في ظل هذه الأوقات غير المستقرة، يبدو من المؤكد أن عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ستزيد الأمور تعقيداً. لكن كيف يمكن لمن يثير الاضطراب أن يتعامل مع عالم مضطرب أصلاً؟ عام حافل بالتغيرات المذهلة. فقد دفنت إسرائيل غزة تحت الركام؛ وقوَّضت شبكة إيران الإقليمية...

تضيف عودة ترامب حالة من عدم القدرة على التنبؤ بالأحداث إلى عالم متقلّب أصلاً. ومع تصاعد التوترات العالمية، يلوح التغيير في الأفق، سواء من خلال عقد الصفقات أو بقوة السلاح.

في ظل هذه الأوقات غير المستقرة، يبدو من المؤكد أن عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ستزيد الأمور تعقيداً. لكن كيف يمكن لمن يثير الاضطراب أن يتعامل مع عالم مضطرب أصلاً؟

في الشرق الأوسط، أدت سلسلة ردود الفعل التي أشعلها هجوم حماس على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 إلى عام حافل بالتغيرات المذهلة. فقد دفنت إسرائيل غزة تحت الركام؛ وقوَّضت شبكة إيران الإقليمية من الوكلاء غير الحكوميين؛ ودمرت دفاعات طهران نفسها؛ ومهدت الطريق، دون قصد منها، للمتمردين الإسلاميين للإطاحة بديكتاتورية عائلة الأسد المستمرة منذ نصف قرن من الزمن في سوريا.

في آسيا، حيث تتنافس الصين مع الولايات المتحدة وحلفائها على الصدارة، تبدو نقاط الاشتعال في بحر الصين الجنوبي، وفي المياه والأجواء المحيطة بتايوان، وشبه الجزيرة الكورية أكثر هشاشة من أي وقت مضى. ويشكلّ الهجوم الروسي على أوكرانيا، استناداً إلى تهديدات الرئيس فلاديمير بوتين، جزءاً من صراع لمراجعة ترتيبات ما بعد الحرب الباردة، ويهدد بتوسيع نطاق المواجهة في أوروبا.

وفي مناطق أخرى، تؤدي موجة من الصراعات – بما في ذلك الحرب الأهلية في ميانمار، والتمرد المدعوم من رواندا في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية، واستيلاء العصابات على الحكم في هايتي الذي جعل الملايين من سكانها يعيشون في ظروف أشبه بالحرب، إضافة إلى الدمار في السودان – إلى زيادة حصيلة القتلى والنازحين والجياع بسبب انتشار للقتال في العالم على مستوى أعلى من أي وقت مضى منذ عقود.

يصعب التعميم حول ما يحرك هذه الاضطرابات، بالنظر إلى أن لكل صراع جذور مختلفة. تتحدى الصين وروسيا – وإلى حد ما، كوريا الشمالية – الأنظمة التي ترسخت على مدى عقود بفضل دعم وقوة الولايات المتحدة في آسيا وأوروبا. وفي أماكن أخرى، يشعر المزيد من القادة بانهيار القيود والضوابط في غياب قوة مهيمنة أو تحالف من القوى الكبرى التي تعمل متّحدة. عدد متزايد منهم إما يرون فرصاً لتحقيق أهدافهم بوسائل عنيفة أو يخشون الخسارة إذا لم يبادروا إلى استغلال تلك الفرص. لا تسعى معظم الحكومات، بالطبع، إلى سحق الخصوم في الداخل أو رعاية الوكلاء في الخارج، أو ضم الدول المجاورة أو قتل المدنيين على نحو جماعي، لكن عدداً متزايداً منها بات يتولى زمام الأمور بنفسه. ويبدو على نحو متزايد أن القيد الوحيد المفروض على أفعال هذه الحكومات يتمثل في مدى قدرة خصومها على المقاومة. 

وإذا كانت نزعة المغامرة في ازدياد، ثمة صعوبة أكبر في التنبؤ بالتأثيرات المترتبة عليها مثل ردود أفعال الخصوم الذين يشعرون أيضاً بتراخي القيود. إن الصراعات المتداخلة تزيد احتمالية حدوث تداعيات غير مقصودة. من المؤكد أن يحيى السنوار، قائد حماس الذي خطط ونفذ هجوم تشرين الأول/أكتوبر، قلل من تقدير الدمار الذي يمكن لإسرائيل، التي لا تحكمها أي قيود غالباً، أن تحدثه في غزة رداً على ذلك. حتى إسرائيل، رغم كل براعتها في التجسس، لم تتنبأ أن ضربها لحزب الله في لبنان سيساعد فرعاً للقاعدة جرى إصلاحه وتعديله في السيطرة على دمشق. (يقول حاكم سوريا الجديد إنه، رغم ماضيه الجهادي، لا يسعى إلى حرب مع إسرائيل.)

تضيف عودة ترامب عنصراً جديداً إلى حالة عدم اليقين. في أوروبا، وآسيا والمحيط الهادئ والشرق الأوسط، تتسم وعود ترامب في كثير من الأحيان بالتناقض، تماماً كوجهات نظر الموالين له والأشخاص الذين اختارهم لحكومته. إذا أصر على المواجهة، فما مقدار المخاطرة التي سيتحملها؟ وإذا سعى إلى عقد صفقات، فما التنازلات المتبادلة التي ستترتب على ذلك، وما هي التداعيات التي يمكن أن تطال حلفاء الولايات المتحدة؟ وإذا كانت واشنطن غائبة إلى حد كبير خارج هذه الحلبات، كيف سيملأ الآخرون الفراغ؟ 

يرى المعجبون بترامب فضيلة في التهور، إذ إن إبقاء الخصوم والحلفاء في وضع دفاعي يمكن أن يردع الخصوم ويجبر الحلفاء على تقديم تنازلات. ويقولون إن بوتين كان أقل قدرة على التصرف عندما كان ترامب رئيساً، وإن غموض ترامب بشأن حلف شمال الأطلسي قد أخرج الأوروبيين من حالة الرضا بشأن أمن القارة الأوروبية بقدر ما فعل ذلك عدوان الكرملين.

لكن يمكن لعدم القدرة على التنبؤ أن يُؤدي إلى نتائج عكسية بسهولة. في حين لا يرغب أحد بحرب شاملة، فإن الخطأ في الحسابات يشكل خطراً كبيراً على خطوط التماس بين القوى الكبرى كما هو الحال في أماكن أخرى. إذا تبنى ترامب أو كبار مسؤوليه نهجاً متشدداً أكثر مما ينبغي، يمكن لأحد الخصوم أن يردَّ بالمثل لإعادة رسم أحد خطوطه الحمر، ولكن بذلك قد يتجاوز بدوره أحد الخطوط الحمر لواشنطن. أو قد يتجاوز أحد حلفاء الولايات المتحدة – مثل الفلبين، أو تايوان أو إسرائيل – هذا الخط على نحو يدفع إلى رد انتقامي من الصين أو إيران، ما قد يجرّ الولايات المتحدة إلى الصراع.

من ناحية أخرى، إذا قلل ترامب من شأن أحد حلفاء واشنطن، يمكن لأحد خصومها - على الأرجح موسكو، لكن ربما بيونغ يانغ أو بكين أيضاً - أن يختبر استعداد ترامب لنجدة حلفاء الولايات المتحدة، الأمر الذي سيسبب ضجة سياسية في واشنطن تجبر الرئيس على التراجع.

كما يمكن للنزعة العدائية أن تولِّد مقاومة أكثر اتحاداً. إن الحديث عن “محور” يضم الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران مبالغ به، بالنظر إلى أن العواصم الأربع لا تتشاطر مصالح كثيرة فيما عدا مقاومة القوة الأميركية وتجنب العقوبات؛ لكنها تساعد بعضها بعضاً على نحو متزايد. تساعد الأسلحة الإيرانية والكورية الشمالية والمكوِّنات ذات الاستعمالات المزدوجة من الصين، والآن، الجنود من كوريا الشمالية في استدامة المجهود الحربي لبوتين في أوكرانيا. إن الاتفاق الدفاعي الذي توصل إليه بوتين مع زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون في تشرين الثاني/نوفمبر يربط بيونغ يانغ، وربما أمن شبه القارة الكورية، بالحرب في أوروبا من حيث المبدأ.

من المرجح أن تتعزز العلاقات بين هؤلاء الخصوم إذا زاد ترامب حدة عدوانيته على جميع الجبهات، ولا سيما إذا دفع أوروبا إلى تشديد القيود التجارية على الصين أو شجع حلف شمال الأطلسي على التدخل بشكل أكبر في آسيا.

في سياق التوصل إلى صفقات، فإن خروج ترامب على القواعد قد يكون ميزة – إذا كان موجهاً في الاتجاه الصحيح. تبدو الصفقة العظمى الافتراضية مع الزعيم الصيني شي جين بينغ التي يطرحها البعض في فلك ترامب - والتي يمكن أن تدفع واشنطن إلى القبول بالهيمنة الصينية في آسيا، بما في ذلك على تايوان (البلد الذي يصنع معظم الرقائق الإلكترونية الدقيقة المتقدمة التي يعتمد عليها الاقتصاد العالمي) – بعيدة المنال. والواقع أن أي صفقة مع روسيا تترك أوكرانيا منزوعة السلاح وبدون ضمانات أمنية، كما يطالب بوتين، سوف تنهار بسرعة. ولا يوجد أي مسار مستقر نحو اتفاقات بشأن مجالات النفوذ في آسيا أو أوروبا، حتى لو تمكن ترامب من إقناع حلفاء الولايات المتحدة بالتفكير على نحو مختلف.

قد تكون الأهداف الأكثر تواضعاً قابلة للتحقيق. ويمكن لمحادثات متكررة مع شي، وبذل جهود لتعزيز الضمانات الموجودة أصلاً، مثل الخطوط الساخنة بين العسكريين والقنوات الخلفية بين كبار مسؤولي الأمن القومي، أن تضع العلاقات الأميركية–الصينية على أرضية أكثر ثباتاً، وأن تساعد في منع وقوع حوادث في الأجواء والمياه حول الصين من التصاعد إلى أزمة شاملة. أما مع روسيا، فإن أي اتفاق لوقف إطلاق النار يؤجل النزاعات الأكثر إشكالية إلى مفاوضات مستقبلية لن يكون مثالياً. قد يرفضه بوتين. لكن إذا تمكَّن ترامب من التوصل إليه، فسيكون أفضل من مخاطر الدمار والتصعيد التي نشهدها اليوم. كما يمكن لمثل تلك الترتيبات أن تفسح المجال لحلفاء واشنطن الآسيويين والأوروبيين للاضطلاع تدريجياً بقدر أكبر من المسؤولية عن دفاعهم، بدلاً من أن يُترَكوا للدفاع عن أنفسهم وهم غير مستعدين.

