حكومتي ليبيا المتنافستين قد تستعملان هذه الأزمة بطرق انتهازية. إذ يمكن أن تحولا أموال إعادة الإعمار إلى غير مقاصدها، وبذلك تحرما المحتاجين وتزعجا المانحين الذين يقدمون هذا الدعم. أو يمكن أن ترميا نفسيهما في منافسة على السيطرة تصرفهما عن جهود التعافي. وثمة علامات أصلاً على حروب للسيطرة على المناطق...
في أعقاب انهيار أحد السدود وحدوث فيضان هائل، زارت خبيرة مجموعة الأزمات كلوديا غازيني درنة في شرق ليبيا لتغطي جهود الإغاثة وتقيِّم استجابة الحكومتين المتنافستين.
من المروّع زيارة مدينة درنة على الساحل الليبي بعد انهيار السدود، وبعد أن غمرت مياه الطوفان المدينة في الساعات الأولى من 11 أيلول/سبتمبر، الأمر الذي أسفر عن وفاة ما يقدر بـ 20 ألف شخص. ظل مسجد المدينة الأبرز، مسجد الصحابة، وقبته الذهبية دون مساس، لكن ما تبقى من مركز المدينة يمكن وصفه في أحسن الأحوال على أنه سهل شاسع من الكتل الإسمنتية. أُخبِرت أن مياه الفيضان سوَّت كثيراً من المباني التي كانت هنا بالأرض مباشرة، وجرفت بعضها إلى البحر، حيث تقبع حالياً في وحول البحر المتوسط. والمباني القليلة التي صمدت أمام الفيضان لم تنجُ تماماً، حيث إن طبقاتها الأولى غرقت في المياه التي غمرتها.
كانت قد أتيحت لي مؤخراً فرصة رؤية واقع بديل لدرنة وسكانها. فقد عملتُ مراقبة ومحللة للشأن الليبي على مدى السنوات الإحدى عشرة الماضية، وكنت قد زرت درنة قبل نحو شهرين لا أكثر. رغم سنوات الحرب الأهلية والإهمال الحكومي طويل الأمد، كانت المدينة مزدهرة. فالمباني التي كانت قد تضررت خلال سنوات الصراع كانت قد رُممت. وكان العمال يضعون اللمسات الأخيرة على مكتبة عامة جديدة. وكانت المطاعم تفتح أبوابها لروادها. الآن، المدينة كلها مساحة واسعة من الأنقاض. أما فرص العثور على الآلاف الذين مازالوا مفقودين، ناهيك عن ناجين على قيد الحياة، فتتضاءل كل يوم.
لحسن الحظ، فإن المدينة تتلقى بعض المساعدات. على عكس المخاوف وبعض التوقعات، فإن المساعدات الخارجية تجد طريقها إلى درنة. علاوة على ذلك، فإن الليبيين العاديين – حتى أولئك الذين يقطنون أجزاء من البلاد تحكمها السلطات التي تتخذ من طرابلس مقراً لها ولا تسيطر على هذه الزاوية من الشرق الليبي – اندفعوا لإرسال المساعدات.
لكن في الوقت الذي تشكل فيه المساعدات الخارجية أخباراً طيبة دون شك، أخشى أنه بمرور الوقت، سيتلاشى الاهتمام الدولي بالمدينة وستعود الفصائل الليبية المتنافسة إلى سابق عهدها – تستغل الأزمة لتحصيل مكاسب مالية أو سياسية بدلاً من السماح لها بأن تكون محفزاً لدرجة أكبر من التعاون في إعادة الإعمار، سواء في درنة أو في البلاد بأسرها.
جذور المأساة
نجمت المأساة التي حلت بدرنة من الانهيار المفاجئ لسدَّي المدينة، اللذين كانت قد بنتهما شركة يوغسلافية في أواسط سبعينيات القرن العشرين. وانهار السدّان أولاً وقبل كل شيء بسبب الأمطار الغزيرة التي أحدثتها العاصفة الشبيهة بالإعصار والتي عُرفت باسم دانييل – التي ضربت شرق ليبيا في 10 أيلول/سبتمبر – والتي تدفقت إلى الوادي الواقع في جنوب درنة، الأمر الذي جعل المياه تغمر السدَّين، وفي النهاية تؤدي إلى انهيارهما.
