغرهم سناً وأشوقهم إلى الجنة الموعودة والمضمونة بضمان رسول الله (ص) ويقول: أنا يا رسول الله، فيقول له: اجلس يا علي وليقم غيرك، ولكن لا يقوم أحد من أولئك الأبطال وهم ثلاثة آلاف ويتحداهم (كلب) واحد فقط، وفي الثالثة قَامَ إِلَيْهِ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) وَقَالَ: أَنَا لَهُ يَا رَسُولَ اَللَّهِ، فَقَالَ: يَا عَلِيُّ هَذَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُدٍّ فَارِسُ يَلْيَلَ، قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ رَسُولُ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ): أُدْنُ مِنِّي فَدَنَا مِنْهُ فَعَمَّمَهُ بِيَدِهِ، وَدَفَعَ إِلَيْهِ سَيْفَهُ ذَا اَلْفَقَارِ فَقَالَ لَهُ: اِذْهَبْ وَقَاتِلْ بِهَذَا وَقَالَ: اَللَّهُمَّ اِحْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ، وَمِنْ خَلْفِهِ، وَعَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ، وَمِنْ فَوْقِهِ، وَمِنْ تَحْتِهِ).. فَمَرَّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) يُهَرْوِلُ فِي مَشْيِهِ وَهُوَ يَقُولُ:

لاَ تَعْجَلَنَّ فَقَدْ أَتَاكَ مُجِيبُ صَوْتِكَ غَيْرَ عَاجِزٍ

ذُو نِيَّةٍ وَبَصِيرَةٍ وَاَلصِّدْقُ مُنْجِي كُلِّ فَائِزٍ

إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ أُقِيمَ عَلَيْكَ نَائِحَةَ اَلْجَنَائِزِ

مِنْ ضَرْبَةٍ نَجْلاَءَ يَبْقَى صَوْتُهَا بَعْدَ اَلْهَزَاهِزِ

فَقَالَ لَهُ عَمْرٌو: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ اِبْنُ عَمِّ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَخَتَنُهُ، فَقَالَ: وَاَللَّهِ إِنَّ أَبَاكَ كَانَ لِي صَدِيقاً قَدِيماً وَإِنِّي أَكْرَهُ أَنْ أَقْتُلَكَ؛ مَا آمَنَ اِبْنُ عَمِّكَ حِينَ بَعَثَكَ إِلَيَّ أَنْ أَخْتَطِفَكَ بِرُمْحِي هَذَا فَأَتْرُكَكَ شَائِلاً بَيْنَ اَلسَّمَاءِ وَاَلْأَرْضِ لاَ حَيٌّ وَلاَ مَيِّتٌ؟ 

فَقَالَ لَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): قَدْ عَلِمَ اِبْنُ عَمِّي أَنَّكَ إِنْ قَتَلْتَنِي دَخَلْتُ اَلْجَنَّةَ وَأَنْتَ فِي اَلنَّارِ وَإِنْ قَتَلْتُكَ فَأَنْتَ فِي اَلنَّارِ وَأَنَا فِي اَلْجَنَّةِ)، فَقَالَ عَمْرٌو: وَكِلْتَاهُمَا لَكَ يَا عَلِيُّ (تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ)، قَالَ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): دَعْ هَذَا يَا عَمْرُو إِنِّي سَمِعْتُ مِنْكَ وَأَنْتَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ اَلْكَعْبَةِ تَقُولُ: لاَ يَعْرِضَنَّ عَلَيَّ أَحَدٌ فِي اَلْحَرْبِ ثَلاَثَ خِصَالٍ إِلاَّ أَجَبْتُهُ إِلَى وَاحِدَةٍ مِنْهَا وَأَنَا أَعْرِضُ عَلَيْكَ ثَلاَثَ خِصَالٍ فَأَجِبْنِي إِلَى وَاحِدَةٍ. 