يمكن للمحادثات النووية مع كوريا الشمالية أو إيران أن تسفر عن المزيد من النتائج. في المرة الماضية، أفضى مسار ترامب المتقلب إلى مفاوضات أوشكت أن تحقق له اتفاقاً، وإن كان غير مثالي، لكن كان من شأنه أن يقلِّص برنامج بيونغ يانغ النووي. رغم علاقات كيم مع روسيا، لا تزال بيونغ يانغ دولة مارقة يمكن أن تكسب الكثير من نوايا واشنطن الطيبة. وهناك آفاق أفضل مع إيران. فقد توافق طهران، التي أصبحت أضعف مما كانت عليه لعقود من الزمن، على تقليص ليس البرنامج النووي الإيراني فحسب، بل أيضاً شبكتها من الوكلاء المتضائلة أصلاً. وبوسع واشنطن، بالمقابل، أن تتعهد بعدم زعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية، وأن تحاول ثني إسرائيل عن فعل ذلك أيضاً. في المحصلة، قال ترامب إنه غير مهتم بتغيير النظام. 

إذاً، كيف يمكن التنبؤ بأحداث عام 2025 الذي يصعب التكهن بما سيحدث خلاله؟

مهما حدث، يبدو من المرجح أن يستمر غياب القانون. لقد منحت الولايات المتحدة نفسها وأصدقاءها دائماً مخرجاً من القانون الدولي عندما يناسب ذلك مصالحها. لكن حتى بوجود المعايير الهشة التي سادت في العقود الأخيرة، فإن الأمور سيئة ومن المتوقع أن تسوء أكثر.

في حين أشاد الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن بالنظام العالمي، بينما تغاضى عن تدمير إسرائيل لقطاع غزة، فإن ترامب سيتخلى إلى حد كبير عن ذلك النظام. إذا ضمت إسرائيل الضفة الغربية بمباركة أميركية، أو إذا قصفت واشنطن أحادياً الكارتيلات المكسيكية، فإن الأعراف الضعيفة أصلاً معرضة لمزيد من التفككك. وسوف يولي المحاربون اهتماماً أقل بمعاناة المدنيين. وقد يختبر قادة آخرون قدرتهم على الاستيلاء على أجزاء من أراضي جيرانهم. يبدو أن معظم حروب اليوم ستستمر، وربما تقاطعها أحياناً حالات وقفٍ لإطلاق النار تستمر إلى أن تتغير الرياح الجيوسياسية أو تتاح فرصٌ للقضاء على الخصوم.

يمكن لترامب أن يتوصل إلى اتفاقات مع بيونغ يانغ أو طهران لإعادة ترتيب الأمن في آسيا أو الشرق الأوسط، أو مع بكين لوقف ميل التنافس نحو الصراع، أو مع موسكو لتهدئة الأمور مؤقتاً. لكن لا يمكن استبعاد السيناريوهات الكابوسية، مثل اندلاع الصراع في آسيا، أو مواجهة أوروبية أوسع، أو محاولة للإطاحة بالنظام الإيراني أو الطرد الجماعي للفلسطينيين على نحو يثير حرباً شرق أوسطية.

مع تسارع إيقاع التغيير، يبدو العالم مقبلاً على تحوّل جذري. السؤال هو ما إذا كان هذا التحوّل سيحدث على طاولة المفاوضات أو في ميدان المعركة.

سوريا

لنبدأ بالأخبار الجيدة: لقد سقطت ديكتاتورية بشار الأسد. يمكن لسوريا أن تقف على قدميها من جديد بعد واحد من أكثر حروب العالم دموية في التاريخ الحديث. لكن ثمة كثير مما يمكن أن يذهب في الاتجاه الخطأ.

على مدى عدة سنوات، ساد انغلاق في المشهد السوري. في عام 2020، أدخلت تركيا قوات إلى سوريا وتوصلت إلى اتفاق مع روسيا، التي استعملت علاقاتها مع الأسد لوقف هجوم على شمال غرب سوريا كانت أنقرة تخشى من أنه سيدفع ملايين إضافية من اللاجئين إلى تركيا. تركت الهدنة هيئة تحرير الشام، وهي فرع سابق للقاعدة كان قد انفصل عن الحركة الجهادية العالمية، مسؤولة عن محافظة إدلب. وكانت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية تسيطر على الشمال الشرقي. اعتقد العالم أن الحرب قد انتهت غالباً وأن الأسد انتصر.

ثم، في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، ضربت هيئة تحرير الشام، وتقدمت من إدلب، وسيطرت بسهولة لم تكد تصدقها، على حلب، ثاني أكبر مدن البلاد، دون قتال يذكر. ومن هناك، تقدمت جنوباً، ودخلت دمشق في 8 كانون الأول/ديسمبر. سقط نظام أسَّسَّه والد الأسد وكان قد حكم سوريا على مدى 54 عاماً في أقل من أسبوعين. 

تُعزى هزيمة الجيش السوري جزئياً إلى القوة المدرَّبة جيداً التي كانت هيئة تحرير الشام قد جمعتها، وجزئياً إلى تعفن النظام نفسه. أهمل الأسد، الذي اعتمد على الدعم المستمر من حزب الله، وإيران وروسيا، قواته، واعتمد على المجندين، وجنود الاحتياط الذين كانوا يتلقون رواتب متدنية جداً، والميليشيات الافتراسية.

لدى رؤية داعمي الأسد الخارجيين لمدى ضعفه، تنحوا جانباً مع تقدم المتمردين. كانت معظم وحدات حزب الله التي كانت قد دافعت عن النظام قد عادت في كل الأحوال إلى لبنان لمحاربة إسرائيل، حيث تكبدت خسائر كبيرة. ولم تتمكن إيران، التي تعرضت هي نفسها لضربات إسرائيلية، من مساعدة الأسد. وكانت روسيا، التي كانت قواتها الجوية قد عكست اتجاه الحرب قبل نحو عقد من الزمن، غارقة في أوكرانيا. مع انهيار دفاعات النظام، بدا أن موسكو وطهران قبلتا بضمانات هيئة تحرير الشام بأن تتمكن إيران من سحب أصولها بأمان وأن تنسحب روسيا إلى مينائها على البحر المتوسط في طرطوس أو إلى قاعدتها الجوية في اللاذقية (ومن غير الواضح ما إذا كانت روسيا ستحتفظ بالميناء والقاعدة الجوية، اللتان تشكلان مركزاً لعملياتها في أفريقيا).

تواجه هيئة تحرير الشام – التي يسيطر قائدها أحمد الشرع (الذي تخلَّى عن اسمه الحركي، أبو محمد الجولاني، عند دخوله دمشق)، فعلياً على زمام الأمور – تحديات هائلة.

يتمثل الخطر المباشر في الفوضى، ولا سيما في ريف سوريا الأوسط والغربي. لقد أمَّنت هيئة تحرير الشام المدن الرئيسية إلى حد بعيد، وعاقبت بعض الأشخاص المتهمين بإثارة الكراهية الطائفية، وأعلنت أنها ستحل جناحها العسكري والميليشيات الأخرى لتشكيل جيش مركزي. لقد حسَّن الشرع، الذي لم يكن يتساهل حيال المعارضة خلال حكمه لإدلب، تدريجياً الحمايات التي قدَّمها للمسيحيين والدروز، وتعهد بحماية الأقليات في جميع أنحاء البلاد. لكن قوات هيئة تحرير الشام، رغم التصور السائد عنها إجمالاً بأنها قوات منضبطة، لا يتجاوز عددها 30,000، وباتت تنتشر على مساحة أكبر من قدرتها على السيطرة. المتمردون السابقون الآخرون، بمن فيهم بعض أفراد الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا، أقل انضباطاً. في حماة، وحمص واللاذقية، قام مسلحون بالنهب والقتل على نحو عشوائي في استهداف لأقليات متَّهمة بدعم نظام الأسد، وأعدموا دون محاكمة بعض المتواطئين معه.

تمثل آلية الحكم تحدياً آخر. يخشى كثير من السوريين الفتاوى الإسلامية، بالنظر إلى جذور هيئة تحرير الشام الجهادية. وثمة ما يبرر خوف العلويين، الذين يُنظر إليهم (على نحو غير منصف غالباً) على أنهم قاعدة نظام الأسد، من نشوء نظام طائفي. لكن ثمة مخاوف حادة وعميقة أيضاً في أوساط أقليات أخرى، وثمة كثير من السنَّة العلمانيين، والفصائل السياسية، وبعض النساء، غير مطمئنين إلى دورهم المستقبلي. يتوقع السوريون من جميع أجزاء الفسيفساء الدينية، والإثنية والثقافية في البلاد أن يكون لهم دور في الحكومة. لكن هيئة تحرير الشام لم تضع حتى الآن رؤية لتحقيق ذلك.

سيكون تنفير المجموعات الخائفة التي قد ترى في حكام سوريا الجدد تهديداً وجودياً كان الأسد قد صوّره لها على مدى فترة زمنية طويلة أمراً خطيراً، بالنظر إلى انتشار الأسلحة وتركُّز الآلاف من جنود النظام السابق في المناطق التي تسيطر عليها الأقليات.

وثمة أخطار أخرى ذات مصدر خارجي. مع سقوط الأسد، دمرت القنابل الإسرائيلية قواعد القوات الجوية السورية، ومنشآتها البحرية ومخازن أسلحتها، بما في ذلك، طبقاً لإسرائيل، منشآت تتعلق بالأسلحة الكيميائية. كما أرسلت إسرائيل، التي ضمت جزءاً من مرتفعات الجولان في عام 1981، قواتها إلى المنطقة المجاورة منزوعة السلاح وإلى المواقع على رؤوس التلال على الجانب السوري – وهي خطوات وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنها مؤقتة ودفاعية. الشرع، الذي انتقد القصف والهجوم، تعهد بالالتزام بالاتفاقات القائمة مع إسرائيل.

