الإلحاد، وعلى الرَّغم ممَّا يبدو عليه من جرأة فكريَّة، لا يقدِّم للفرد إجابة تُطمئن القلب، ولا رؤية تُسكِّن العقل؛ بل يتركه في مواجهة الكون بلا دليل، وبلا مرجعيَّة، وبلا وجهة؛ فيفقد الإنسان توازنه بين روحه وجسده، وبين ذاته والآخر، وبين وجوده ومصيره. وفي المقابل، يمنح الإيمان للفرد سياقًا متماسكًا...
في خضمِّ التحولات الفكريَّة المتسارعة التي يشهدها عالم اليوم، يبرز الإلحاد كظاهرة فلسفيَّة تتجاوز كونها مجرَّد موقف من الإيمان، لتصبح رؤية شاملة للعالم والإنسان والحياة. وقد يتوهم البعض أنَّ الإلحاد يحرِّر الفرد من القيود، ويوسِّع له آفاق العقل، غير أنَّ التَّأمل العميق في آثاره يكشف عن صورة أكثر تعقيدًا؛ فحين يُقصى الإيمان عن المشهد الوجودي، لا يغيب فقط الجواب عن "من خلقني؟"؛ بل يُجتثُّ المعنى من أصوله، وتُعاد صياغة منظومة القيم بصورة معكوسة، وتفقد البوصلة الأخلاقيَّة اتجاهها.
ونظرًا لخطورة هذا الموضوع وعمق تأثيره، سنخوض في تحليله للكشف عن آثاره البالغة في وجدان الفرد، وانعكاساته على سلوكه، وصلته بذاته ومحيطه من حوله، لنخلص إلى أنَّ غياب الإيمان لا يُلغي الأسئلة الوجوديَّة؛ وإنَّما يزيدها تعقيدًا، ولا يُحرِّر الإنسان؛ بل يدفعه إلى الضياع في متاهات التيه والفراغ؛ وسيكون المقال في محورين:
المحور الأوَّل: آثار الإلحاد على الفرد
لِلإلحاد آثار عديدة تُؤثِّر في الفرد، من أبرزها:
1. القصور في وعي الإنسان بمغزى الحياة.
يظلُّ الإنسان كائنًا باحثًا عن المعنى بطبعه، ولا يستطيع أن يعيش في فراغ معرفي، ولا يطمئنّ في ظلِّ غياب إجابات للأسئلة الكبرى التي تراوده منذ فجر وعيه:
من أين أتيت؟
ولماذا أنا هنا؟
وإلى أين أمضي؟
وهذه الأسئلة كانت وما زالت جوهر الكينونة الإنسانيَّة، ومفتاح السكينة النَّفسيَّة. غير أنَّ الإلحاد، حين يُقدَّم كإجابة بديلة لتلك التساؤلات، لا يلبث أن يعمِّق الحيرة بدل أن يبدِّدها؛ لأنَّه يعجز عن تقديم تفسير واعٍ ومتكامل للحياة والوجود.
في الرؤية الإلحادية، يُختزل الكون إلى تفاعلات مادِّيَّة صمَّاء، ويُنظر إلى الإنسان بوصفه نتاجًا عرضيًا لعمليات بيولوجية عمياء لا تقصد شيئًا ولا تهدف إلى غاية. وهذا النفي للغائيَّة يُفرغ الحياة من محتواها، ويجعل التجربة الإنسانيَّة برمتها بلا مرجع أعلى يُعطيها المعنى؛ فحين لا يكون للكون خالقٌ حكيم، تغدو الحياة سلسلة من الحوادث العبثيَّة، وتصبح الأسئلة الوجوديَّة من قبيل:
لماذا وُجدنا؟
وما هدف الحياة؟
مجرَّد أصداء لا تلقى إجابة، وتُقابل بالصمت أو السخريَّة. ومن هنا، يشعر الإنسان في ظلِّ الإلحاد كما لو أنَّه عالق في كونٍ لا يُصغي، يُدرك هشاشته لكنه لا يجد تفسيرًا لها، ويشعر بثقل وجوده لكنه لا يعرف لماذا.
وهذا الغياب للمعنى يخلِّف آثارًا عميقة تتجلَّى في مشاعر التيه، والفراغ الوجودي، والاغتراب عن الذَّات؛ فمن لا يعرف لماذا وُجد، ولا يستطيع أن يعرف من هو، ولا إلى أين يتجه، فيفقد بذلك الإحساس بالهوية.