قَالَ: هَاتِ يَا عَلِيُّ! قَالَ: أَحَدُهَا تَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اَللَّهِ، قَالَ: نَحِّ عَنِّي هَذِهِ فَاسْأَلِ اَلثَّانِيَةَ، فَقَالَ: أَنْ تَرْجِعَ وَتَرُدَّ هَذَا اَلْجَيْشَ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) فَإِنْ يَكُ صَادِقاً فَأَنْتُمْ أَعْلَى بِهِ عَيْناً وَإِنْ يَكُ كَاذِباً كَفَتْكُمْ ذُؤْبَانُ اَلْعَرَبِ أَمْرَهُ، فَقَالَ: إِذاً لاَ تَتَحَدَّثُ نِسَاءُ قُرَيْشٍ بِذَلِكَ وَلاَ تُنْشِدُ اَلشُّعَرَاءُ فِي أَشْعَارِهَا أَنِّي جَبُنْتُ وَرَجَعْتُ عَلَى عَقِبِي مِنَ اَلْحَرْبِ وَخَذَلْتُ قَوْماً رَأَّسُونِي عَلَيْهِمْ. 

فَقَالَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): فَالثَّالِثَةُ أَنْ تَنْزِلَ إِلَيَّ فَإِنَّكَ رَاكِبٌ وَأَنَا رَاجِلٌ حَتَّى أُنَابِذَكَ، فَوَثَبَ عَنْ فَرَسِهِ وَعَرْقَبَهُ وَقَالَ: هَذِهِ خَصْلَةٌ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَداً مِنَ اَلْعَرَبِ يَسُومُنِي عَلَيْهَا، ثُمَّ بَدَأَ فَضَرَبَ أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) بِالسَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ فَاتَّقَاهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بِدَرَقَتِهِ فَقَطَعَهَا وَثَبَتَ اَلسَّيْفُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ): يَا عَمْرُو أَ مَا كَفَاكَ أَنِّي بَارَزْتُكَ وَأَنْتَ فَارِسُ اَلْعَرَبِ حَتَّى اِسْتَعَنْتَ عَلَيَّ بِظَهِيرٍ؟ فَالْتَفَتَ عَمْرٌو إِلَى خَلْفِهِ فَضَرَبَهُ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) مُسْرِعاً عَلَى سَاقَيْهِ قَطَعَهُمَا جَمِيعاً وَاِرْتَفَعَتْ بَيْنَهُمَا عَجَاجَةٌ فَقَالَ اَلْمُنَافِقُونَ: قُتِلَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ)، ثُمَّ اِنْكَشَفَ اَلْعَجَاجَةُ فَنَظَرُوا فَإِذَا أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) عَلَى صَدْرِهِ قَدْ أَخَذَ بِلِحْيَتِهِ يُرِيدُ أَنْ يَذْبَحَهُ فَذَبَحَهُ ثُمَّ أَخَذَ رَأْسَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى رَسُولِ اَللَّهِ (صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) وَاَلدِّمَاءُ تَسِيلُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ ضَرْبَةِ عَمْرٍو وَسَيْفُهُ يَقْطُرُ مِنْهُ اَلدَّمُ وَهُوَ يَقُولُ وَاَلرَّأْسُ بِيَدِهِ:

أَنَا عَلِيٌّ وَاِبْنُ عَبْدِ اَلْمُطَّلِبِ *** اَلْمَوْتُ خَيْرٌ لِلْفَتَى مِنَ اَلْهَرَبِ

