يرى كثير من متبني الفكر (الجديد)، أن التوتر الذي تسببه حالة الإزدواجية التي تصيب الإنسان حافز للحركة والتغيير، فجعلوها في مقابلة اليقين باعتباره قيمة ثابتة يرفضها - بحسب هؤلاء - منطق النشوء، لدرجة وصف اليقين بـ (الخرافة).
جاء في مقدمة (علي حرب) لكتابه الموسوم "تواطؤ الأضداد"، حين تحدث عن ازدواجية النشأة مُنظِّراً لفكر تركيبي اعتقده كاسراً لأنساق (التفكير الأحادي)، حيث يقول: " والوضع البشري يقدم المثال البارز، والشاهد الحي على أن الوجود ينسج من الأزدواج والإلتباس والتعارض، كما يتجسم ذلك في حركة التردد والتقلب بين الأقطاب والمتعارضات : الرغبة والقدرة، العقل والوهم، العلاقة والدلالة، المبدأ والغاية، المعنى والقوى، الفرد والمجتمع، الواقع والمثال، الواقعي والإفتراضي..كما هي الثنائية المتداولة اليوم ".
بهذه الرؤية، يؤسس (علي حرب) لفكرة " الإنسان الكوكبي " ويراهن عليه في تقديم وسائل تتيح الإمكانات الخصبة لفكر متحرر ذي نظرة سليمة، حيث يعتقد أنّ مشكلة البشرية أنها " أُتخِمت تأليهاً وتقديساً وتنزيهاً واصطفاء، وسوى ذلك من العملات العقائدية التي هي مصدر مصائبنا وكوارثنا ".
لم يبتعد (علي حرب) كثيراً في طرحه هذا عمّن سبقوه، سوى أنه تعمد ارتفاعاً لفظياً في لغته النقدية لدرجة الترف التنظيري المبالغ في نخبويته، ولم يخف تذمره المشابه لتذمرات سابقة عبر عد المفاهيم الدينية كالتأليه والإصطفاء بأنها مصدر الكوارث والمصائب التي حلّت على البشرية. ويبدو أنه - رغم انتقاده لأشخاص آخرين في نفس الموضع - متأثر بالنموذج الأوروبي (الحداثي)، حيث يعد أوروبا رائدة في مواجهة منطق التفرد، وأكثر مصداقية من غيرها، في الوقت الذي يشدد فيه على أن الإقبال على المعطى الديني يؤدي إلى انهيار المعنى.
الحداثة المتأرجحة
ويحاول في قضية الحداثة أن يكون وسطياً، وذلك من خلال توجيه سهام النقد لمن وصفهم بـ (دعاة الحداثة)؛ لأنهم - بحسب تعبيره - " يشطبون بجرة قلم، او تصريح صحفي ماصنعه العرب من الحداثة الفكرية والثقافية منذ عقود "، معتقداً أنهم وقعوا أسرى الحداثة، ومنهم طه حسين، أو الشاعر الذي يجعل قصيدته منثورة، أو المرأة التي تخرج إلى عملها سافرة، ثم يعود ليقول بأن الذي جعل تقدم التجارب الفكرية والفلسفية؛ سببه أننا أسارى الثوابت التي تصنع العجز.
هو يضعنا هنا أمام نمطين من الأسر، فالأول نمط وقع أسير المفاهيم الحديثة، وآخر وقع أسير المُسَلَّمات والثوابت. ولو ناقشنا النمط الأول، لوجدنا أن الشاعر الذي نثر قصيدته، ووصفه بأنه من (دعاة الحداثة) كان قد تخلص من قواعد الشعر، فهو إذن تخلص من الثوابت والمُسَلَّمات كالعروض والروي، فلماذا يصفه (علي حرب) بأنه من مدّعي الحداثة؟.
ونفس الحال ينطبق على المرأة المتحررة، والخارجة سافرة لعملها، هل عليها العودة للحجاب حتى لاينطبق عليها وصف الإدِّعاء ؟ إذا ماأخذنا بنظر الإعتبار أن الحجاب معطى ديني بحت، ويعده الناقد في أماكن سابقة بأنه من مدمرات المعنى، ونسق من أنساق التفكير الأحادي الذي أراد ونظَّر لكسره عبر فكر تركيبي ينتج إنساناً كوكبياً يفكر بشكل مغاير.
