السؤال الذي يبقى مستمرا، ما هي أسباب انتحار الفتاتين، وحين تتم الإجابة عن هذا السؤال بإخلاص وضمير من قبل المعنيين بالإجابة، فإننا حتما سوف نتمكن من التعامل العلمي الواقعي مع مثل هذه الأحداث كي نضع لها حدا، لاسيما أن حالات إيذاء النفس مستمرة ومتنوعة، بالإضافة إلى حالات العنف...
العنف هو كل فعل أو إجراء أو لفظ يُلحق الأذى بالآخر، وهنالك أنواع مختلفة للعنف، ولكن أخطرها هو العنف المجتمعي الذي يشمل العنف الأسري والعنف المدرسي وجميع أشكال العنف الأخرى.
يرتفع خطر العنف حين يبدأ بتهديد الأمن الفردي والجمعي على حد سواء، وأكثر أنواع العنف خطرا على المجتمع حين يتحول من كونه حالات فردية وينتقل إلى ظاهرة تتكرر بشكل يومي وتنتشر في معظم أو عموم شرائح المجتمع.
فالعنف المدرسي مثلا تدور رحاه في المدارس لاسيما مرحلة الابتدائية، ثم ينتقل ليشمل المراحل الأخرى المتوسطة والإعدادية ليزدهر العنف اللفظي في المرحلة الجامعية، هذا النوع من العنف حين يتحول إلى ظاهرة، فإنه سوف يشكل خطرا على المجتمع كله.
العنف الأسري تدور رحاه في دائرة الأسرة، لكنه يمتد بأذرعه ويتغلغل في النسيج المجتمعي، فيتحول من ساحة الأسرة إلى ساحة المجتمع كله، وهناك أنواع أخرى تتضافر فيما بينها لتنشب مخالبها في البنية الاجتماعية، وتهدد السلم الاجتماعي برمته.
أقسى وأخطر مشكلة يتسبب بها العنف وتهديده المجتمع، حين تعجز المنظومات الرسمية والأهلية عن مكافحته، وردعه، من خلال معرفة أسبابه وتأشيرها عبر دراسات واستقصاءات ميدانية تسهل عمليات المعالجة والمكافحة، فالعجز عن ردع العنف وتقليم مخالبه، يعني أننا كجهات رسمية ومدنية سمحنا لهذا الوباء الخطير بالتغلغل والتمدد المستمر، وهذا يعني أننا استسلمنا للعنف وفتحنا له أبوابنا ونوافذنا وسهّلنا له إمكانية تدميرنا.
في خبر بثته وسائل إعلام مختلفة أن هناك فتاتين في مقتبل العمر، إحداهما مواليد (1997) والأخرى مواليدها (2005)، أقدمتا على شنق نفسيهما وإزهاق روحيهما، في عمل مخطط له وفي عملية قتل ذاتي مع سبق الإصرار، هذا النوع من العنف يدق جرس الإنذار للمجتمع كله، ويؤكد أن الجهات المختصة الرسمية والدينية والتربوية عجزت حتى هذه اللحظة عن إيقاف مدّ العنف المتصاعد.
بين العنف الجسدي واللفظي
ولو أننا حاولنا البحث في الأسباب التي دفعت هاتين الفتاتين للانتحار بهذه الطريقة المخطط لها، فإننا سوف نكتشف بأن هناك عنفا تم توجيهه لهاتين الضحيتين، وإلا ما الذي يدفع فتاة في عمر الزهور (15) سنة لشنق نفسها بطريقة احترافية لو لم تكن حياتها مهدد وأمنها الجسدي والنفسي مهدد بالتدمير؟
أما الثانية فلم تكن كبيرة في السن، إنها أيضا في مرحلة عمرية شبابية مزدهرة، الحياة في هذه المرحلة تفتح للإنسان ذراعيها، وغالبا ما يبدأ الإنسان في بناء حياته المتميزة بهذه المرحلة، إنها في (23) سنة، وهذا يعني أنها في بداية شبابها، وأنها يمكن أن تبدأ حياتها العملية من هذا السقف العمري تحديدا، إذ يفترض أنها أنهت دراستها الجامعية وهي مهيّأة لمهنة أو حرفة أو وظيفة تحقق عبرها ذاتها وأحلامها.