كان العمل الرامي إلى تجديد هذين السدَّين قد بدأ في عام 2008، لكنه لم يكتمل. لكن إلى أي حد يمكن أن يُعزى ما حدث إلى هذه الحقيقة فموضع جدال. تجادل السلطات المحلية ووزارة المياه الليبية بأنه حتى سدٌّ جديد، بني على نحو مثالي، ما كان ليصمد أمام الكميات غير المسبوقة من المطر التي انهمرت على درنة تلك الليلة. من المبكر جداً تكوين رؤية شاملة حول ما إذا كان هذا الزعم دقيقاً، رغم أني آمل أن أتمكن من تقديم بعض الأفكار في هذا الصدد في مقالة لاحقة. ما يمكن قوله بشكل جازم هو أن عقداً من الحوكمة السيئة، والصراع المتقطع والاقتتال السياسي دمر ليبيا بصورة عامة، ودرنة على نحو خاص، ما جعل سكانها عرضة لانهيار السدود وأحداث القوة القاهرة الأخرى.
تعود صعوبات درنة إلى عقود مضت. فقد عانت المدينة خلال حكم رجل ليبيا القوي العقيد معمر القذافي على مدى 42 عاماً. كانت فصائل المدينة قد عارضت حكمه، بينما حرمها هو من الاستثمارات انتقاماً منها. لكن بعد إطاحة التحالف الدولي بنظام القذافي عام 2011 بتفويض من الأمم المتحدة، أصبح الوضع أسوأ. إذ انزلقت ليبيا في النهاية إلى حرب أهلية. في عام 2014، قسمت الانتخابات التي طُعن بنتائجها عام 2014 البلاد إلى قسمين. وفي العام التالي، سيطر مقاتلون إسلاميون على درنة وأعلنوها جزءاً من خلافة تنظيم الدولة الإسلامية.
في حين أُسقط حكم المتشددين في عام 2016، فإن الحرب استمرت في درنة لعام آخر – هذه المرة بين الإسلاميين المحليين، من جهة، وقوى يقودها المشير خليفة حفتر، من جهة أخرى. خلال ذلك الوقت، تشظت ليبيا، حيث انقسمت السلطة بين حكومتين وتحالفين عسكريين متنافسين. وما تزال البلاد منقسمة حتى اليوم، حيث هناك حكومة معترف بها دولياً يرأسها عبد الحميد دبيبة، ومقرها طرابلس، وإدارة منافسة في الشرق، يقودها أسامة حماد. ركزت هذه الفصائل على مدى العامين الماضيين على التنافس على السلطة والمال، ولم تستثمر إلا على نطاق محدود في إعادة إعمار المباني والجسور في المناطق التي تسيطر عليها، بينما تهمل البنية التحتية الرئيسية في البلاد، بما في ذلك الجسور والممرات المائية.
الانقسام الحكومي وثيق الصلة بالوضع في درنة لأن الحكومة المعترف بها دولياً التي تتخذ من طرابلس مقراً لها، والتي تشمل مجلساً رئاسياً يرأسه محمد المنفي، لا تتمتع بأي سلطة على المنطقة المنكوبة في شرق ليبيا. حكومة حماد، المدعومة من الجيش الوطني الليبي بقيادة حفتر هي التي تشرف على العمليات في الشرق وتتمتع بسيطرة فعلية على درنة.
علاوة على ذلك، فإن المانحين الدوليين يصطفون أيضاً على جانبي الانقسام – حيث يدعم البعض حفتر ويدعم آخرون الحكومة الموجودة في طرابلس. وكان هناك مخاوف واسعة النطاق عندما ضربت الكارثة أن مثل تلك الخصومات ستعيق جهود الإغاثة وتمنع درنة من الحصول على المساعدات التي تحتاجها.