في الشمال الشرقي، أخرج الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا قسد من عدة بلدات، وهجَّر آلاف الأشخاص. ويهدد الآن كوباني، المدينة ذات الغالبية الكردية على الحدود التركية. تَعُدُّ أنقرة قسد امتداداً لحزب العمال الكردستاني، الذي تخوض معه معارك في تركيا وشمال العراق منذ عقود. ويمكن لحدوث مزيد من القتال أن يقتلع آلافاً أخرى من السكان ويعقِّد المرحلة الانتقالية في سوريا. تحرس قسد آلاف المقاتلين السابقين في تنظيم الدولة الإسلامية، الذين يمكن لهروبهم أن يعزز بقايا التنظيم الذي يعيد التجمع أصلاً في الصحراء. لقد صعَّدت الولايات المتحدة، التي تحتفظ بوجود محدود في الشرق، ضرباتها لتنظيم الدولة الإسلامية وتسيِّرُ دوريات حول كوباني. من شأن انسحاب أميركي متسرِّع من سوريا، إذا أمر الرئيس القادم دونالد ترامب بمثل ذلك الانسحاب، أن يفاقم عدم الاستقرار أكثر فأكثر.

ينبغي على تركيا، التي تُعّدُّ الرابح الأكبر بين جيران سوريا الآخرين من سقوط الأسد، أن تسمح لسلطات سوريا الجديدة بالتفاوض مع قسد حول اندماج الشمال الشرقي بشروط يستطيع الجميع التعايش معها.

أخيراً، يجب تخفيف العقوبات الغربية والأممية التي تعيق الإغاثة والاستثمار اللذين تحتاجهما سوريا بعد سنوات من الحرب. ينبغي أن تسارع العواصم الغربية إلى إصدار تراخيص عامة من شأنها أن تسمح بتدفق أكبر للمساعدات والنشاط الاقتصادي فوراً، وأن تعمل في الوقت نفسه مع العواصم الإقليمية على أن توضح لدمشق ما الذي يجب أن يحدث كي تُرفع العقوبات.

السودان

تُعَدُّ حرب السودان، من حيث أعداد المهجَّرين والجياع، الحرب الأكثر تدميراً في العالم. لقد هرب نحو 12 مليون سوداني – أكثر من ثلث عدد السكان قبل الحرب – من منازلهم. ويواجه أكثر من نصفهم نقصاً حاداً في الغذاء، إذ تعاني أجزاء من إقليم دارفور من المجاعة. ويصف مسؤولو الأمم المتحدة معدلات العنف الجنسي ضد النساء والفتيات بأنه ”مروِّع“. ويبدو أن البلاد تتجه على نحو متزايد نحو تمزق عنيف.

لقد انتشر القتال على مساحات أوسع فأوسع من البلاد؛ ويدور بين قوات الدعم السريع – وهي قوات شبه عسكرية يقودها محمد “حميدتي” حمدان دقلو – ضد الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، ومجموعة من الميليشيات المتحالفة معهما وجماعات مسلحة من دارفور. بعد الإطاحة برجل السودان القوي الذي حكم مدة طويلة، عمر البشير، في عام 2019، تقاسم حميدتي والبرهان في البداية السلطة مع سياسيين مدنيين ومن ثم أخرجوهم من السلطة ليتحولا إلى قتال بعضهما بعضاً.

يعتمد الجيش، الذي لا يضم عدداً كبيراً من جنود المشاة، على القوات الجوية، بما في ذلك المسيَّرات التي يحصل عليها من الخارج، ويقصف دون تمييز المناطق الواقعة تحت سيطرة قوات الدعم السريع. ولجأ إلى الميليشيات، ولا سيما تلك التي حشدها الإسلاميون الذين كانوا يتمتعون بالنفوذ في ظل حكم البشير. ساعد المتمردون السابقون في دارفور في صد هجمات قوات الدعم السريع على مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور. تجد قوات الدعم السريع صعوبة في الاحتفاظ بالسيطرة على الأراضي الواقعة خارج معاقلها في غرب السودان، لكنها ما تزال قوية عند الانخراط في هجمات تناسب أسلوب قتالها الذي يتسم بالمرونة وسرعة الحركة. ترتكب قواتها عند تقدمها المذابح. وقد تأرجح زخم المعارك بين الجانبين. لكن لا يبدو أن هناك احتمال لانتصار أي من الطرفين.

وتخاطر حرب السودان بإحداث اضطرابات لدى جيرانه. لقد تدهورت عائدات جنوب السودان النفطية التي تُعَدُّ المصدر الرئيسي لميزانيته ولشبكة الرعاية والمحسوبية التي تحافظ على سلام هش، منذ إغلاق خط الأنابيب الرئيسي الذي يمر عبر السودان. وفي شرق تشاد، يثير نحو مليون لاجئ الاضطراب في الحياة السياسية للمجموعات السكانية هناك. لقد أثار قرار الرئيس التشادي إدريس ديبي السماح بتدفق الأسلحة الإماراتية عبر تشاد لقوات حميدتي، فيما يبدو على أنه يحدث مقابل استثمارات إماراتية في تشاد، الغضب داخل قبيلة زغاوة القوية التي يتحدر منها ديبي.

لقد ساعد التدخل الخارجي في السودان في تقسيم القرن الأفريقي إلى معسكرات متنافسة. يعكس الدعم الإماراتي لقوات الدعم السريع (الذي تنكره أبو ظبي، رغم توثيقه من قبل الأمم المتحدة وجهات أخرى) السعي لتحقيق النفوذ والأرباح في حوض البحر الأحمر. وقد سعت إثيوبيا، التي تتمتع بعلاقات وثيقة بالإمارات العربية المتحدة، إلى البقاء حيادية، خشية قيام الجيش السوداني بمساعدة المعارضة المسلحة الإثيوبية، لكنها قد تتدخل. بالنسبة للجيش السوداني، فإنه يعتمد على دعم مصر، التي ترى في الجيش، رغم صلاته الإسلامية، رهاناً أفضل من قوات الدعم السريع شبه العسكرية. وتقوم أريتريا، التي تراودها الشكوك بشأن الإمارات العربية المتحدة والحريصة على وجود منطقة عازلة على حدودها الغربية، بتدريب مجموعات متحالفة مع الجيش السوداني. ويُذكر أن إيران زودت الجيش بأسلحة، بما فيها مسيَّرات متقدمة.

لقد استضافت السعودية، التي تربطها علاقات بكلا الجانبين، محادثات في جدة دون نجاح يُذكر. بعد أكثر من عام من الحرب، عيَّنت الولايات المتحدة أخيراً مبعوثاً إلى السودان، في خطوة مُرحَّبٌ بها. يبدو حميدتي، من جهته، مستعداً للمشاركة في المحادثات لكنه يريد جيشاً جديداً – ودوراً قيادياً فيه للموالين له، وهو أمر يعارضه بشدة قادة الجيش، والإسلاميين، والمتمردين السابقين في دارفور. كما لا يستطيع السياسيون المدنيون المنقسمون الاتحاد خلف شروط لوقف إطلاق النار وترتيبات متابعة.

المثير للقلق أن البعض في السودان، ولا سيما بين الموالين لنظام البشير، يتحدثون عن التقسيم، ويجادلون بأن الانتهاكات التي ارتكبتها قوات الدعم السريع تجعل من التعايش أمراً غير ممكن. ويطالبون بتقسيم يترك الجيش مسيطراً على الشمال والشرق، بما في ذلك الخرطوم، وقوات الدعم السريع في الغرب ومناطق متفرقة للآخرين.

ينبغي أن يكون إنهاء الحرب أولوية عليا. مثالياً، يمكن لدبي والقاهرة، بالنظر إلى نفوذهما على الطرفين، أن تعيدا إطلاق المحادثات التي عقدتاها في البحرين في كانون الثاني/يناير 2024، وهي المحاولة الأكثر جدية حتى الآن لجمع الطرفين على طاولة المفاوضات. وينبغي لهما أن تضعا رؤية لتقاسم السلطة، حتى لو كانت انتقالية فحسب. يرفض كثير من السودانيين أن يلعب البرهان وحميدتي، اللذان أوصلا السودان إلى الهاوية، أي دور في مستقبل البلاد. لكن أياً منهما لن يوقف حرباً مدمرة في غياب تسوية يستطيعان التعايش معها.

بالنسبة للولايات المتحدة، لا يُظهر الرئيس المنتخب دونالد ترامب اهتماماً يذكر بالسودان، وقد يترك الأمر هناك للقوى الخليجية. سيكون ذلك خطأ؛ فواشنطن هي في الموقع الأفضل لدفع اللاعبين الرئيسيين، ولا سيما مصر والإمارات العربية المتحدة، للتوصل إلى صفقة. يمكن لتقسيم عنيف للسودان أن يزعزع استقرار القرن الأفريقي، والبحر الأحمر، ومناطق أبعد لعقود قادمة.

أوكرانيا والأمن الأوروبي

لقد وعد الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب بإنهاء الحرب الروسية–الأوكرانية من خلال التفاوض مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. المفاوضات تستحق المحاولة، لكن من الصعب رؤية مسار يفضي إلى وقف إطلاق نار مستدام – ناهيك عن اتفاق سلام.

للقوات الروسية اليد العليا، رغم أن تقدمها البطيء في شرق أوكرانيا يتحقق بكلفة هائلة. لقد فقد جيش الكرملين ما يقدَّر بنصف مليون بين قتيل وجريح منذ عام 2022، ويعاني الاقتصاد الروسي من عقوبات خانقة، ويرغب بوتين بتفادي دعوة مزيد من الجنود للقتال، خشية حدوث اضطرابات، على ما يبدو. إضافة إلى ذلك، وبسبب غرقه في أوكرانيا، خسر بوتين عميله الرئيسي في الشرق الأوسط، الرئيس السوري بشار الأسد. ما يزال يعتقد أنه يحقق انتصارات في أوكرانيا، وأن حلفاء كييف الغربيين يفتقرون إلى القدرة على الصمود في معركة الطويلة، لكنه يبدو مستعداً للتفاوض ورؤية ما يستطيع أن يحصل عليه. 

