يراقب جيران سوريا المباشرون والقوى المهتمة بها الأكثر بُعداً، بما في ذلك روسيا، والولايات المتحدة، بعناية ليروا الكيفية التي ستحكم فيها هيئة تحرير الشام ذات الارتباط السابق بالقاعدة وما إذا كان سيتبين أن التقارير التي تتحدث عن اعتدالها دقيقة أو من باب التطلعات. كثيرون هم القلقون من أن...
من المؤكد أن نهاية عائلة الأسد ستعيد تشكيل سوريا، بل إنها ستعيد أيضاً تشكيل العلاقات بين دمشق وعواصم أخرى. يقدم خبراء مجموعة الأزمات نظرة شاملة للكيفية التي يمكن للأزمة السورية أن تعيد فيها ترتيب السياسات الإقليمية.
بدأت الأزمة التي أفضت إلى إخراج بشار الأسد من سوريا بانتفاضة شعبية في عام 2011، ثم تحولت إلى حرب أهلية دموية أخذت شكل صراع بالوكالة شارك فيه عدد من اللاعبين الخارجيين. وعلى مدى الأعوام الثلاثة عشر التالية، حدثت تدخلات خارجية بارزة من دول الخليج العربية، وحزب الله، وإيران ومجموعات مسلحة عراقية، وإسرائيل، وروسيا، وتركيا والولايات المتحدة. لكن في النهاية، كان السوريون أنفسهم هم الذين أسقطوا نظام الأسد؛ إذ لعبت مجموعة المتمردين، هيئة تحرير الشام، التي يقودها أبو محمد الجولاني (أو أحمد الشرع، الذي تخلى الآن عن اسمه الحركي)، دوراً محورياً. هربت عائلة الأسد إلى روسيا، حيث حصلت على اللجوء، بينما بدأ الشرع في دمشق بمهمة بناء سلطة حكم جديدة. أما الكيفية التي سيفعل فيها ذلك في بلدٍ كبير، متنوع ومتعدد سياسياً، وبوجود كثير من الفصائل المسلحة التي قد تتنافس على السلطة، ووجود صراع يدور في الشمال الشرقي، فيبقى السؤال المفتوح الذي تواجهه سوريا الآن.
يراقب جيران سوريا المباشرون والقوى المهتمة بها الأكثر بُعداً، بما في ذلك روسيا، والولايات المتحدة، بعناية ليروا الكيفية التي ستحكم فيها هيئة تحرير الشام ذات الارتباط السابق بالقاعدة – وما إذا كان سيتبين أن التقارير التي تتحدث عن اعتدالها دقيقة أو من باب التطلعات. كثيرون هم القلقون من أن البلاد قد تعود إلى الاقتتال الفصائلي إذا انهارت التفاهمات غير الرسمية التي عُقدت بين المجموعات المسلحة بعد سقوط النظام. بدأ بعضها بالتحرك لفتح خطوط اتصال مع هيئة تحرير الشام؛ وتوصلت فصائل أخرى إلى صفقات سريعة لحماية مصالحها؛ وتستعمل قوى أخرى – ولاسيما تركيا، وإسرائيل والولايات المتحدة – القوة العسكرية لمعالجة ما تتصور أنه تهديدات لها ولتحقيق مصالحها. ففي هجمات جوية متكررة منذ 8 كانون الأول/ديسمبر، دمرت إسرائيل ما يُقدَّر بـ 70-80 بالمئة من القدرات العسكرية السورية، بينما تحارب قوى بالوكالة عن تركيا ميليشيا يهيمن عليها الأكراد وتدعمها الولايات المتحدة في الشمال الشرقي، الأمر الذي يحدث حالة طوارئ إنسانية جديدة. على هذه الخلفية، يقدم خبراء مجموعة الأزمات هذا المسح الموجز لنقاشات جرت في عواصم مختلفة حول أحدث التطورات.