وقد أشار عدد من علماء النفس إلى أنّ افتقاد المعنى يُعدّ من أعمق مصادر القلق والاضطراب النَّفسي، وهو ما يتجلَّى في ظواهر مثل الاكتئاب المزمن، وانعدام الهدف، والشعور بالوحدة. وهذه النتائج هي امتدادات طبيعيَّة لنظرة لا ترى في الحياة سوى مادَّة وحركة خالية من القيمة، ولا تعترف بما وراء الحسِّ والتجربة المباشرة.
ومع غياب الرؤية الإلهيَّة، تذوب المرجعيَّة الأخلاقيَّة كذلك؛ لأنَّ الأخلاق تُفقد جذورها المطلقة وتتحول إلى اتفاقات ظرفيَّة أو أهواء نسبيَّة؛ فيصبح الصواب والخطأ نسبيينِ لا معنى لهما خارج السياق المجتمعي أو النفعي، ممَّا يقوّض البنية الأخلاقيَّة التي يحتاجها الإنسان في تعامله مع نفسه ومع الآخرين. وإذا كان كلُّ شيءٍ قابلًا للتفاوض، فإنَّ القيم لا تعود تملك سلطة توجيهيَّة أو إلزاميَّة حقيقيَّة. وهذه الأزمة تنعكس على سلوك الفرد ومجتمعه، فتضعف المسؤولية وتُشوَّش البوصلة، ويغدو الإنسان معرضًا للضياع بين تيارات متعارضة من القيم والأهواء.
إنَّ الإلحاد يفتح الباب أمام رؤى متضاربة للحياة، فلا توجد قصة كبرى واحدة تضع الوجود في إطار مفهوم، وتتنازع الفرد آلافُ الرؤى والنماذج الفكريَّة المتباينة. وهذا التنوع، وإن بدا في ظاهره غنىً معرفيًا، إلَّا أنَّه في الحقيقة قد يُغرق الإنسان في فوضى تأويليَة، تجعله أشبه بورقة في مهبِّ رياح فكريَّة لا تهدأ (1). وأمَّا الإيمان، فإنَّه يمنح الإنسان تفسيرًا شموليًا متماسكًا، يُعيد ترتيب عناصر الحياة والكون في منظومة ذات معنى، ويجعل من وجود الإنسان جزءًا من خطة إلهية رحيمة، ويدفعه إلى السَّعي بوعي وطمأنينة نحو غاية واضحة.
لقد أظهرت الدراسات الحديثة وقبل ذلك أشار القرآن الكريم إلى حقيقة أنَّ الأفراد الذين يؤمنون برؤية دينيَّة متماسكة يكونون أكثر قدرة على تجاوز الأزمات، وأكثر ثباتًا نفسيًا، وأقلّ عرضة للانتحار والقلق والتشتت الوجداني؛ ولذلك، فإنَّ العودة إلى الإيمان ليست هروبًا من العقل ولا انسحابًا من السؤال؛ وإنَّما هي أقرب إلى نضج الوعي واكتماله، حين يدرك الإنسان أنَّ الإجابة المادِّيَّة وحدها لا تكفي، وأنَّه لا يهدأ إلَّا حين يجد لنفسه موقعًا في قلب الوجود، مرتبطًا بخالق حكيم رحيم؛ فالتفسير الواعي للحياة لا يُستمدُّ من الذرَّات ولا من الصدف، وإنَّما من رؤية تؤمن بأنَّ للوجود خالقًا، وللألم حكمة، وللموت معنى، وللحياة غاية، وبهذا فقط يستعيد الإنسان اتزانه، ويشعر بأنَّ لخطاه على هذه الأرض وجهة تستحق أن تُسلك؛ قال (تعالى): (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(2).
2. انهيار الكوابح الأخلاقيَّة أمام الشهوات.