لا تُظهر كييف علامات على الاستسلام، لكن القوات الروسية تفوقها عدداً وعتاداً. في كانون الأول/ديسمبر، ذُكِر أن فريق ترامب تعهد بالاستمرار بتقديم المساعدات. لكن من غير الواضح ما إذا كان ذلك يعني السماح بوصول شحنات هي في طريقها أصلاً كجزء من حزمة كبيرة تمت الموافقة عليها في منتصف عام 2024 – والتي من المرجح أن تُستنفَد بعد مرور بضعة أشهر من عام 2025 – أو التعهد بتقديم دفعة جديدة. دون مساعدة الولايات المتحدة، ستواجه أوروبا، ورغم زيادة إنتاجها من الأسلحة، صعوبة في ردم الفجوة، حتى لو اشترت أسلحة أميركية، وحتى لو بدأت المصانع الأوكرانية نفسها بإنتاج الأسلحة. كما أن لدى كييف عدد قليل جداً من الجنود المدربين؛ وقد أدى هجومها في إقليم كورسك الروسي إلى نشر قواتها على مساحة أوسع مما تستطيع السيطرة عليه. قد لا تنهار الدفاعات الأوكرانية قريباً – في الواقع فإن المصادر الروسية تقول إنها تتوقع مكاسب تدريجية، وليس هزيمة سريعة – لكن أوكرانيا في مأزق.

القوات المسلحة الأوكرانية تشارك في تدريب طبي تكتيكي، أثناء الهجوم الروسي على أوكرانيا، في أقليم دونيسك، أوكرانيا، 14 كانون الأول/ديسمبر 2024 أوليغ بتراسيك / دائرة الصحافة التابعة للواء الميكانيكي المنفصل الرابع والعشرين الملك دانييلو التابع للقوات المسلحة الأوكرانية

لكن إذا أظهر الطرفان الإعياء، ستكون المفاوضات صعبة. لا يتمثل التحدي الرئيسي في الأرض؛ إذ تدرك كييف غالباً، كما يدرك داعموها الغربيون، أن روسيا ستحتفظ في الوقت الراهن بالأراضي التي تحتلها، والتي تبلغ نحو خُمس الأراضي الأوكرانية. (كما يدَّعي الكرملين وجود أراضٍ خارج سيطرته لكنها جزء من روسيا؛ لكن لا يبدو من المرجح أن تتخلى كييف عنها، أو أن تقدم موسكو تنازلات للحصول عليها.)

تتمثل النقطة العالقة فيما يحدث لباقي أوكرانيا. يريد بوتين جاراً مطواعاً لا يدور في فلك الغرب – كجزء من محاولته إعادة رسم نظام ما بعد الحرب الباردة الذي يرفضه بصفته نظاماً فُرض على روسيا وهي في حالة ضعف. ويطالب بنزع سلاح أوكرانيا، أو على الأقل تقليص حجم جيشها، والتخلي عن الضمانات الأمنية. بالمقابل ترى كييف وعواصم أوروبية خطراً وجودياً في اتفاق كهذا. إنها تعتقد، وثمة ما يبرر اعتقادها، أن القوات الروسية إما ستتقدم مرة أخرى أو أن موسكو ستُخضع كييف غير القادرة على الدفاع عن نفسها لإرادتها. ومن هناك، تتوقع اجتراء الكرملين على إخضاع مولدوفا وتهديد الدول الواقعة في خاصرة حلف شمال الأطلسي.

إذا كانت أوكرانيا وداعموها الغربيون متفقين على أن الردع مطلوب لكي يصمد وقف إطلاق النار، فإنهم يختلفون على شكله. رغم رغبة كييف المفهومة بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، فإن انضمامها ليس مطروحاً على المدى القريب. كما أن من غير المرجح أن يعرض ترامب معاهدة ثنائية مشابهة لتلك التي توصلت إليها واشنطن مع اليابان أو كوريا الجنوبية. في الوقت الحاضر، لا تستطيع العواصم الغربية ربما التعبير عن التزاماتها أو إرسال قوات بأنفسها، ما لم تؤكد الولايات المتحدة أنها ستتدخل عند الضرورة – وتقدم فعلياً ضمانات أمنية شبيهة لتلك المترتبة على العضوية في حلف شمال الأطلسي. يمكن لجيش أوكراني قوي، بمساعدة أوروبا، أن يكون بديلاً، لكنه سيتطلب مساعدات غربية طويلة الأمد.

حتى لو توافق داعمو أوكرانيا الغربيون على خيار، ليس هناك مؤشرات على أن بوتين سيوافق عليه. رغم ذلك، فإن اختبار ما يمكن أن يقبل به يستحق التجربة، ولا سيما فيما يتعلق بالجيش الأوكراني. حتى التوصل إلى وقف لإطلاق النار يرجئ النزاعات الأكثر إشكالية إلى وقت لاحق سيكون أفضل من استمرار الحرب.

لكن الاحتمال الأكثر ترجيحاً هو أن الهجوم الروسي سيستمر، وأن المفاوضات إما لن تحرز الكثير أو ستنهار، مع حرص كل من الطرفين على تحميل المسؤولية للطرف الآخر. ثم، قد يحمِّل ترامب المسؤولية لموسكو، وإذا استطاع جمع ما يكفي من السلاح والذخيرة، سيصعِّد، ويخاطر أكثر في الدخول في مواجهة مباشرة مع روسيا. أو سينفد صبره من أوكرانيا وينسحب. ستواجه كييف، التي تعتمد على الدعم الأوروبي وعلى تصنيعها للأسلحة بنفسها، بعض الأشهر الصعبة، في أفضل الأحوال، مع اندفاع أوروبا لتزويدها بالأسلحة.

يبدو ترامب حتى الآن أكثر ميلاً لإجبار الأوروبيين على إنفاق المزيد على الدفاع من الانسحاب من التحالف كلياً. لكن الغموض قد يدفع بوتين لجسّ النبض – ربما في بحر البلطيق أو البحر الأسود أو حولهما. سيكون من الصعب على واشنطن النأي بنفسها عن أزمة كبرى في أوروبا، مهما كان ترامب راغباً بفعل ذلك.

إسرائيل–فلسطين

لقد حوَّل الهجوم الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي شُن رداً على هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى أرض يباب. لقد أدت الحملة، طبقاً للسلطات المحلية، إلى مقتل أكثر من 45 ألف فلسطيني. وكان معظمهم من المدنيين – وثلثهم على الأقل من الأطفال. وهناك آلاف من الجثث المفقودة؛ ويمكن الافتراض أنها تحت الأنقاض. لقد دُمِّر ثلثا الأبنية والبنية التحتية أو لحقت بها أضرار، وسويت أحياء بأكملها بالأرض. 

بينما قُتل كثيرون من قادة حماس ودُمِّرت الأصول العسكرية للجماعة، يُقر المسؤولون الغربيون وحتى بعض المسؤولين الإسرائيليين بأنه ما من سلطة تستطيع حكم قطاع غزة أو القيام بوظائف مدنية فيها دون موافقة حماس.

تعيد عمليات إسرائيل تشكيل جغرافيا قطاع غزة؛ فقد تمركزت في محور فيلادلفيا، وهو منطقة عازلة ضيقة على طول الحدود بين قطاع غزة ومصر. وقسمت غزة من خلال محور نتساريم، الذي أقيمت فيه قاعدة عسكرية كبيرة الآن، ويذكر أن هناك خطط لتقسيم جنوب القطاع أيضاً. لقد حاصرت وأفرغت تقريباً المنطقة الواقعة إلى شمال مدينة غزة، ظاهرياً لاحتلال مواقع أفضل لمحاربة مقاتلي حماس أو إخراجهم من المنطقة؛ لكن أدى ذلك فعلياً إلى طرد مئات الآلاف من المدنيين الجوعى. كما وسَّعت المنطقة العازلة التي كانت موجودة أصلاً على محيط القطاع مع إسرائيل. 

أما التغيير الذي سيحدثه الرئيس الأميركي القادم دونالد ترامب فهو غير واضح. لقد أبلغ نتنياهو على نحو متكرر أنه يريد أن تنتهي حرب غزة قبل استلامه مهام منصبه لكن دون أن يذكر شروطه. بشكل عام، يبدو أن اختياره لأعضاء حكومته يشير غالباً إلى منح نتنياهو درجة أكبر من حرية التصرف.

لم تفضِ المحادثات التي توسطت فيها مصر، وقطر والولايات المتحدة إلى وقف لإطلاق النار بعد. ما يزال الدبلوماسيون يشيرون إلى أن حماس، قد تطلق سراح بعض الرهائن مقابل هدنة (نحو 100 رهينة، أُخذوا في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ما يزالون في غزة، ويفترض أن ثلثهم على الأقل قد قُتل). يمكن لمثل ذلك الاتفاق أن تتبعه، من حيث المبدأ، مراحل أخرى، مع انسحاب القوات الإسرائيلية، وإعادة الإعمار، أو شكل من أشكال الحكم المحلي.

لكن بالنظر إلى المزاج السائد في إسرائيل، من الصعب تخيُّل حدوث المراحل التالية، حتى لو تم التوصل إلى صفقة. الأمر الأكثر ترجيحاً هو أن يبقى الجيش في قطاع غزة، ويظل معظم الفلسطينيين محصورين في الجنوب، ويظلون على قيد الحياة بفضل المساعدات الإنسانية. تشير المصادر الإسرائيلية إلى أن الفلسطينيين الذين تتحقق إسرائيل من خلفياتهم قد ينتقلون في النهاية إلى ”فقاعات إنسانية“، حيث يتولى أعمال الشرطة وإيصال المساعدات متعاقدون أجانب أو محليون تربطهم علاقات بإسرائيل، رغم أن من الصعب توقُّع نجاح ذلك. في كلتا الحالتين، لا يمكن للمجتمع في قطاع غزة أن يتعافى في أي وقت قريب.