تعاون غير متوقع
لكن على عكس المخاوف فإن الحكومتين المتنافستين وجدتا طريقة للعمل معاً. تصل المساعدات الإنسانية من الخارج، وبدأت فرق الإنقاذ الدولية بالعمل على الأرض. كما تصل المساعدات من جميع أنحاء ليبيا، يقدمها أنصار كلا الإدارتين، الأمر الذي نجح في إيصال الإمدادات إلى المناطق التي تحتاجها.
بالنسبة للمانحين الخارجيين، فإن مصر والإمارات العربية المتحدة، وكلتاهما دعمتا الجيش الوطني الليبي في الشرق على مدى سنوات، قدمتا مساعدات سخية وفي الوقت المناسب. قد تكون الإمارات هي التي أرسلت معظم الطائرات، التي تحمل الغذاء والمواد اللازمة للإيواء، إضافة إلى فرق متخصصة في الإنقاذ من تحت الماء. أخبرني رئيس لجنة الطوارئ التي شُكلت حديثاً في درنة، العميد باسط بوغريس أنه منذ وقوع المأساة، “لم تتوقف الرحلات الجوية من الإمارات العربية المتحدة التي تحضر المساعدات والفرق التقنية“. مصر، من جهتها، أقامت استعراضاً لافتاً لإعلان شحنات مساعداتها؛ إذ ترأس الرئيس عبد الفتاح السيسي عرضاً متلفزاً قرب الحدود المصرية – الليبية يظهر عشرات البلدوزرات، والشاحنات وسيارات الإسعاف وهي تدخل ليبيا.
لكن دولاً أخرى شاركت في تقديم المساعدات أيضاً. فخلال يوم من حدوث الفيضان، أرسلت تركيا وإيطاليا (اللتان تدعمان الحكومة في طرابلس) أولى طائراتهما التي تحمل فرق ومعدات البحث والإنقاذ من كل منهما. وبعد أيام، أرسلتا كلتاهما سفناً تحمل معدات أثقل، بما في ذلك مروحيات. وشاهدتُ عمال إنقاذ من الأردن، والجزائر، وتونس، وإسبانيا ومالطا يبحثون عن أحياء في الركام. في 16 أيلول/سبتمبر، على الطريق السريع المفضي إلى درنة، لمحت طائرة شحن روسية متوقفة في مطار البراق، على بعد 40 كم غرب المدينة. شاهد عيان محلي أخبرني أن الطائرة كانت قد أفرغت حمولتها المكونة من فريق مكون من نحو 40 عامل إنقاذ ومعداتهم. التقيت بعد أيام بأفراد أحد هذه الفرق يأخذون استراحة تحت بقايا مبنى انهار جزئياً. لم يتمكنوا من العثور على أحياء على ما أخبروني؛ وبدلاً من ذلك، يتركز عملهم في المساعدة في الحفر لإخراج الأموات.
تتحدى جهود الإغاثة الدولية الانقسامات الجيوسياسية التقليدية. وليس من المفاجئ أن تجد حلفاء حفتر القدماء، مثل الإمارات العربية المتحدة ومصر، يتقدمون للمساعدة. “من مصلحة مصر الإستراتيجية ضمان استقرار الأمور هنا في أقرب وقت ممكن“، كما أشار محلل سياسي غربي. لكن حتى بعض أعداء الجيش الوطني الليبي السابقين باتوا في مقدمة عمليات البحث والإنقاذ الآن.
قد تكون تركيا المثال الأبرز على ذلك. فقبل عام فقط، كان من المستحيل تخيُّل رسو سفينة تابعة للبحرية التركية في شرق ليبيا، ناهيك عن طواقم تركية تنتشر على الأرض هنا. في المحصلة، لم تكد تمر ثلاث سنوات منذ تدخلت أنقرة عسكرياً في ليبيا لوقف تقدم قاده حفتر على طرابلس. وعند نقطة معينة في أواسط عام 2020، كان هناك احتمال حتى أن تشن أنقرة هجوماً مضاداً ضد القوات التي يقودها حفتر في شرق ليبيا.