إنَّ الإنسان بطبيعته مزيج من العقل والروح والجسد، وكلُّ جانب من هذه الجوانب يحتاج إلى توازن حتَّى تظلَّ النَّفس في حالة من الاستقرار والتكامل. إلَّا أنَّ هذا التوازن يحتاج إلى ضابط يوجِّه الغرائز، ويهذِّب الشَّهوات، ويضعها ضمن سياقها الإنساني النبيل. وحين يغيب هذا الضابط، ويُرفع عن النَّفس قيد المعنى والمحاسبة، تندفع الغرائز نحو الاستحواذ، وتتحوَّل الشهوة من طاقة حياتيَّة ضروريَّة إلى قوَّة جارفة تلتهم كلَّ ما يقف في طريقها؛ ولهذا السبب، فإنَّ الإلحاد بما يحمله من إنكار لوجود إلهٍ يراقب ويحاسب، يمثِّل منبعًا خطيرًا لانفلات الغرائز، وخصوصًا الشهوانيَّة منها.
في ظلِّ الرؤية الإلحاديَّة، تغدو الحرية مُطلقة من كلِّ قيد ديني، ولا يعود هناك معنى للحلال والحرام، ولا قيمة للضوابط الأخلاقيَّة التي كانت تُفسَّر سابقًا في ضوء الغاية من الخلق أو قداسة الجسد أو حرمة الإنسان. ويُصبح الجسد سلعة، والرَّغبة ملكًا خاصًا، والتصرفات مبررة ما دامت لا تُقابل برفض اجتماعي حاد. وهذه النظرة تؤدِّي تدريجيًا إلى تفريغ العلاقات من بعدها الإنساني، واستبدال الحبِّ الرزين بالنزوة العاجلة، وتفتيت مؤسَّسة الأسرة تحت شعار التَّحرر الفردي غير المقيد.
إنَّ غياب الشعور برقابة إلهية أو حساب أخروي، يجعل الحواجز الداخليَّة تتساقط، ويُصبح ضبط النفس جهدًا غير مبرر في منظور الذات، ما دام كل شيء متاحًا ولا عاقبة. لكنّ المفارقة أنَّ هذا الانفلات لا يُفضي إلى السَّعادة، وغالبًا ما ينتهي إلى فراغ أشدّ، واستهلاك مفرط لا يُشبع، ويجعل من الإنسان جسدًا يُستخدم بدل أن يكون كيانًا يُحترم.
وقد رصدت كثير من الدراسات النفسيَّة أنَّ تراجع الانضباط الأخلاقي المرتبط بالدِّين يُقابله في الغالب زيادة في الانغماس الجنسي غير المنظم، وما يصاحبه من اضطرابات نفسيَّة، مثل القلق، والشعور بالذنب، وفقدان الإشباع الحقيقي؛ ذلك أنَّ الإنسان، حين يحوّل شهوته إلى مركز لحياته، يكتشف لاحقًا أنَّها ليست قادرة على أن تمنحه ما كان يتوهمه من المعنى أو السعادة. والشهوة، وإن كانت جزءًا من الفطرة، إلَّا أنَّها حين تُفلت من ضوابطها، تصبح سيفًا ذا حدين، قد يُرضي الجسد لحظات؛ لكنه يترك الروح أكثر جوعًا وفراغًا (3).
ولا يُمكن إغفال الأثر الاجتماعي لهذا الانفلات؛ إذ تتصدَّع فيه منظومة العلاقات، وتضيع فيه قيم العفاف والحياء، وتُستهان فيه بالروابط الأسريَّة. فحين تُقدَّم اللذة الفرديَّة على مصلحة المجتمع، تتراجع قيمة التضحيَّة، وتُهمَّش فكرة الالتزام، ويُعاد تشكيل الهوية وفقًا للغرائز لا المبادئ. ويصبح الجسد هو الحاضر الأوحد في المشهد، بينما تُقصى الروح والعقل من دورهما القيادي.
هذا في الإلحاد، وأمَّا الإيمان فإنَّه يمنح الإنسان وعيًا أخلاقيًا عميقًا، ويربط شهوته بمقصدٍ أعلى، ويضع لذته في سياق العلاقة المسؤولة، التي تراعي قدسيَّة الآخر، وتحترم كرامة النَّفس، وتُشعر الإنسان بأنَّ كلَّ فعل له أثرٌ في ميزانه؛ في دنياه وآخرته. وبهذا، يكون ضبط الشهوة تهذيبًا لا حرمانًا، ويكون العفاف ترقيةً للنفس نحو مقام الإنسان الكامل لا كبتًا؛ قال الله (تبارك وتعالى): (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (4).
3. النزوع الأناني القائم على المنفعة الذاتيَّة.