ثمة معركة أخرى في الضفة الغربية، التي يبدو من المتوقع أن تضمها إسرائيل. في ظل وجود وزير المالية القومي المتطرف بتسلئيل سموتريش، تقوم إسرائيل بنقل إدارة الضفة الغربية من السيطرة العسكرية إلى السيطرة المدنية، وتُوسِّع نطاق السيادة، وتأمر بهدم المزيد من بيوت الفلسطينيين، وتعطي الشرعية للبؤر الاستيطانية. حتى دون الضم الرسمي، يمكن لإسرائيل أن تسرِّع التكتيكات التي استعملتها على مدى سنوات، أي إدخال المزيد من المستوطنين وحصر الفلسطينيين بالقوة في جيوب أصغر.

لقد صمدت إسرائيل في وجه الإدانة الدولية خلال حروب غزة السابقة، التي تخمد عادة مع عودة الأراضي المحتلة إلى روتين قاتم. لكن هذه المرة، لا تزال مرحلة ما بعد الحرب غير واضحة لأن إسرائيل تجاهلت حتى مجرد التظاهر بالقبول السياسي ومضت بدلاً من ذلك في القمع دون اعتذار أو تبرير. وفي محاولتهم سحق ليس حماس فحسب، بل آمال الفلسطينيين في تقرير المصير، يبدو أن نتنياهو والقادة السياسيين الإسرائيليين قد وضعوا جملة من الرهانات، وهي أنه يمكن الحفاظ على الأمن من خلال القوة ودون شركاء فلسطينيين ذوي مصداقية؛ وأن المؤسسات الدولية والعدالة الدولية ستظل غالباً دون أنياب؛ وأن داعمي إسرائيل سيحتفظون بالسلطة في الولايات المتحدة والعواصم الغربية الأخرى، رغم الرعب المتنامي حيال ما فعله جيشها لغزة؛ وأن القادة العرب سيحترمون في النهاية قوة إسرائيل رغم معاملتها للفلسطينيين.

ربما يكون الأمل الأكبر، وإن كان محدوداً، في الخليج. ما يزال ترامب يريد أن تطبِّع السعودية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل كجزء من اتفاقات أبراهام، بصفتها الجزء المحوري في سياسته الشرق أوسطية في فترته الرئاسية الأولى. وقد تستطيع الرياض، التي تستبعد التطبيع دون مسار نحو تحقيق الدولة الفلسطينية، أن تقنعه بالضغط على إسرائيل لإبقاء ذلك الخيار حياً.

في قطاع غزة، ترك إخفاق الولايات المتحدة في وقف حملة إسرائيل، رغم تزويدها بمجمل المساعدات العسكرية التي اعتمدت عليها، وإخفاقها في انتزاع خطة من نتنياهو لليوم التالي، ترك لليمين المتطرف الإسرائيلي وللمنطق العسكري تحديد مستقبل القطاع. ويمكن توقُّع أن يحدث الشيء نفسه للصراع الإسرائيلي–الفلسطيني بشكل عام.

إيران في مواجهة الولايات المتحدة وإسرائيل

في النصف الأول من عام 2024، كان محور المقاومة التابع لإيران – نظام الأسد في سوريا، وجملة من المجموعات المتشددة، بما فيها حزب الله في لبنان، وميليشيات في العراق وسوريا، والحوثيين في اليمن، وحماس والجهاد الإسلامي الفلسطيني في قطاع غزة – ما يزال يقدم للجمهورية الإسلامية شيئاً من الحماية والنفوذ في جميع أنحاء المنطقة.

ما الفرق الذي يمكن أن تحدثه بضعة شهور. في تموز/يوليو، قُتل أحد قادة حماس، إسماعيل هنية، في طهران – الأمر الذي شكل إحراجاً لمضيفيه ونذيراً لما حدث بعد ذلك. في أيلول/سبتمبر، فجَّرت إسرائيل مئات من أجهزة البيجر والأجهزة الأخرى التي يملكها حزب الله، فقتلت عدداً كبيراً من قياداته متوسطة المستوى. تبع ذلك ضربات جوية وهجوم بري، فقتلت قائد حزب الله حسن نصر الله وقضت على كثيرين في صفوفه وعلى أصوله العسكرية، بينما سوَّت قرى كثيرة بالأرض. دمرت الضربات الجوية الإسرائيلية التي شُنت على إيران في نهاية تشرين الأول/أكتوبر جزءاً من دفاعاتها الجوية ومخازن صواريخها. مع إطاحة المتمردين السوريين بالرئيس بشار الأسد في مطلع كانون الأول/ديسمبر، خسرت إيران حليفاً أنفقت مليارات الدولارات على دعمه، وخسرت أيضاً الممرات الجوية والبرية الرئيسية التي استعملتها لإعادة تزويد حزب الله بالأسلحة والمعدات.

ما تزال طهران تملك آلاف الصواريخ البالستية (في تشرين الأول/أكتوبر اخترق 30 من أصل 180 صاروخاً الدفاعات الإسرائيلية)، إضافة إلى الميليشيات المتحالفة معها في العراق، والحوثيين الذين يستمرون في قصف إسرائيل من اليمن. وما يزال من الممكن لحزب الله إعادة تجميع قواته. لكن في محيط إسرائيل، انكسر محور المقاومة، الذي رأت فيه إيران رادعاً ضد الهجمات الإسرائيلية أو الأميركية. من منظور طهران، يقلقها أيضاً مدى قدرة وكالات الاستخبارات الإسرائيلية ومدى ارتفاع إمكانية تحملها للمخاطر.

لم تغيِّر خسائر طهران حساباتها النووية بعد، رغم الحافز الواضح في الحصول على الرادع الأقوى. إن التقدم الذي حققه برنامج إيران منذ انسحاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الاتفاق النووي لعام 2015 يعني أن المدة الزمنية اللازمة لإنتاج مادة منشطرة كافية لصنع رأس حربي قد وصلت إلى الصفر (يستغرق تحميل الرأس الحربي على صاروخ أشهراً إضافية). لقد أصبح الصخب داخل النظام الإيراني المطالب بالحصول على قنبلة أعلى صوتاً. لكن حتى الآن، يبدو أن القائد الأعلى آية الله علي خامنئي ما يزال يرى في التنازلات النووية ورقة للحصول على رفع العقوبات وإطلاق حركة الاقتصاد الراكد. كما قد يشعر بالقلق أيضاً من أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية أو الأميركية يمكن أن تكتشف التحرك باتجاه الحصول على سلاح نووي.

يرى بعض مستشاري ترامب، وبعض الإسرائيليين أيضاً، في ضعف إيران فرصة لشلِّ برنامجها النووي أو حتى حكومتها نفسها. ستكون محاولة إسقاط النظام، الذي لا يحظى بالشعبية لكنه ليس هشاً تماماً، من قبيل الحماقة؛ إذ إن سقوطه سيؤدي إلى فوضى كتلك التي حدثت في العراق بعد عام 2003، مع احتمال سيطرة الحرس الثوري المتشدد. حتى تدمير المواقع النووية، المخبأة في أماكن عميقة تحت الأرض، سيتطلب حملة جوية تستعمل ذخائر قادرة على تدمير المخابئ العميقة. قد تدفع مثل تلك الضربات النظام، الذي سيجد فيها تهديداً وجودياً، إلى الرد بكل ما يملكه. في حين كان يبالَغ بقدرة طهران على الوصول إلى أهداف بعيدة، فإن إطلاق آلاف الصواريخ على إسرائيل، إضافة إلى الهجمات على القوات الأميركية في العراق وضربات الحوثيين لخطوط الشحن البحري في البحر الأحمر، يمكن أن تَجُرَّ الولايات المتحدة إلى حرب لا يريدها ترامب.

قد تكون إعادة إطلاق حملة أقصى الضغوط – زيادة العقوبات والعمل العسكري على النحو الذي جرى خلال فترة ترامب الرئاسية الأولى، بشكل يهدف ربما إلى إجبار إيران على تقديم تنازلات أكبر لاحقاً – أقل سوءاً لكنها ستبقى خطيرة. من المؤكد أن العقوبات يمكن أن تساعد العمل الدبلوماسي، لكن الضغوط القصوى ستصب مزيداً من الزيت على نار منطقة مشتعلة أصلاً. تحذر القوى العربية، التي شجعت نهج الصقور الذي اتبعه ترامب في فترة رئاسته الأولى، لكنها أصلحت علاقاتها بطهران منذ ذلك الحين، تحذر من أن تكرار ذلك يمكن أن يؤدي إلى التصعيد. كما يمكن لزيادة الضغط أن تغلق نافذة مفتوحة الآن أمام الدبلوماسية. ويبدو أن الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يحظى بمباركة خامنئي لإجراء حوار مع الغرب.

سيكون الرهان الأفضل الشروع بالمحادثات، والتهديد بزيادة الضغوط إذا فشل الحوار. وسيكون تحديد القيود المفروضة على برنامج إيران النووي أكثر صعوبة مما كان منذ عقد من الزمن، لكن سيكون وصول المفتشين الكامل إليه وإزالة مخزونات اليورانيوم المخصب إلى درجة تقترب من الدرجة اللازمة لصنع سلاح نووي بداية. وقد تكون الأحكام الأخرى في الاتفاق أكثر سهولة. كان العيب الرئيسي في اتفاق عام 2015 عدم وضعه قيوداً على برنامج إيران الصاروخي ودعم وكلائها في الشرق الأوسط، وهي العناصر التي تكمن وراء استياء عرب الخليج من الاتفاق. هذه المرة، مع ترنُّح أولئك الوكلاء أو انكسارهم، فإن صفقة تشمل المنطقة قد تكون أقرب إلى التحقق. يمكن لإيران التي باتت أضعف أن تقبل بتقديم تنازلات لم يكن من الممكن تخيّلها في الماضي؛ ولا تقتصر هذه على تفتيش المواقع النووية بل تشمل وقف شحن الأسلحة إلى روسيا أو إنهاء دعمها للمتشددين مقابل تعهد الولايات المتحدة بعدم مهاجمة طهران، بل حتى التوصل إلى اتفاق عدم اعتداء غير رسمي مع إسرائيل.

هايتي

لقد تبددت آمال كثيرين من سكان هايتي بأن حكومة جديدة وبعثة شُرَطية متعددة الجنسيات بقيادة كينية يمكن أن تفكَّ قبضة العصابات الإجرامية على البلاد.