تركيا
كان نظام الأسد خصم تركيا منذ وقت طويل، ويقدم انهياره بالنسبة لأنقرة فرصاً وتحديات على حد سواء؛ إذ يمنح انتقال السلطة من حليفي الأسد السابقين روسيا وإيران – وكلتاهما تتنافس معهما تركيا على النفوذ في الشرق الأوسط – أنقرة فرصة لتعزيز نفوذها في سوريا. كانت أنقرة قد انخرطت على نحو براغماتي مع هيئة تحرير الشام منذ سنوات، فأقامت علاقات يمكن أن تساعدها الآن في توجيه السلطات الجديدة في دمشق باتجاه يلائمها. كما يمكن لسقوط النظام أن يمهد الطريق لعودة أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الذين يعيشون في تركيا إلى وطنهم، مما يريح الحكومة التركية مما كان قد أصبح صداعاً سياسياً واستنزافاً لموارد البلاد.
لكن هذه التطورات لم تعالج ما تعدها أنقرة مخاوفها الأمنية الرئيسية – الجيب الذي يتمتع بما يشبه الحكم الذاتي في شمال شرق سوريا وتحكمه قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وهي مجموعة ساعدت الولايات المتحدة في إلحاق الهزيمة بتنظيم الدولة الإسلامية. يتمثل المكون المهيمن في قوات سوريا الديمقراطية في وحدات حماية الشعب، التي ترتبط بحزب العمال الكردستاني، الذي صنفته تركيا، والولايات المتحدة والاتحاد الاوروبي تنظيماً إرهابياً. وتتمثل الأسئلة الكبيرة الآن في الكيفية التي ستتطور فيها علاقة أنقرة بهيئة تحرير الشام، والكيفية التي ستتعامل فيها تركيا والمتمردين السابقين مع قسد.
عندما علمت أنقرة أولاً بالهجوم الذي يخطط له المتمردون، نصحت بالحذر؛ إذ شعر المسؤولون الأتراك بالقلق من أن الهجوم من شأنه ألّا يحقق الكثير للمتمردين، بينما سيستحضر هجوماً مضاداً من قبل النظام وروسيا يمكن أن يؤدي إلى تدفق المزيد من اللاجئين إلى تركيا. ويقولون إنهم حذروا المتمردين من عدم مهاجمة خطوط النظام؛ لكن بات من الواضح أن المتمردين سيفعلون ذلك في كل الأحوال. عند تلك النقطة، قد تكون أنقرة قد قبلت، اعتقاداً منها أن الهجوم لن يذهب بعيداً أو أنه قد يحقق نتيجة متوسطة تتمثل في الضغط على دمشق للتفاوض مع المعارضة السورية، بما ينسجم مع تفضيل تركيا لإضعاف نظام الأسد، لكن دون تدميره. أُخذت أنقرة على حين غرة بالتقدم السريع الذي حققه المتمردون إلى أن وصلوا دمشق، لكنها تحركت بسرعة للتعبير عن دعمها للنظام الجديد. قام رئيس المخابرات التركية، إبراهيم قالين، بزيارة علنية إلى دمشق بعد أربعة أيام من سقوط النظام. في 14 كانون الأول/ديسمبر، أعادت تركيا فتح سفارتها في العاصمة السورية التي كانت قد أغلقتها في عام 2012.
تركيا في موقع جيد يمكِّنها من مساعدة سوريا الجديدة، اقتصادياً وسياسياً. ويُتوقَّع أن تلعب الشركات التركية دوراً في إعادة إعمار البلاد، كما يشير الارتفاع الكبير في أسعار أسهم شركات الإسمنت والبناء التركية في اليوم التالي لانهيار النظام. كما يمكن أن تساعد أنقرة في تخفيف حدة الاحتكاكات بين فصائل المتمردين المتنافسة، بل إن مسؤوليها يشجعون هيئة تحرير الشام على تقاسم السلطة مع مجموعات المعارضة الأخرى، بما في ذلك القوة الوكيلة لتركيا، الجيش الوطني السوري. في 10 كانون الأول/ديسمبر، عبَّر الرئيس رجب طيب أردوغان عن أمله في أن تتبنى القيادة الجديدة في سوريا نهجاً شاملاً يحتضن جميع شرائح المجتمع السوري.