في قلب كلِّ منظومة فكريَّة يكمن تصوّر معيَّن عن الإنسان:
من هو؟
وما غايته؟
وما علاقته بغيره؟
وتبعًا لهذا التصوّر تتشكَّل أنماط السلوك، وتُبنى القيم، وتُرسم حدود العلاقات الاجتماعيَّة. وحين يغيب الإيمان، وينكر الإنسان الخالق لهذا الكون تنشأ واحدة من أخطر الآثار التي يُخلِّفها الإلحاد في النَّفس الإنسانيَّة، وهي تغلغل النزعة الفرديَّة الأنانيَّة النفعيَّة، بوصفها جوهرًا جديدًا للهوية البشريَّة؛ فالرؤية الإلحاديَّة تقدِّم الإنسان ككائن مستقل بذاته، ولا يخضع لأي مرجعيَّة، ولا يُلزمه شيء خارج حدود وعيه الشخصي أو رغبته المباشرة. ولا يوجد في هذا التصور ضابط أخلاقي مُقدَّس، ولا قيمة عُليا تستحق التضحيَّة، ولا هدف يُعطي للأنا معناها إلَّا ما تختاره هي لنفسها. ومع سقوط فكرة التكليف الأخلاقي، وتفكك التصور الإلهي الذي كان يُحمّل الإنسان مسؤولية تجاه الآخرين، تنكمش الروح الأخوية لصالح نزعة فرديَّة مغلقة، ترى في الذات مركز الكون، وفي الآخرين وسائل لا غايات.
في ظلِّ هذه الرؤية، تُصبح العلاقات الاجتماعيَّة مشروطة بما تحققه من مكاسب شخصيَّة، وتفقد بعدها القيمي الذي كان يستمد معناه من الرحمة والعدل والتكافل. ويصبح الإنسان مدفوعًا إلى تقييم كلِّ شيءٍ بمنطق الربح والخسارة، وحتَّى القيم التي كانت تُعدّ مطلقة كالصدق، والإحسان، والتضحية، تُعاد صياغتها وفق ما تُحققه من نفع، لا وفق ما تمثِّله من حق. وهكذا يُعاد تشكيل الضمير وفق حسابات المنفعة، ويصبح الانحراف الأخلاقي قابلًا للتبرير إذا كان مربحًا (5).
على النقيض من ذلك، يمنح الإيمان الإنسان إدراكًا راسخًا بأنَّ ذاته هي أمانة ينبغي أن تُوظَّف في سبيل الخير، وأن وجوده لا يكتمل إلَّا في ضوء مسؤوليته تجاه غيره، لا في انعزاله عنهم؛ فالإيمان يربط الإنسان بعالم أوسع من ذاته، ويجعل من نفع الآخرين بابًا لنفع النَّفس، ومن التضحيَّة طريقًا للسمو، ومن الرحمة مقياسًا للنجاح الأخلاقي. وبهذا، لا تُلغى الذات؛ لكنها تتطهَّر من الأنانيَّة، ولا تُهمل المصلحة؛ لكنها توضع في ميزان أوسع يشمل الحقَّ والخير والعدل، وأنَّ أعماله سيسأل عنها ويراها؛ قال الله (عزَّ وجلَّ): (وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (6).
المحور الثَّاني: آثار الإلحاد على المجتمع
وبعد أن تبيَّنَت لنا آثار الإلحاد على الفرد، ننتقل الآن إلى استعراض آثاره على المجتمع:
1. اتِّساع نطاق الإقدام على الانتحار.
ظاهرة الانتحار تمثّل صدىً مؤلمًا لاضطرابٍ عميق في منظومة المعنى، وتجسيدًا مأساويًا لعجز الإنسان عن فهم سبب وجوده، وعجزٍ أشدّ عن الصمود أمام معاناته حين تغيب الإجابة التي تمنحه الرجاء وتثبِّت قلبه في لحظات الانكسار. ومتى انتشرت هذه الظاهرة في مجتمع ما، فإنَّها تطرح تساؤلات وجودية حادة، لا تكفي لها التحليلات الطبيَّة أو الاجتماعيَّة المجرَّدة؛ وإنَّما تستلزم تأملًا في الأساس العلمي الذي يحكم نظرة ذلك المجتمع إلى الحياة والموت والغاية من الوجود.