منذ اغتيال الرئيس جوفينيل مويس في تموز/يوليو 2021، سيطرت العصابات على جزء كبير من هايتي. تلك المجموعات، التي كانت تستخدمها النخب تاريخياً من أجل التربُّح أو القضاء على الخصوم، كبرت وأصبحت أكثر قوة واستقلالاً. في مطلع عام 2024، حاصر تحالف من العصابات المتحاربة سابقاً، يُعرف باسم فيف أنسانم Viv Ansanm، العاصمة بورت أو برنس. كان أرييل هنري، رئيس الوزراء الذي لا يحظى بالشعبية، والذي وصل إلى السلطة بعد مقتل مويس، في نيروبي حينذاك، يشرف على تشكيل بعثة شُرَطية، ولم يتمكن من العودة إلى هايتي. استقال هنري، بضغط من جيران هايتي الكاريبيين، والولايات المتحدة ودول أخرى. واستلم السلطة مجلس رئاسي انتقالي يضم ممثلين عن القوى السياسية والاجتماعية الرئيسية. في حزيران/يونيو، بدأت القوات الكينية بالوصول، وبتفويضٍ للعمل مع شرطة هايتي لمحاربة العصابات، التي يقدر عدد أفرادها بـ 12,000. لكن المجلس الجديد والقوات الأجنبية لم تتمكن من بسط الهدوء. تشاجر السياسيون، وجرَّدت فضائح الفساد المجلس من مصداقيته. ومن غير المرجح إجراء انتخابات جديدة – أجريت الانتخابات الأخيرة في عام 2016 – لتنصيب سلطات جديدة تتمتع بشرعية أكبر، وسط الفوضى. كان قرار نيروبي بتشكيل قوات شبه عسكرية جديراً بالثناء، وكذلك قرار واشنطن بتقديم معظم التمويل، لكن القوة أصغر مما ينبغي (حيث يبلغ عدد أفرادها 400 رجل شرطة فقط حتى الآن، من أصل 2,500 خُطط لإرسالهم). وهي تفتقر إلى الطائرات المروحية، أو المسيَّرات، أو القوارب ولم تكد تخرج من مركز مدينة بورت أو برنس. 

باتت العصابات أكثر جرأة، فهاجمت مناطق كانت تعد ملاذات آمنة سابقاً، بما في ذلك أحياء راقية في بيتيون-فيل، التي يسكنها سياسيون ورجال أعمال، وتوجد فيها مراكز البث المباشر عبر الإنترنت. في عام 2024 وحده، أدى عنف العصابات إلى مقتل أكثر من 5,300 شخص، وتهجير 700,000، وجعل نصف سكان هايتي يواجهون انعدام أمن غذائي حاد. لقد منعت نيران بنادق العصابات شركات الطيران التجارية الأميركية من التوجه إلى بورت أو برنس. بعض المجتمعات، التي تُركت بشكل رئيسي للدفاع عن نفسها، نظَّمت كتائب، مكوَّنة من ميليشيات يبدو أنها ترتبط بالشرطة وتقتل من يُشَك بأنهم أفراد عصابات، الأمر الذي دق ناقوس الخطر منذراً بأن هايتي قد تنزلق إلى شكل من أشكال الحرب الأهلية.

لقد دعت الحكومة الانتقالية الأمم المتحدة إلى إرسال بعثة حفظ سلام كاملة، رغم الإرث المتفاوت للمنظمة الدولية في هايتي (بما في ذلك فضائح في الماضي عن نشر قوات حفظ السلام للكوليرا وارتكابها انتهاكات جنسية بحق الهايتيين).

ليس من الواضح إذا ما كانت بعثة الأمم المتحدة ستنتشر. روسيا والصين متشككتان، وتشيران إلى غياب حل سياسي للأزمة أو رؤية بشأن الكيفية التي يمكن فيها للخوذ الزرقاء أن تُخضع العصابات، ويوافقهما كثير من الخبراء الغربيين. بالنظر إلى عداء الجمهوريين للأمم المتحدة، من غير المرجح أن يتبنى الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب فكرة البعثة؛ ويبدو أكثر حرصاً على ترحيل المهاجرين الهايتيين بدلاً من تمويل تعزيزات لشرطة البلاد.

لكن حالما يصل إلى البيت الأبيض قد يعيد النظر؛ إذ إن مزيداً من الانهيار في هايتي من شأنه أن يحدث موجة أخرى من اللاجئين الهاربين إلى فلوريدا، أحد معاقل ترامب. يمكن لبعثة حفظ سلام ترسلها الأمم المتحدة، على الأقل، أن توفر عدداً أكبر من الجنود، وكميات أكبر من العتاد، ورادعاً أقوى، وربما خبرة أكبر في تفكيك الجماعات المسلحة. ثمة سؤال آخر يتعلق بوجود خطط لإجراء محادثات مع زعماء العصابات أو التوصل إلى هدنة معهم. الغالبية الساحقة من الهايتيين تكره العصابات وترفض فكرة المساومة معها. لكن سيطرة العصابات على العاصمة والشوارع الرئيسية تشير إلى أن السلطات ستجد صعوبة كبيرة في القضاء عليها. يمكن لحوار حذر لا يقوض سلامة الدولة الهايتية أن يوفر جزءاً من مسار العودة إلى السلام.

الولايات المتحدة-المكسيك

تعاني المكسيك من عنف العصابات الإجرامية الذي يشبه بعض أسوأ حروب العالم. خلال حملة الانتخابات الأميركية، وعد دونالد ترامب – الذي أصبح الآن رئيساً منتخباً – بفرض رسوم جمركية مرتفعة على الجارة الجنوبية للولايات المتحدة، وإعادة ملايين المهاجرين، بل وحتى قصف كارتيلات المخدرات.

منذ عام 2006، عندما أعلن الرئيس المكسيكي حينذاك فيليبي كالديرون الحرب على كارتيلات المخدرات، قُتل نحو نصف مليون مكسيكي واختفى نحو 100,000 آخرين في العنف الذي وقع بعد ذلك. قتلت الحكومة زعماء العصابات وفكّكت منظمات إجرامية كبيرة لكنها أحدثت صراعات بين مجموعات أصغر، مسلحة تسليحاً كبيراً غالباً بأسلحة مستوردة من الولايات المتحدة.

تكسب هذه المجموعات من إنتاج ونقل المخدرات لتغطية الطلب عليها من الشمال. يقدَّر بأن الفينتانيل Fentanyl، وهو مخدر تركيبي قتل أكثر من 80,000 شخص في الولايات المتحدة في عامي 2022 و2023، حلَّ محل الكوكائيين والميتافيتامين بصفته نوع المخدرات الرئيسي المخصص للتصدير. وتمتد مجسَّات هذه العصابات أيضاً إلى الابتزاز، وأشكال الجريمة الأخرى، بل حتى إلى الأنشطة القانونية.

لقد أخفق القادة الذين توالوا على السلطة في وقف إراقة الدماء. غادر الرئيس المكسيكي السابق أندريه مانويل لوبيز أوبرادور منصبه في عام 2024 وهو يحظى بمعدلات تأييد مرتفعة، متحدياً مشاعر معاداة شاغلي المنصب التي تكتسح العالم. لكنه لم يحقق اختراقات كثيرة ضد العصابات، رغم أن أعداد الجنود الذين نشرهم في الشوارع كانت أكبر من أي وقت مضى. 

ما تزال معدلات الجريمة في المكسيك من بين الأعلى في العالم. انخفضت معدلات القتل قليلاً في السنتين الماضيتين، رغم أن الفضل في ذلك يعود غالباً إلى الصفقات غير الرسمية التي شاركت فيها السلطات المحلية والتي أبقت المجرمين معزَّزين ويحققون الأرباح.

يتعيَّن على خليفة أوبرادور التي كانت تحظى برعايته – كلوديا شينباوم، التي فازت في الانتخابات في حزيران/يونيو – الآن أن تواجه ليس عنف المخدرات فحسب، بل أيضاً فريق ترامب الذي يصوِّب على المكسيك.

شارك عضو مجلس النواب مايك وولتز، الذي اختاره ترامب ليكون مستشار الأمن القومي القادم، في رعاية تشريع العام الماضي يطلب تفويضاً باستعمال القوة ضد الكارتيلات. يبدو ذلك مبالغاً به، لكن الضجة المطالِبة باتخاذ عمل عسكري أحادي – سواء من خلال الضربات الجوية على مخابر الفينتانيل أو عمليات القوات الخاصة لقتل زعماء العصابات – تتنامى في أوساط الجمهوريين الأميركيين.

قد يحاول ترامب إعادة ملايين المكسيكيين إذا بدأت حملته للترحيل الجماعي للمهاجرين الذين لا يمتلكون وثائق. في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، هدد بفرض رسوم جمركية مرتفعة على السلع المكسيكية ما لم يتوقف تدفق المهاجرين والفينتانيل – حيث يربط فعلياً مطالب أخرى بالسياسة التجارية، التي من المرجح أن تكون أولوية بالنسبة لشينباوم، بالنظر إلى أهمية الصادرات بالنسبة للاقتصاد المكسيكي المتعثر.

لقد أكدت شينباوم للمكسيكيين أن العلاقات ستستمر. في المحصلة، وصل لوبيز أوبرادور إلى السلطة وهو يدافع عن المهاجرين من أميركا اللاتينية الذين أهانهم ترامب، لكن الرئيسين انسجما في النهاية. قمعت المكسيك الهجرة ووافقت على قبول اللاجئين الأجانب الذين كانوا قد دخلوا الولايات المتحدة بشكل غير شرعي وطلبوا اللجوء، إلى أن تسوَّى قضاياهم. توصَّل ترامب إلى اتفاق تجاري جديد، سيخضع للمراجعة في عام 2026؛ ورغم تهديده أحياناً بضرب مهربي المخدرات، فإنه لم ينفذ تهديداته.

ردت شينباوم على تهديدات ترامب، مشيرة إلى أنه ما لم تتعاون المكسيك، فإن قوافل المهاجرين المتوجهين شمالاً ستُستأنف. وطلب من واشنطن ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، وليس إلى المكسيك. وقد تأمل، هي أيضاً، بأن تعزيز دور المكسيك كبلد عازل أمام المهاجرين أو التنسيق الأكثر إحكاماً في مواجهة المخدرات سيرضي ترامب.