سيكون العامل الحاسم في علاقة أنقرة بسوريا الجديدة التطورات في الشمال الشرقي؛ فعلى مدى ثماني سنوات، تشن تركيا هجمات ضد قسد وغارات جوية على مواقعها وتحشد القوات الموجودة في أجزاء من شمال سوريا على طول الحدود البالغة 911 كم. وقد كان هدفها بعيد المدى منع حزب العمال الكردستاني (الذي ترى أنه لا ينفصل عن قسد) من إقامة دويلة في شمال شرق سوريا.
لكن مشروع أنقرة مُقيَّد بقوات التحالف التي شُكلت لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي تقوده الولايات المتحدة والذي لا يزال موجوداً في الشمال الشرقي. تحاول وحدات الجيش الوطني السوري الاستفادة من الديناميكيات المتغيرة في البلاد لمحاولة تفكيك ذلك المأزق. منذ بدأ تقدم المتمردين، أخرج الجيش الوطني السوري قسد من تل رفعت ومنبج، البلدتين المهمتين في المنطقة، ويتوجه الآن نحو كوباني، حيث خاضت قسد (بدعم أميركي) معركة شهيرة لكسر الحصار الذي فرضه تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2015. من غير الواضح ما إذا كان نفوذ الولايات المتحدة على قسد وأنقرة سيترجَم إلى جهد ناجح لدفعهما نحو التسوية.
إيران
حدث انهيار نظام الأسد بعد أشهر من الانتكاسات التي واجهتها الإستراتيجية الإقليمية للجمهورية الإسلامية. ففي أيلول/سبتمبر، صعَّدت إسرائيل حملتها في لبنان ضد حزب الله، أكثر الشركاء غير الدولتيين أهمية لطهران في شبكة “محور المقاومة“. في تشرين الأول/أكتوبر، كشف تبادل للضربات والضربات المضادة مع إسرائيل فجوات في الدفاعات الجوية الإيرانية وعطَّل إنتاجها للصواريخ. قد يكون إعلان وقف إطلاق النار في لبنان في أواخر تشرين الأول/أكتوبر قد وفر لإيران استراحة لإعادة التجمع واحتواء الضرر. لكن الهجوم الصاعق الذي شنه المتمردون في سوريا سرعان ما جعل ذلك الاحتمال غير ذي معنى، وقضى في أقل من أسبوعين على حليف كانت طهران قد ضحَّت من أجل بقائه بالدماء، والثروات والسمعة على مدى سنوات عدة.
من منظور المسؤولين الإيرانيين فإن مصير الأسد قد حسمته نقاط ضعفه؛ فقد ترأس دولة متعفنة، يحرسها جيش لم يدافع عنه جدياً عندما حانت اللحظة. مع تحقيق قوات المتمردين مكاسب على الأرض بسرعة، لم تتدخل لا إيران ولا شركاؤها لسد الثغرة. من الصعب معرفة ما إذا كانت قد امتنعت عن التدخل لأنها واجهت قيوداً عملياتية في إرسال أسلحة وقوات إضافية أو لأنها لم تجد جدوى في محاولة إنقاذ حليف بدا أن قواته المسلحة نفسها قد تخلت عن القتال. ربما كان الأمر مزيجاً من العاملين.
لم يحرم سقوط الأسد الجمهورية الإسلامية من دولة حليفة منذ أمد بعيد فحسب، بل إنه يخلق تحديات لخططها لإعادة بناء القدرات العسكرية التي تقلصت لحزب الله من خلال سوريا – التي كانت ممراً دأبت إسرائيل على استهدافه على نحو منتظم. لقد تعرضت ممرات الإمداد في عقيدة إيران في “الدفاع المتقدم“، والتي كانت محورية في جهودها لفرض قوتها وردع خصومها، لضربة شديدة. رغم ما يُذكر من أن الحكومة الإيرانية تتواصل مع السلطات الجديدة في سوريا بقيادة هيئة تحرير الشام، فإن تعليق الشرع بأن نظام الأسد قد جعل سوريا “ملعباً للطموحات الإيرانية” يشير إلى سقف منخفض للعلاقات على المدى القريب ويضع إيران في مأزق. إذا انقسمت الحكومة السورية المستقبلية، فإن طهران قد تأمل باستغلال الانقسامات. لكن في هذه الأثناء فإنها تواجه تحدياً على المدى القريب في كيفية المحافظة على الوصول إلى لبنان وإلى شركائها في حزب الله.