هذه هي مبارزة النَّصر الحاسمة التي قال فيها رسول الله (ص): (إنا نغزوهم ولا يغزونا)، أي أن هذه المبارزة قطعت أرجل المشركين وطغاة العرب القرشيين وأحلافهم وأجلافهم عن المسلمين، وبالفعل بعد تلك المعركة الفاصلة كان رسول الله (ص) هو الذي يفرض أمره وقراره عليهم وكانوا يترجَّونه لا سيما بعد أن أجلى اليهود جميعاً من الجزيرة العربية وفتح مكة فصارت الدنيا أمامه أبواباً مفتحة لدخول النور والهداية، ولذا قال رسول الله (ص) عن تلك المبارزة: (بَرَزَ اَلْإِيمَانُ كُلُّهُ إِلَى اَلشِّرْكِ كُلِّهِ)، وكذلك قال الله تعالى عنها يمنُّ بها على المسلمين جميعاً إلى يوم القيامة: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ -بِعَلِيٍّ- وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) (الأحزاب/25)، فكان عبد الله بن مسعود يقول: هكذا نزلت، بل وأثبتها في مصحفه، على ما رواه الحسكاني صاحب (شواهد التنزيل)، والسيوطي في (الدُّر المنثور) وغيرهما.

وأما نتيجتها وأجرها وثوابها عند الله فهي كما بيَّنه رسول الله (ص) في وقتها وما بعدها بروايات مشهورة وقريبة من حدِّ التواتر وهي قوله: (لَضَرْبَةُ عَلِيٍّ لِعَمْرِو بْنِ عَبْدِ وُدٍّ أَفْضَلُ مِنْ عَمِلِ أُمَّتِي إِلَى يَوْمِ اَلْقِيَامَةِ)، أو (قتل علي لعمرو بن عبد ود أفضل من عبادة الثقلين)، أو (لضربة علي خير من عبادة الثقلين)، وغيرها من الأقوال النبوية المختلفة، ونسأل أمة الإسلام، وعبَّاد الصحابة: أين كانوا في يوم الخندق أو الأحزاب؟

وإذا كانت ضربة واحدة من أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في يوم الخندق عدا عن جهاده كله في كل المعارك والحروب، أفضل من عمل الأمة إلى يوم القيامة، أو تعدل عبادة الثقلين الإنس والجن إلى قيام الساعة، فكيف يقدِّمون عليه الصحابة ويقولون: إن فلاناً وعلاناً أفضل وضربة من ضرباته فقط خير منهما ومن أعمالهما والأمة بل والثقلين إلى يوم القيامة؟ فكيف يقدِّمون عليه غيره ممَّن ليس لهم ذكر مشهور ولا عمل في الحروب مذكور؟ فما لكم كيف تحكمون؟ ولماذا تشنِّعون علينا إذا قلنا بأنه -روحي فداه- أفضل من الأنبياء والرسل والأولياء جميعاً وضربته في يوم الخندق أفضل أو خير من عملهم كله فكيف بأعماله كلها التي كانت لله وفي سبيل الله؟

الوسام الأرقى للأمير (ع)

نعم تبقى مبارزة أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في يوم الخندق ومعركة الأحزاب وساماً ونيشان رباني على صدر التاريخ والزمن والأمة ويجب أن تفخر به لا أن تجحده وتنكره لأنهم جبنوا وخافوا وتخاذلوا بل عليهم أن يقروا الفضل لأهله حتى يكونوا من أهل الفضل، لأن مَنْ يجحد أو يُنكر فضل الفاضل فلا فضل له، ولن يكون لهذه الأمة فضل وهي تنكر فضل أميرها وإمامها رغم كل ما يحمل من أوسمة ربانية ورسولية لا يشاركه فيها أحد من العالمين كهذه الأعمال وما تبعها من أقوال في معركة الأحزاب، فهي تشكل الوسام الأرقى لأمير المؤمنين وسيد الوصيين لأنه جُعل (الإيمان كله)، وربنا سبحانه يقول للأعراب المدَّعين كذباً ونفاقاً: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ) (الحجرات/14)، أي لا يحق لكم أن تقولوا: آمنا إلا عندما تحبون أمير المؤمنين الإمام علي (ع) ويدخل حبه في قلوبكم، وإلا فلا تدَّعوا الإيمان بل ابقوا في حظيرة الإسلام الأولية. 

اضف تعليق