دون التعاون، يمكن توقُّع علاقات مضطربة. يمكن لعمليات الترحيل الجماعية، ولا سيما إذا حدثت فجأة، أن تُحدث اضطرابات في أجزاء من المكسيك حيث تواجه الولايات الأكثر فقراً صعوبة في استيعاب العائدين. ومن شبه المؤكد أن يُحدث العمل العسكري الأحادي ضد الكارتيلات أثراً عكسياً. وسيُحدث قتل أعداد أكبر من زعماء العصابات مزيداً من الصراع على النفوذ وتشظي العصابات، دون أن يحقق ذلك أي تقليص في إنتاج المخدرات؛ إذ إن مختبرات الفينتانيل لا تحتاج إلى تقنية عالية ويمكن إعادة بنائها بسهولة.

يمكن أن ترد المكسيك، ربما بتحركات ضد المصالح الاقتصادية الأميركية. إن تردّي العلاقات بين البلدين المرتبطين بالتجارة، والاستثمار والعلاقات العائلية سيشكل كارثة لكليهما.

ميانمار

في منتصف عام 2024، بدا أن النظام العسكري في ميانمار يترنح، مع سيطرة المتمردين على مناطق واسعة من المرتفعات وأيضاً على قواعد عسكرية رئيسية. منذ ذلك الحين، مدَّت الصين حبل نجاة للقائد العسكري مين أونغ هلاينغ، خشية حدوث انهيار غير منظَّم. لكن الطغمة الحاكمة لا تزال تواجه مقاومة صلبة. أما إجراء انتخابات في عام 2025، إذا أجريت كما هو مخطط لها، فسيُؤدي إلى مزيد من إراقة الدماء.

لقد أعادت الحرب الأهلية التي مزَّقت ميانمار منذ سيطرة الجيش على السلطة في عام 2021 البلاد عقوداً إلى الوراء؛ إذ هُجِّر أكثر من ثلاثة ملايين شخص داخلياً، وانهارت الأنظمة الصحية والتعليمية، وارتفعت معدلات الفقر بشكل كبير وانهارت عملة البلاد، الكيات. 

في أواخر عام 2023، بدأ الجيش بالتراجع، على نحو خاص أمام المجموعات الإثنية المسلحة التي كانت قد حاربته على مدى عقود؛ والتي وجدت في بعض الحالات قضايا مشتركة مع مجموعات المقاومة الجديدة. في الشمال، سيطر أحد تحالفات المتمردين، وهو تحالف الإخوة الثلاثي، على معظم ولاية شان الشمالية، بما في ذلك القيادة الإقليمية للجيش في لاشيو. يبدو أن الصين أعطت الضوء الأخضر للهجوم، نظراً لشعورها بالإحباط من عدم قدرة النظام على وقف مراكز الإحتيال الواقعة في المناطق الحدودية. في أماكن أخرى، شنت قوات مقاوِمة ومجموعات إثنية أخرى هجماتها هي أيضاً عندما شعرت بضعف النظام.

في آب/أغسطس، غيَّرت بكين خطتها، ورمت بثقلها خلف الطغمة الحاكمة. التقى وزير الخارجية الصيني وانغ يي بمين أونغ هلاينغ في ميانمار للمرة الأولى منذ حدوث الانقلاب. وأرسلت بكين طائرات مقاتلة للجيش وضغطت على مجموعات الإخوة للانسحاب من المناطق الرئيسية، ولا سيما لاشيو. يحمِّل الرئيس شي جين بينغ المسؤولية لسيطرة النظام على السلطة في عام 2021 عن إلحاق الضرر بالاستثمارات الصينية في ميانمار ويرى أن مين أونغ هلاينغ معادٍ للصين. لكن شي فضَّل تجنب سقوط النظام بدلاً من المخاطرة باحتمال وصول إدارة موالية للغرب إلى السلطة. ترى بكين في حكومة الوحدة الوطنية المعارضة ومعظم قوات المقاومة عملاء للغرب.

لكن الجيش يبقى في موقع دفاعي. فجيش أراكان، المكوَّن من متمردين إثنيين من ولاية راخين، غرب مينامار، أوشك على طرد الجيش من المنطقة. في عام 2017، أجبر الجيش نحو 750,000 من الروهينغا على الخروج من راخين إلى بنغلاديش المجاورة. الآن، بدأ متمردو الروهينغا بمهاجمة جيش أراكان، على أمل اقتطاع جيب خاص بهم. كلما تفاقم تدهور العلاقات بين المجتمعات المحلية، ستصبح احتمالات عودة الروهينغا أكثر قتامة.

في مناطق أخرى، سيطرت مجموعة أخرى من المتمردين، جيش استقلال كاشين، على مناجم الأرض النادرة، الأمر الذي منحه السيطرة على تجارة أوكسيد الأرض النادرة مع الصين بقيمة 1.4 مليار دولار. تعد المناجم أكبر مصدر في العالم لعناصر الأرض النادرة الثقيلة شديدة الأهمية، ما يمنح المجموعة نفوذاً لدى بكين مع سعيها لجني العائدات الكبيرة التي تحتاجها لتمويل عملياتها العسكرية وإدارة مناطقها الواسعة.

ومقابل دعمها، تُصرُّ الصين على أن تُجري الطغمة الحاكمة انتخابات. كانت بكين تريد الانتخابات منذ حدوث الانقلاب، على أمل الحد من السلطة التي يتمتع بها مين أونغ هلاينغ وتحقيق درجة أكبر من الاستقرار. لكن الانتخابات ستكون فوضى عنيفة. في الظروف الحالية، سينجم عن الانتخابات إدارة مدعومة من الجيش تحكم وفقاً للدستور الذي وضعه الجيش في عام 2008 ولا يحظى بالشعبية. وسيكون مكروهاً كما هو نظام اليوم، ومن المرجح أنه لن يقدم رؤية لمستقبل أفضل. قد لا تغيِّر الصين مسارها؛ إذ من الصعب تخيُّل قيام بكين بالدفع من أجل إجراء مفاوضات مع حكومة الوحدة الوطنية، على سبيل المثال، سترفضها الطغمة على أي حال. لكن بكين لن تكسب الكثير من انتخابات ستُحدث مزيداً من الاضطرابات، وتعزز حكم الجيش، وتعمق المشاعر الشعبية المعادية للصين.

شبه الجزيرة الكورية

بدأ عام 2024 بخطاب مفاجئ للزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، تخلى فيه عن السياسة التي تبنتها كوريا الشمالية على مدى عقود، والمتمثلة في الاتحاد السلمي مع كوريا الجنوبية وأعلن أن سيؤول هي العدو الرئيسي لبيونغ يانغ. كان العام الماضي قد انتهى بمصادقة كيم على معاهدة دفاع مشترك مع موسكو وإرسال آلاف الكوريين الشماليين للقتال إلى جانب روسيا ضد أوكرانيا – وأيضاً بمحاولة انقلاب فاشلة قام بها الرئيس الكوري الجنوبي يون سوك–يول انتهت بتصويت البرلمان على عزله.

مع احتمال حدوث تغيرات كثيرة، من المتوقع أن يكون عام 2025 حافلاً بالتوترات في شبه الجزيرة الكورية.

في خطابه الذي ألقاه في كانون الثاني/يناير، كان كيم يهدف إلى زيادة إغلاق كوريا الشمالية، ولا سيما أمام الصادرات الثقافية الكورية الجنوبية – بعبارة أخرى، الموسيقا الشعبية الكورية - وفي الوقت نفسه إحكام قبضته على الاقتصاد. لكن الإمعان في قطع العلاقات، بما في ذلك فعلياً جميع الاتصالات بين الكوريتين، لا يترك أمام البلدين خيارات كثيرة لإدارة الحوادث في وقت يتسم بتصاعد الاحتكاكات.

بعد وصول يون إلى السلطة بوقت قصير في عام 2022 وتبنيه لسياسة أكثر تشدداً حيال بيونغ يانغ، كانت الكوريتان قد تخليتا عن اتفاق يقضي بنزع سلاح حرس الحدود وإقامة مناطق حظر طيران إضافة إلى مناطق عازلة برية وبحرية.

كما دأب كيم على استعراض عضلاته العسكرية. فمنذ عام 2019، عندما انهارت الجولة الأخيرة من الدبلوماسية النووية – التي تم تبنيها والدفاع عنها خلال الفترة الأولى من رئاسة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب، تخلى الزعيم الكوري الشمالي عن الاختبارات النووية، جزئياً على الأرجح لأنه رأى أن اختبارات الرؤوس الحربية التي أجريت قبل عامين قد رسخت الردع فعلياً. لكن بيونغ يانغ عززت واختبرت ترسانتها من الصواريخ. ويهدد كيم أيضاً بإعادة رسم الحدود البحرية لكوريا الشمالية مع كوريا الجنوبية. وقد صعَّد الطرفان مناوراتهما البحرية. ويذكر أن سيؤول أرسلت طائرات مسيَّرة فوق بيونغ يانغ.

تربط معاهدة كيم مع موسكو – وما تلاها من إرسال ما يقدَّر بعشرة آلاف من جنود النخبة الكوريين الشماليين إلى إقليم كورسك الروسي – التوازن العسكري في شبه الجزيرة الكورية بحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أوروبا. تعزِّز العلاقات الأوثق مع الكرملين حكم كيم. تدفع روسيا رواتب الجنود، الذين يفترض أن يكتسبوا خبرة قتالية قيِّمة.

السؤال هو ما الذي ستحصل عليه بيونغ يانغ أيضاً بالمقابل. لن ترسل لها روسيا على الأرجح خبرات نووية، الأمر الذي من شأنه أن يغضب الصين. رغم علاقات بكين بموسكو وبيونغ يانغ، من شبه المؤكد ألَّا يعجب اتفاق الدفاع المشترك الرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يخشى على الأرجح من أن نفوذ روسيا لدى كيم سيقوض نفوذه هو. يخاطر حدوث تقدم سريع في برنامج كوريا الشمالية النووي، أو قيام كيم باستفزازات عسكرية بزعزعة استقرار شبه الجزيرة، أو اجتذاب المزيد من الأصول العسكرية الأميركية إلى المنطقة – وهو آخر شيء يريده شي.