ينظر الملحد إلى الإنسان باعتباره كائنًا وُجد بالصدفة في كون بلا قصد، ولا تحكمه غاية، ولا يُنتظر منه أن يحقق هدفًا أسمى يتجاوز وجوده. وهذه النظرة، مهما حاولت أن تُغلف نفسها بالحياد العلمي أو الحرية الفرديَّة، تزرع في أعماق النفس البشرية شعورًا دفينًا بالعبث؛ إذ لا شيء بعد الموت، ولا سلطة للغيب، ولا معنى جوهري لمعاناة الإنسان أو كفاحه. وعندما يُصاب الفرد بأزمة أو ألم شديد، ولا يجد تفسيرًا يسمو فوق واقعه المؤلم، ويتعاظم فيه الإحساس بأنَّ الحياة لا تستحق أن تُعاش، وأن الخروج منها ليس فقدانًا لشيء ذي قيمة.
وتُظهر الإحصاءات الحديثة ارتفاعًا ملحوظًا في معدلات الانتحار في المجتمعات ذات الطابع الإلحادي أو التي تضعف فيها المعتقدات الدينيَّة، بالمقارنة مع المجتمعات التي تملك أنظمة إيمانيَّة راسخة (7). ولا يمكن فهم هذا التفاوت من دون الإقرار بدور الدِّين في توفير شبكة من المعاني العميقة التي تعطي للحياة ثباتًا، وللمحنة بُعدًا تربويًا، وللموت نفسه وظيفة انتقالية، لا نهاية عبثيَّة؛ فالدِّين يمنح الإنسان إحساسًا داخليًا بأنَّ وجوده محسوب، وأنَّه ليس وحده في مواجهة آلامه؛ فهناك إله يسمع ويرى ويقدر، ومآلات أبدية تنتظر من يصبر ويحتسب. وأمَّا غياب هذا الإطار الإيماني يحرم الإنسان من سند داخلي يُعينه على الصبر، ويجرده من اللغة التي يُفسر بها ألمه. وعندما تصبح الحياة قائمة فقط على اللذة أو النجاح؛ فإنَّ أي خسارة كبيرة تُفسَّر كفشل كامل، وأي ألم يُعدّ دليلًا على عبثية الوجود، وأي عجز يُفهم كفقدان نهائي للكرامة أو القيمة. وبهذه العقليَّة، يصبح الانتحار خيارًا عقلانيًا بالنسبة لمن لم يعد يرى في الحياة ما يستحق البقاء لأجله، ولم يعد يؤمن بأنَّ هناك بعد الموت عدالة أو لقاء أو تعويض.
بينما المؤمن يحمل منظومة متكاملة تُحيط الحياة بسياج من القداسة، وتمنح الإنسان أملًا أبديًا، وتربطه بخالق يعلم ضعفه ويرحمه، ويعده بأنَّ كلَّ لحظة ألم تُحتسب، وكلَّ دمعة لا تضيع. وفي هذا المعنى، لا يعود الموت حلًا، بل انتقالًا، ولا تُعدّ الحياة مجرد ساحة ألم، بل ميدانًا لاختبار يُكلَّل بالنجاة والرضا. وهكذا يصمد في وجه الشدائد؛ لأنَّه يؤمن بأن ألمه ليس بلا غاية، وأن بعد كلِّ ظلمة فجر لا يغيب؛ قال الله (تعالى): (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُو۟لَـٰٓئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُو۟لَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ) (8).
2. تفاقم الأنشطة الإجرامية.
كلُّ مجتمع إنساني يقوم على منظومة من القيم تُنظِّم سلوك أفراده، وتضبط علاقاتهم، وتؤسس للثقة المتبادلة التي من دونها تنهار أركان الحياة المشتركة. وهذه القيم تنبع من نظرة الإنسان إلى ذاته والآخرين والكون من حوله. وحين تسود العقيدة الدينيَّة، تكون الأخلاق متصلة بمصدر أعلى من البشر؛ أي بالله (تعالى)، فيشعر الإنسان برقابة داخلية تتجاوز القانون، ويلتزم بالسلوك القويم إيمانًا منه بأنَّه مسؤول أمام خالق لا يغفل ولا ينسى. وأمَّا حين يسود الإلحاد، ويُستبعد الإيمان من الحياة العامَّة، تُصبح القيم نسبية، وتُفصل الأخلاق عن معناها الغيبي، فتضعف الرقابة الذاتيَّة، وتتشوه البوصلة الأخلاقيَّة، ويُفتح الباب أمام طوفان من الانحرافات السلوكيَّة، في مقدمتها الجريمة.