الأمر الأكثر جوهرية، هو أن الضربات الموجهة إلى حماس، وحزب الله والأسد على مدى الأربعة عشر شهراً الماضية كشفت مجتمعة المشكلات التي تعاني منها رؤية إيران الإقليمية. لكن المناظرة في طهران تدور غالباً حول تحميل مسؤولية الفشل، بدلاً من النظر في مسار جديد إلى الأمام؛ إذ يتجادل المسؤولون حول ما إذا كان الأسد يستحق كل اللوم على التقليل من شأن مكائد خصوم إيران، أو، من وجهة نظر بعض المتشددين، ما إذا كان ينبغي أن تتحمل الحكومة الإيرانية بعض اللوم أيضاً على ما يعدونه ترددها في الرد على الضربات الإسرائيلية في داخل وخارج إيران. داخلياً، يشير السياسيون المعتدلون والإصلاحيون إلى سقوط الأسد على أنه تحذير مما يمكن أن يحدث عند اتساع الفجوة بين الدولة والمجتمع على نحو يقوِّض استقرار النظام – في إشارة إلى أن شيئاً مشابهاً يمكن أن يحدث لإيران. في تعليقات أدلى بها في 11 كانون الأول/ديسمبر، قال القائد الأعلى علي خامنئي: “كلما ضغطتم أكثر، كلما أصبحت المقاومة أقوى.... إيران قوية – وستصبح أكثر قوة“. لكن اتجاه الأمور خلال الشهور الماضية ينفي صحة تلك الرسالة.
إسرائيل
بالنسبة لإسرائيل، تمثل إزاحة نظام الأسد من سوريا فرصاً ومخاطر؛ إذ يُعد رحيل النظام ضربة أخرى لإيران، عدو إسرائيل الإقليمي الرئيسي، و“محور المقاومة” الذي حاولت إيران من خلاله مناوشة إسرائيل بالوكالة بينما تحمي نفسها من الهجمات الإسرائيلية. الأمر الحاسم بالنسبة لإسرائيل هو أن سوريا لم تعد ممراً موثوقاً يمكن لطهران استعماله لإمداد شريكها اللبناني، حزب الله. في الوقت نفسه، كانت إسرائيل قد باتت تعتمد على الأسد في منع الميليشيات المدعومة من إيران من شن هجمات على إسرائيل من أجزاء من مرتفعات الجولان الواقعة تحت السيطرة السورية. الآن، ثمة عنصران يصعب التنبؤ بتداعياتهما في المزيج الراهن هما صعود هيئة تحرير الشام، الجماعة الإسلامية السنية، إلى السلطة، على الأقل مؤقتاً، في دمشق وتنامي النفوذ التركي. لقد دفعتها هذه التغيرات إلى تولي بعض الأمور بنفسها.
لقد تركز بعض اهتمامها على مرتفعات الجولان، التي احتلت إسرائيل جزءاً منها في حرب عام 1967 وضمّتها لاحقاً. (اعترفت إدارة ترامب بضم إسرائيل لها في عام 2019 وحافظت إدارة بايدين على هذا الموقف. ولا يزال معظم ما تبقى من العالم يَعُد الجولان أرضاً محتلة). في عام 1974، توسطت الولايات المتحدة في التوصل إلى اتفاق ينسحب بموجبه الجيش السوري من منطقة يبلغ عرضها الأقصى 8 كم إلى الشرق والشمال الشرقي من الجولان الذي تحتله إسرائيل. ومنذ ذلك الحين، ساد الهدوء على تلك الجبهة غالباً، لكن سقوط الأسد أثار هواجس داخل الحكومة الإسرائيلية. فكَّر المسؤولون أنه في الفوضى التي نشأت، يمكن لمجموعات المتمردين أو مجموعات معادية أخرى أن تتقدم باتجاه الجنوب الغربي وتشكل تهديداً للمستوطنين في الجولان. على المدى الأبعد، قد تشعر إسرائيل بالقلق أيضاً من أن الحكومة الجديدة في سوريا يمكن أن تطعن في سيادتها على الأجزاء من الجولان التي تسيطر عليها. في 15 كانون الأول/ديسمبر، وافقت الحكومة الإسرائيلية المصغرة على خطة بمقدار 11 مليون دولار لمضاعفة عدد سكان مرتفعات الجولان، حيث أكد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن “تعزيز قوة مرتفعات الجولان يعني تعزيز قوة الدولة الإسرائيلية“.