لكن الاستخبارات الأميركية تشير إلى أن بوتين وعد كيم بطائرات مقاتلة. ويمكنه أن يساعد بيونغ يانغ بالتنكولوجيا البالستية، ولا سيما في تحميل رؤوس حربية متعددة – قادرة على ضرب أهداف متعددة – على صاروخ، الأمر الذي سيزيد سهولة اختراق الدفاعات الأميركية والآسيوية.

في سيؤول، من المرجح أن يدشن انقلاب يون الفاشل مزيداً من الاضطرابات. في مطلع كانون الأول/ديسمبر، أعلن يون فرض الأحكام العرفية، مبرراً ذلك بما سماه الإجراءات التعطيلية للمعارضة. رفض ضباط الجيش اعتقال المشرعين، الذين سارعوا بالاعتراض على أحكام قانون الطوارئ وصوّتوا في النهاية على عزل يون في المرة الثانية التي يصوت فيها البرلمان.

تضيف عودة ترامب طبقة أخرى من انعدام اليقين. فرغم امتعاضه من الحلفاء، من غير المرجح أن يُخرج واشنطن من معاهدتها الدفاعية مع كوريا الجنوبية أو يسحب القوات الأميركية. لكنه قد يطالب بأن تدفع سيؤول أكثر مقابل الحماية. سيعزز هذا الدعوات، ولا سيما في أوساط الكوريين الجنوبيين العاديين، إلى حصول سيؤول على قوة ردع نووية خاصة بها. كما يخاطر أي غموض بشأن التزامات واشنطن حيال سيؤول بزيادة جرأة كيم.

ستكون العودة إلى الدبلوماسية النووية مع بيونغ يانغ، إذا كان فريق ترامب مستعداً لذلك، صعبة لكن جديرة بالمحاولة. خلال فترته الرئاسية الأولى، ذُكر أن ترامب اقترب من إقناع كوريا الشمالية بإغلاق محطة يونغبيون – ليست منشأتها النووية الوحيدة، لكنها المنشأة الرئيسية – مقابل رفع جزئي للعقوبات. هذه المرة، ستكون المفاوضات أصعب. فبرنامج كوريا الشمالية بات أكثر تقدماً، واتفاق كيم مع روسيا يقلل حوافز كيم لتقديم التنازلات.

رغم تحذيرات مراقبي الشأن الكوري، لا يبدو من المرجح أن يشن كيم حرباً شاملة من شأنها أن تخاطر بالتحول إلى حرب نووية، الأمر الذي سيكون كارثياً على آسيا والاقتصاد العالمي، ومن المرجح أن تشكل نهاية كيم ذروة تلك الحرب.

يتمثل الخطر الرئيسي في الخطأ بالحسابات. قد تظهر أدلة على قيام روسيا بنقل تكنولوجيا الصواريخ أو قد يقوم كيم - شعوراً منه بالمزيد من القوة بفضل علاقته بروسيا، والاضطرابات الجارية في سيؤول وإشارات مختلطة من ترامب - بالمخاطرة عبر شكل من أشكال الاستفزاز. في كلتا الحالتين، ستواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها ضغوطاً كي يردوا.

الصين–الولايات المتحدة

بعد فترة من الاضطرابات، استقرت العلاقات الأميركية–الصينية على مسار أكثر توازناً منذ القمة التي عقدت في تشرين الثاني/نوفمبر 2023 بين الرئيس الصيني شي جين بينغ والرئيس الأميركي المنتهية ولايته جو بايدن. أعاد البلدان فتح قنوات الاتصال العسكرية بينهما، وهي الحيوية لإدارة مخاطر حدوث اصطدامات غير مقصودة بين السفن الصينية والأميركية في المحيط الهادي أو بين الطائرات فوقه، ويذكر أن الصين اتخذت خطوات أولية لوقف تدفق المواد الكيميائية التي يصنع منها مخدر الفينتانيل إلى الولايات المتحدة. رغم ذلك، سيتولى الرئيس المنتخب دونالد ترامب مهام منصبه والتنافس بين البلدين أكثر شدة مما كان قبل ثماني سنوات. 

إن سياسة ترامب حيال آسيا غير قابلة للتنبؤ، كما هي مقاربته لساحات أخرى. يعتقد بعض الذين اختارهم لحكومته أن الولايات المتحدة منخرطة في صراع عالمي مع الصين، صراع يجب أن تنتصر فيه. ويعتقد آخرون في حلقة ترامب أن واشنطن ينبغي أن تكتفي بردع بكين في آسيا. المدير التنفيذي لشركات التكنولوجيا، إيلون ماسك، الذي يمتلك مصالح تجارية في الصين، يريد علاقات أكثر ودية. ترامب نفسه أرسل إشارات مختلطة تنزع إلى المواجهة فيما يتعلق بالتجارة، والفتور فيما يتعلق بالدفاع عن تايوان، والمشاكسة فيما يتعلق بالتزامات الولايات المتحدة حيال حلفائها الآسيويين، والإعجاب غالباً بالسلطة التي يتمتع بها شي.

سيمثل وعد ترامب في حملته الانتخابية بفرض رسوم جمركية لا تقل عن 60 بالمئة على السلع الصينية – في ارتفاع حاد من الرسوم التي فرضها في فترته الأولى، والتي حافظ بايدن عليها غالباً – طلقات افتتاحية أكثر منها مقدمة لحرب تجارية. ستقوض الرسوم الجمركية النمو البطيء الذي تحققه الصين، لكن بكين يمكن أن ترد – كما بدأت أصلاً بفعله – بحظر صادرات المعادن الحيوية، على سبيل المثال، أو الشروع في تحقيقات تتعلق بمنع الاحتكار فيما يتصل بشركات التكنولوجيا الأميركية العملاقة.

ما يزال مدى الخطر الذي يشكله ترامب على السلام الهش حول تايوان غير واضح. على مدى عقود، كان هدف الولايات المتحدة ردع الصين عن غزو تايوان عن طريق تعزيز دفاعات الجزيرة، دون تقديم ضمانات أمنية صريحة، وعدم تشجيع تايبه، طوال ذلك الوقت، على إعلان الاستقلال أو استفزاز بكين بأي طريقة أخرى. لكن رئيس تايوان الجديد، لاي تشينغ–دي، أكثر ميلاً للمواجهة من أسلافه. لقد صعَّدت الصين توغلاتها في المجال الجوي لتايوان والمناورات العدوانية حول الجزيرة، بما في ذلك مناورة حديثة أجرتها في كانون الأول/ديسمبر – وهي أكبر عملية حربية خلال عقود طبقاً لتايوان – اشترك فيها نحو 90 سفينة تابعة للأسطول وحرس السواحل.

حالما يستلم ترامب مهام منصبه، قد يعبِّر مرة أخرى عن شكوكه بشأن ما إذا كان الدفاع عن تايوان قابلاً للتحقق أو يحاول أن يجعل الجزيرة، التي يتهمها على نحو منتظم باستغلال الكرم الأميركي، تدفع المزيد مقابل الدفاع عنها. أو قد يسمح أيضاً بتسريع مبيعات الأسلحة الهجومية لتايوان والقيام بالمزيد من العمليات البحرية الأميركية في مضيق تايوان. يمكن لأي من المسارين أن يستحضر رداً.

رغم أن شي ربط إرثه باستعادة حكم الصين لما يعده القادة الصينيون مقاطعة مارقة، فإن اختراق دفاعات تايوان سيكون صعباً، وتشير الاضطرابات داخل الدوائر العليا للجيش الصيني إلى أنه لا يثق باحترافية الجيش. لكن إذا شعرت بكين بضعف التصميم الأميركي، فإنها قد تشدد الخناق أكثر على تايوان؛ وإذا ازداد الدعم الأميركي، قد ترد بعنف تعبيراً عن إحباطها.

الساحة الأكثر تقلباً هي بحر الصين الجنوبي، حيث تتقاطع ادعاءات الصين بحق السيطرة البحرية مع ادعاءات دول أخرى (كما أكد ذلك حكم لمحكمة خاصة في عام 2016 فيما يتعلق بالفلبين، رغم أن بكين رفضت الحكم). لقد تصاعدت الاحتكاكات حول صخور وأجراف صخرية متنازع عليها قرب الفلبين، الحليف المرتبط بمعاهدات مع الولايات المتحدة، إلى صدامات بحرية. سعى الرئيس فرديناند ماركوس جونيور إلى إقامة علاقات أوثق مع الولايات المتحدة، فمنحها إمكانية الوصول إلى المزيد من القواعد العسكرية الفلبينية، بما في ذلك بعض القواعد القريبة من تايوان، وإجراء مناورات مشتركة، والتعاون على نحو أوثق مع حلفاء الولايات المتحدة الآخرين. يتهم شي مانيلا بتصعيد الحوادث للحصول على كميات إضافية من العتاد العسكري والاستثمارات الأميركية، ويتهم واشنطن، بالمقابل، باستغلال الاحتكاكات لضم الحكومات إلى شبكتها المعادية للصين.

يمكن لصدام ينجم عنه مقتل فلبينيين أن يدفع ماركوس إلى استحضار اتفاق بلاده الدفاعي مع واشنطن. وعندها سيواجه ترامب، وإن لم يكن راغباً بالرد بالقوة، ضغوطاً من مسؤولي وزارة الدفاع لفعل ذلك. سيكون من الحكمة تجنب حلقة التصعيد دون إرسال إشارة سلبية من شأنها أن تزيد من جرأة بكين، ولا سيما إذا رأى القادة الصينيون علامات أخرى على ضعف علاقات الولايات المتحدة بحلفائها. 

لقد زاد حلفاء الولايات المتحدة الآخرون، بما في ذلك اليابان وكوريا الجنوبية، إنفاقهم الدفاعي، مدفوعين بالسلوك الصيني وعدم ثبات مواقف الولايات المتحدة على حد سواء. تعتقد شرائح واسعة في طوكيو وسيؤول أن بلديهما ينبغي أن يحصلا على رادع نووي خاص بهما. لا تسهم التكهنات حيال صفقة كبرى بين ترامب وشي في تهدئة الأعصاب، حتى وإن بدا مثل ذلك الاتفاق بعيد المنال. وسط ازدياد حدة التنافس بين القوتين الرئيسيتين في العالم، فإن نظرة ترامب القاتمة إلى التحالفات تثير من المخاوف في آسيا بقدر ما تثيره في أوروبا تقريباً.

https://www.crisisgroup.org/

اضف تعليق