في ظلِّ الرؤية الإلحادية، تُفهم القوانين على أنَّها نتاج اجتماعي محض، يمكن الاتفاق عليها وتعديلها على وفق مصالح الإنسان المتغيرة. ولا تعود مفاهيم مثل الحلال والحرام، أو الحق والباطل، ثابتة وراسخة، وتتحول إلى وجهات نظر نسبية، قابلة للتأويل والنقاش بحسب الظرف والبيئة. وبهذا تُفرَّغ الأخلاق من قوتها الرادعة، ويُفصل الضمير عن الإيمان، ويُعاد تشكيل السلوك وفق ما يُمكن الإفلات به من العقوبة لا ما يرضي الضمير أو يقتضيه الواجب الإنساني. وتنشأ بيئة خصبة لتبرير الانحرافات، وتنتعش الجرائم حين يغيب الدافع الروحي الرادع، ويُستبدل بالخوف من القانون وحده، وهو خوف لا يكفي لكبح نوازع الطمع أو الغضب أو الرغبة في السيطرة؛ فغياب الإيمان يعني غياب الإحساس بأنَّ هناك من يراقب الإنسان في خلوته، ويرى أعماله مهما أخفاها. وعندما تُفقد هذه الرقابة الغيبيَّة، تتحول الخلوة إلى فرصة، وتُصبح الجريمة احتمالًا واردًا ما دامت فرص النجاة من العقاب قائمة؛ ولعلَّ أوضح شاهد على هذا ما قاله عمر بن سعد (لعنه الله) حينما جاء إلى قتال الإمام الحسين (عليه السلام)؛ فقال:
فواللّه ما أدري وإنــــــــي لـحائرٌ --- أفكِّرُ في أمــــري على خطرينِ
أأتركُ ملكَ الرّيِّ والرّيُّ مـــنيتي --- أم أرجعُ مأثــــــومًا بقتلِ حسينِ
حسينُ ابن عمي والحوادثُ جمّةٌ --- لعمري ولـي في الرَّيِّ قرةُ عينِ
ألا إنمـا الدنيا بـــــــــخيرٍ معجّلٍ --- وما عاقلٌ بـاعَ الـــــوجـودَ بدينِ
يقولونَ إنَّ اللّه خـــــــــــالقُ جنةٍ --- ونارٍ وتعذيـبٍ وغـــــــــــلِّ يدينِ
فإن صدقوا فيما يـقولـــون إنني --- أتوبُ إلى الرحمــنِ من ســـنتينِ
وإنَّ إلهَ الــــــــعرشِ يغفرُ زلَّتي --- ولو كنتُ فــــــــيـها أظلمَ الثقلينِ
وإن كذبوا فزنا بدنــــيا عظيمةٍ --- وملكٍ عظيـــــــــــمٍ دائمِ الحجلينِ (9).
إنَّ غياب الإيمان يعني تفكك المجتمع، وانتشار الخوف، وازدياد حالات الاعتداء؛ لذلك، فإنَّ مواجهة الجريمة تبدأ من ترسيخ الإيمان، لا فقط من تشديد العقوبات؛ إذ إنَّ القلوب المؤمنة لا تعرف للعدوان طريقًا؛ لأنَّها ترى في كلِّ لحظة اختبارًا، وفي كلِّ فعل مسؤوليَّة أمام يوم لا ينفع فيه مال ولا نفوذ؛ بل قلبٌ سليم وسيرة تتسم بالصلاح؛ قال الله (سبحانه): (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ* إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (10).
3. تفشي التصدع في البنى العائليَّة والاجتماعيَّة.
الأسرة هي نواة تكوينية تُبنى عليها المجتمعات، وتُزرع من خلالها القيم، وتتجذر فيها المشاعر الأولى التي تُشكِّل هوية الإنسان. وإذا كانت الأسرة في التصور الدِّيني رابطة مقدَّسة، فإنَّها في المنظور الإلحادي تتحوَّل إلى علاقة تعاقدية، يمكن أن تُحلَّ متى فقدت نفعها أو لذَّتها، من دون التزام بأفق أخلاقي أوسع من المصلحة المباشرة، فينشأ التفكك الأسري كنتيجة أعمق لفقدان المرجعيَّة الإيمانيَّة التي تمنح الروابط الأسرية قدسيتها وعمقها الرِّسالي.