على هذه الخلفية، وخلال ساعات من سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر، عبرت القوات الإسرائيلية إلى المنطقة منزوعة السلاح. وفي اليوم نفسه، قال نتنياهو إن اتفاق عام 1974 كان قد “انهار” لأن سوريا لم تعد تمتلك جيشاً فعالاً يمكن أن يفي بالتزاماتها. لكن في 9 كانون الأول/ديسمبر، قال سفير إسرائيل في الأمم المتحدة داني دانون إن الحكومة “تبقى ملتزمة بإطار الاتفاق” وإن الإجراءات التي اتخذتها في الجولان محدودة ومؤقتة. (وفي اليوم نفسه، اتهم متحدث باسم الأمم المتحدة إسرائيل بانتهاك اتفاق عام 1974).
لم تقتصر عمليات إسرائيل على الجولان؛ فقد اتخذت قواتها مواقع لها على الجانب السوري من جبل الشيخ، القمة الإستراتيجية المطلة على دمشق، وأيضاً على عدد من المواقع التي أخلاها الجيش السوري وبضع قرى خلف المنطقة العازلة بقليل، بما في ذلك حضر، والقنيطرة، وأم باطنة ومدينة البعث، طبقاً لأشخاص سوريين وضابط إسرائيلي. إضافة إلى ذلك، دمرت إسرائيل الكثير من الأسلحة الثقيلة للجيش السوري، مدّعية أنها دمرت 70-80 بالمئة منها بين 9 و14 كانون الأول/ديسمبر في مسعاها للقضاء على جزء كبير من القوات الجوية السورية، والدفاعات البحرية الجوية، ومخزونات الأسلحة الكيميائية ومواقع الإنتاج، والصواريخ والدبابات وأصول أخرى.
لقد قالت القيادة الإسرائيلية منذ البداية إن تحركات إسرائيل داخل سوريا “موقف دفاعي مؤقت، إلى أن يتم التوصل إلى ترتيب مناسب“. لكن من غير الواضح كيف سيبدو ذلك الترتيب. كما لم يحدد نتنياهو الوقت الذي قد يستغرقه التوصل إلى ذلك الترتيب، مشيراً إلى أن القوات الإسرائيلية يجب أن تظل في سوريا لمدة طويلة. وقال وزير الدفاع الإسرائيلي إن الجيش سيظل على الجانب السوري من جبل الشيخ حتى نهاية الشتاء. في هذه الأثناء، قال وزير الخارجية جدعون ساعر إن إسرائيل ليست مهتمة بالتدخل في “الصراع الداخلي في سوريا“. لكن ثمة ما يبرر توقُّع أن تحاول العمل مع المكوّنات السورية، ولا سيما الدروز والأكراد، لردع الهجمات على إسرائيل وللتوصل إلى تفاهمات أمنية جديدة. في 14 كانون الأول/ديسمبر، عندما كانت إسرائيل لا تزال تشن ضربات جوية في سوريا، أصدر الشرع بياناً قال فيه إن هيئة تحرير الشام لا تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل. لكنه قال أيضاً إنه لم يعد هناك مبرر لقصف إسرائيل لسوريا الآن بعد أن غادرت إيران. تشير كلماته إلى أنه إذا استمرت إسرائيل باتخاذ إجراءات أحادية، فإنها تخاطر بتصعيد التوترات. بالمقابل، فإن مثل هذا التطور من شأنه أن يقوِّض قدرة إسرائيل على إقامة علاقات مع القيادة السورية الجديدة في المستقبل.