لكن من الواضح أن تركيا لا تريد أن تضع بيضها كله في سلة واحدة. فعلى مدى العام الماضي، دأبت على العمل بجدية للانخراط سياسياً وبناء علاقات عمل مع سلطات شرق ليبيا والقوات العسكرية هناك، بموازاة مبادراتها الدبلوماسية نحو مصر. تسهم جهود الإنقاذ الحالية في تعزيز تلك الروابط. وأشار العميد بوغريس إلى أن تركيا واحدة من أكبر مقدمي المساعدة في أزمة درنة، بعد الإمارات ومصر. قطر، التي وقفت أيضاً مع طرابلس خلال الهجوم الذي قاده حفتر نفسه، أرسلت أيضاً مساعدات لشرق ليبيا.
جهود الإغاثة الدولية تتحدى الانقسامات السياسية التقليدية
يشكل وصول المساعدات الأجنبية أخباراً جيدة، وكذلك حقيقة أن الليبيين العاديين يضعون خلافاتهم السياسية جانباً لمساعدة درنة في وقت حاجتها. لكن بالتطلع إلى الأمام، ثمة أمران يثيران مخاوفي.
أولاً، أخشى أنه حالما تنتهي عمليات البحث والإنقاذ ويتحول الاهتمام الدولي إلى أزمات أخرى، فإن العواصم الأجنبية، ولا سيما الغربية منها، التي أرسلت المساعدات الإنسانية وفرق الإنقاذ إلى درنة إما ستتوقف عن الانخراط أو ستقلص مساعداتها بشكل كبير. سيظل البعض موجوداً؛ فالإمارات العربية المتحدة، ومصر وروسيا، التي لها تحالفات قديمة مع السلطات المحلية، ستستمر في المساعدة على المستويات التي تتناسب مع إمكاناتها المالية. تركيا، التي يبدو أنها تركز على تعزيز علاقاتها الجديدة مع القادة المحليين، ستظل أيضاً موجودة على الأرض. لكن معظم البلدان الغربية من المرجح أن تنسى قريباً منطقة الكوارث هذه. لقد رأيت أصلاً الفرق الإسبانية والمالطية تغادر خلال مدة وجودي. وهذا أمر سيء؛ فالوجود الغربي مهم. من منظور إنساني، فإن العواصم الأوروبية لديها خبرة تقدمها، وهي في الجوار، على الساحل الآخر للبحر. وكمسألة جيوسياسية، من الغريب أن ترغب القوى الأوروبية بالتخلي عن مكانتها للنفوذ العربي، والتركي والروسي المتنامي هنا.
ثانياً، أشعر بالقلق من أن حكومتي ليبيا المتنافستين قد تستعملان هذه الأزمة بطرق انتهازية. إذ يمكن أن تحولا أموال إعادة الإعمار إلى غير مقاصدها، على سبيل المثال، وبذلك تحرما المحتاجين وتزعجا المانحين الذين يقدمون هذا الدعم. أو يمكن أن ترميا نفسيهما في منافسة على السيطرة تصرفهما عن جهود التعافي. وثمة علامات أصلاً على حروب للسيطرة على المناطق (وحملات تضليل إعلامي مرافقة) بين الخصوم حول من ينبغي أن يتولى جهود إعادة الإعمار. لقد أعلنت كلتا الحكومتين خططهما لعقد “مؤتمر لإعادة الإعمار“، في محاولة لإدارة الأموال الليبية والأجنبية المخصصة لإعادة الإعمار.
يرغب المرء بالاعتقاد بأن هذه الأزمة يمكن في النهاية أن توقظ النخبة السياسية في البلاد وتنبهها إلى الحاجة إلى أن تعالج انقساماتها وأن تعمل معاً لمواجهة التحديات المشتركة. من المؤكد أن التعاون الذي أظهرته الحكومتان، والمانحون الدوليون والجمهور الليبي منذ 11 أيلول/سبتمبر يشير إلى أن هذا ممكن. لكن حتى الآن، يبقى من غير المؤكد ما إذا كان التعاون سيستمر، ويشير التنافس الناشئ حول أموال إعادة الإعمار أصلاً إلى أنه من السابق لأوانه توقع ابتعاد ذو معنى عن المسار المحبط في تاريخ ليبيا الحديث.
اضف تعليق