حين يُستبعد الدين من منظومة الحياة، ويُعاد تعريف العلاقة بين الرجل والمرأة على أساس رغبة عابرة لا ميثاق غليظ، وتُختزل الأبوة في الوظيفة البيولوجية لا في الدور التربوي، وتفقد الأمومة بعدها النبيل لتُحوَّل إلى عبء اجتماعي يمكن تجاوزه بالتحرر من "قيود الأسرة" تنتهي بتفكيك البناء الأسري الذي تأسَّس على المحبَّة في الله (تعالى)، والمسؤوليَّة تجاه الأبناء، والتَّعاون في دروب البرِّ والتَّقوى.
إنَّ الإلحاد حين يقدِّم الإنسان ككائن حرّ لا يخضع إلَّا لرغباته، يُشجع على النزعة الفرديَّة التي تتعارض مع روح الأسرة القائمة على العطاء والتضحيَّة. وفي غياب الإيمان، لا يعود الصبر على الخلافات الزوجيَّة عبادة، ولا يُنظر إلى تربية الأبناء كرسالة، وإنَّما تتحوَّل الحياة الأسريَّة إلى مشروع مشروط بالرضا اللحظي. وما إن تختل المعادلة النفسيَّة أو المادِّيَّة، حتَّى تُحلّ الأسرة كما يُحلّ أي عقد عمل، من دون إحساس بالذنب أو بالمسؤوليَّة، وتكون النتيجة جيلًا من الأطفال الذين نشأوا في فراغ وجداني، أو على هامش التفكك، محرومين من دفء العائلة، ومستقبلهم معلق على ترميم ما لم يُبنَ أصلًا.
وهذا التفكك الأسري ينسحب أثره إلى البنية الاجتماعيَّة كلها؛ فحين لا يتعلَّم الفرد في أسرته قيم الانتماء، والحوار، والتَّعاون، والرَّحمة، فإنَّه يدخل إلى المجتمع بعقلية انعزاليَّة، ولا يؤمن بالعلاقات إلَّا من زاوية النفع المتبادل. وهكذا تضعف الروابط الاجتماعيَّة، ويضمحل الإحساس بالمسؤوليَّة الجماعية، وتتآكل القيم التي تشدُّ النَّاس بعضهم إلى بعض. ومع ضعف الأسرة، تفقد المجتمعات آلية التوازن الأخلاقي، وتضطر إلى تعويض ما خسرته بالقوانين والمراكز النفسيَّة ودور الرعاية، من دون أن تنجح في استعادة الدفء الذي لا يُمنح إلَّا من خلال رابطة تقوم على المودَّة والرحمة والإيمان؛ فالإيمان يمنح للأسرة معناها العميق، ويجعل من كلِّ رابط فيها عبادة، ومن كلِّ تضحية فيها قربى إلى الله (سبحانه)، ومن كلِّ مسؤولية فيها أمانة يسأل عنها العبد يوم القيامة؛ عَنْ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (عَلَيْهِ السَّلاَمُ) قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ: لاَ تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ؛ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اِكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ حُبِّنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ"(11) .
إنَّ الإلحاد، وعلى الرَّغم ممَّا يبدو عليه من جرأة فكريَّة، لا يقدِّم للفرد إجابة تُطمئن القلب، ولا رؤية تُسكِّن العقل؛ بل يتركه في مواجهة الكون بلا دليل، وبلا مرجعيَّة، وبلا وجهة؛ فيفقد الإنسان توازنه بين روحه وجسده، وبين ذاته والآخر، وبين وجوده ومصيره. وفي المقابل، يمنح الإيمان للفرد سياقًا متماسكًا يفهم من خلاله الحياة، ويهذِّب غرائزه، ويُرشد رغباته، ويثبّت خطاه على درب المعنى. ويُنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا مكرمًا خُلق لغاية، لا كيانًا خاضعًا للصدفة والتقلبات العشوائيَّة، وله دور، وله خالق حكيم لا يتركه سدًى؛ قال الله (جلَّ جلاله): (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ) (12).
...................................
اضف تعليق