السؤال الذي يبقى مستمرا، ما هي أسباب انتحار الفتاتين، وحين تتم الإجابة عن هذا السؤال بإخلاص وضمير من قبل المعنيين بالإجابة، فإننا حتما سوف نتمكن من التعامل العلمي الواقعي مع مثل هذه الأحداث كي نضع لها حدا، لاسيما أن حالات إيذاء النفس مستمرة ومتنوعة، بالإضافة إلى حالات العنف التي يتعرض لها الآخرين بفعل فاعل خارجي.
ولو أننا أجرينا مسحا نفسها لطبيعة الحياة التي عاشتها الفتاتين، فإننا سوف نكتشف بأن جذور العنف تغلغلت في تفاصيل حياتهما، فأسرتا الفتاتين لابد أنهما قامتا بتعنيفهما جسديا عبر الضرب وما شابه من أساليب التعذيب، أو نفسيا عبر الحرمان والتجاوز اللفظي المهين، لدرجة أنهما فقدا أي أمل في حياة هادئة مشجعة على البقاء والاستمرارية.
الأسرة التي تقوم بتعنيف أحد أفرادها (فتاة أو فتى)، هي نفسها تعيش في مجتمع مأزوم أخلاقيا، فالمجتمع غير العادل يتسبب بحالات اعتداء متبادَلة بين أفراده، وهذه الحالات بدورها تؤدي إلى زرع بذور العنف في نفوس وقلوب أولياء الأمور الذين لا يتورعون عن حرمان أبنائهم، بالإضافة إلى التجاوز عليهم بالضرب واللفظ الخادش الخشن الخالي من اللين والرحمة، ليصلوا إلى حدّ التخطيط المحترف للانتحار والإقدام عليه بلا تردد.
مقترحات لمكافحة العنف المجتمعي
ليس هناك مهرب من مواجهة مخالب العنف وتقليمها، هذه هي الطريقة الوحيدة التي تجعل الأمن المجتمعي أكثر تماسكا ورصانة، وهناك خطوات لابد من التركيز عليها ممن يقع عليهم مسؤولية تحجيم العنف ووقف أضراره، نضمّنها في المقترحات التالية:
- إطلاق حملات توعية لمحاصرة أنواع العنف الفرعية، كالعنف المدرسي والعنف الأسري، فمكافحة هذه الأنواع من العنف تسهم بشكل كبير بتقليم مخالب العنف الأكبر ونعني به العنف المجتمعي.
- لا تُعفى المؤسسات الإعلامية بمختلف أنواعها وأحجامها من المساهمة الجادة والفعالة، في إظهار المخاطر الجمة التي يتسبب بها العنف بشقّيه اللفظي والجسدي.
- المؤسسات التربوية يقع عليها جزء كبير من مسؤولية مكافحة العنف عبر غرس القيم النبيلة في النفوس والعقول، ونشر أسلوب اللين والتركيز على احترام كرامة الناس وعدَّها قيمة كبرى لا يمكن المساس بها.
- المؤسسة الدينية لها دورها الكبير في توعية الناس، لاسيما أرباب الأسر والمعلمين والرؤساء والمدراء وعناصر ضبط الأمن، وحتمية احترام الإنسان وحفظ كرامته.
- المفكرون والمثقفون لا يعفون من دورهم هذا في تحجيم العنف، ويجب عليهم الهبوط من بروجهم العالية كي يسهموا في أداء هذه الرسالة الإنسانية العليا، وعدم التذرّع بأفضلية الجانب الجمالي على الدور الإنساني للفكر والأدب.
- الأسرة أو العائلة لا تُعفى من دورها التربوي الأخلاقي، فهي اللبنة الأصغر التي تتحمل مسؤولية صياغة وتشكيل شخصية الفرد، فأما أن تجعل منه عنيفا مؤذيا، وإما إنسانا يتحلى بالأخلاق والسلوك الإنساني الرحيم المتوازن.
هذه بعض أدوات تقليم مخالب العنف، وقد يكون هناك المزيد من الأدوات والأساليب التي تجعل من الأمن المجتمعي أكثر رصانة وقوة، وتحارب العنف المجتمعي وتحاصره بما يحذف من حياتنا الأخبار والأحداث الصادمة للعنف بأنواعه.
اضف تعليق