أما بالنسبة للنمط الثاني، والذي عدَّه واقعاً تحت أسر المُسَلَّمات التي يراها معطلة للتقدم الفكري، وعاجزة عن تقديم عن تقديم الشروحات المقنعة لتغيير العالم، أو إعادة بنائه مثلما جاء في كتابه "الممنوع والممتنع ص85"، فعن أية حداثة فكرية وثقافية صنعها العرب منذ عقود كما هو يقول؟، ثم ينتقد الذين وقعوا أسرى الحداثة الغربية الذين شطبوا حداثة العرب بجرّة قلم؟.
إن هذا التأرجح غير المستقر على فكرة محددة، يعكس تشوشاً فكرياً وضباباً مفاهيمياً، واللافت أن (علي حرب) اعترف شأنه في ذلك شأن مفكرين آخرين بعدم امتلاكه مشروعاً فكرياً وثقافياً، ولانراه مصيباً في هذا، إذا أن له مشروعاً قائماً على شرعنة العبث، وتجاوز العقل عبر مقولات (المابعد) مثل مابعد الحداثة، وغيرها من المفاهيم التي جعلته في أطروحاته متشظياً، ومتناقضاً بامتياز عال.
نحن نعي أن الحداثة تعني صياغة الجديد من المفاهيم، آخذة بنظر الإعتبار التباين بين الأطراف الحضارية، لكن المشكلة تكمن في حداثويِّ الشرق الذائبين في منهج الغرب وفكره ؛ لأنهم بتروا الحداثة وقطعوها عن سياقاتها التأريخية، وانطلقوا مبهورين بقطيعة دعا لها منظرو الغرب مع الماضي عبر الرغبة في في ممارسة التعالي بلغة نقدية غامضة تعتمد المراوغة، وهم بذلك - بوعي أو بغيره - يُغيِّبون هويتهم وخصوصيتهم الحضارية مواصلين انموذج الهدر الفكري الذي سيترك حالة من فقدان المناعة تجاه الضغوط الخارجية المتنامية على حد تعبير (مصطفى حجازي)، فالضغوط هنا تعني إسقاط أدوات مستعارة من ثقافات أخرى، بل وتقليدها في كل شيء، مثل الدعوة التي أطلقها (طه حسين) في تقليد أوروبا ثقافة وحكماً وتشريعاً، أو على طريقة شكر الأقدار التي قالها (سلامة موسى) ؛ بسبب أن المصريين هم أقرب للأروبيين سحنة حتى مع تلوثهم - على حد تعبيره - بدماء الآسيويين.
لكن حتى مع هذه الإستعارة للأدوات النقدية من الثقافات الأخرى، لايمكن استعارتها بطريقة (النسخ واللصق) كما أراد (طه حسين)؛ لاعتبارات كثيرة، وبذلك سيكون النموذج النقدي أو الفكري مشوهاً.
مثل هذا الإنبهار بالغرب، امتد ليشمل النقد في حقول الأدب والإجتماع، في محاولة لعزل الخصوصية بالكامل، وإلباسها لباساً غربيَّ المفاهيم.
وتقليد واستعارة الأفكار من ثقافات أخرى، خصوصاً تلك التي يفصلنا عنها التأريخ والجغرافيا، يحيلنا إلى ظاهرة تتكرر للأسف من خلال تكرار العرب لممارستها، وهي ظاهرة (الإتباعية) التي تعتمد معطيات يمكن أن تضيء لفترة معينة، مستغلة بعض الظروف، لكنها سرعان ماتنطفئ، بعد أن يتكسر القناع الفكري الذي اختبأ خلفه تنظير (الإتباعيين)، ومثل هذه التوجهات الواهمة ؛ لن تنتج سوى الأفكار الإستهلاكية التي لاصمود لها على المستوى البعيد، ومنها وهم الإزدواجية المُنتِجة.
إنَّ الإشكالية المتمثلة بغياب المنهج الفكري أو النقدي، أو تعمد تغييب هذا المنهج، استهوت - على مايبدو - المفكرين والنقاد من راكبي موجة الفوضى الفكرية، حتى ظنوها (خَلّاقةً) شبيهةً بالفوضى الخلاّقة السياسية ؛ لذلك غابت البصمة الفكرية، وغاب الملمح النقدي، هذا الغياب صار ثيمة دائمة الحضور في كتابات أغلب المفكرين من النمط المزدوج.
أما الحديث عن الهدف الذي يراد الوصول إليه من خلال تبني هذه الفوضى، فإننا سنتركه للزمن؛ حتى نبعد أنفسنا عن جملة جاهزة تخلص إلى أننا من أصحاب نظرية المؤامرة، وإن كان الحديث عنها يبدو واقعياً.
اضف تعليق