الأردن
لقد طرح السقوط السريع لنظام الأسد ما يبرر الهواجس والآمال في الأردن، الذي طالما وجد صعوبة كبيرة في معالجة تداعيات الحرب الأهلية المريرة في جارته سوريا. ستكون المملكة، التي أغلقت حدودها الشمالية مع سوريا في 6 كانون الأول/ديسمبر، متخوفة من حدوث مزيد من العنف إذا تداعى الاتفاق غير الرسمي بين الميليشيات التي أطاحت بالأسد. ومع انتظارها للكيفية التي ستتكشف عنها الأحداث، امتنعت في الوقت الراهن عن اتخاذ موقف رسمي حيال السلطات الجديدة في دمشق. لكن عمان عبَّرت عن دعمها لمستقبل جديد للشعب السوري، بما في ذلك في خطاب ألقاه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي. في حديثه في 8 كانون الأول/ديسمبر، قال الصفدي إن الأردن مستعد لتوفير “كل الدعم الممكن للشعب السوري في جهوده لإعادة بناء وطنه ومؤسساته ونظامه السياسي بطريقة تضمن أمن، وسيادة، وحرية سوريا وحياة حرة وكريمة لجميع مواطنيها“.
بالنسبة للمملكة، يحمل رحيل الأسد إمكانية تسوية عدد من التحديات الإستراتيجية المرتبطة بنظامه. أولاً، كانت سوريا قد تطورت إلى ما يمكن وصفه “دولة مخدرات“، إذ كانت ضالعة في إنتاج وتوزيع مادة الكبتاغون، وهي صنف من الأمفيتامين، حيث أصبح الأردن الممر البري الرئيسي لإيصال المخدرات إلى السعودية ودول الخليج العربية الأخرى. وكانت الفرقة الرابعة مدرعات، وهي قوات النخبة السورية التي يقودها شقيق بشار الأسد، ماهر، ضالعة بعمق في هذه التجارة. مع سقوط النظام، سيتطلَّع المسؤولون الأردنيون إلى الشرع للوفاء بوعده بوضع حد نهائي لها. لم يكن تجار المخدرات يجدون صعوبة كبيرة في عبور الحدود السورية الأردنية الطويلة، ويمكن لمهربي الأسلحة أو المتسللين المسلحين أن يحاولوا فعل ذلك أيضاً، ومن ثم سيكون أمن الحدود أولوية قصوى على جدول أعمال المملكة مع الحكومة الجديدة. في حين أن المنطقة الغربية من الحدود المجاورة لمحافظة السويداء السورية محصنة ومحروسة جيداً، فإن المنطقة الشرقية هي غالباً صحراء تحرسها دوريات متفرقة.
ثانياً، إذا صمد السلام في سوريا، كما يأمل الأردن كثيراً، فإن ذلك سيسمح بعودة اللاجئين السوريين الذين تستضيفهم. ثمة ما يقدر بـ 1.4 مليون سوري يعيشون في الأردن الآن، من بينهم 620,000 مسجلين رسمياً كلاجئين، بعضهم في البلاد منذ عام 2011. تفرض قضية اللاجئين أعباء كبيرة على المملكة، ولا سيما مع تراجع المساعدات الدولية منذ سنوات. وزير الداخلية الأردني مازن الفرّاية قال يوم سقوط الأسد إن السبب الرئيسي لعدم عودة السوريين إلى وطنهم كان انعدام الأمن، أي تهديد النظام بالانتقام منهم. ادعى الفرّاية أنه بوجود سلطة جديدة في دمشق، فإن هذا الهاجس قد عولج إلى حد كبير. إلّا إن ذلك لم يتأكد بعد. إذا فشلت الترتيبات السياسية الجديدة في سوريا، من غير المرجح أن يرغب اللاجئون بالعودة؛ وإذا استؤنف القتال مرة أخرى، فإنه يمكن أن يدفع المزيد من السوريين لينشدوا الأمان في الأردن. ومن ثم ستراقب عمان عن كثب التطورات وراء الحدود مع سوريا لبعض الوقت. في هذه الأثناء، تلعب دوراً مألوفاً؛ أي إنها تستضيف الأنشطة الدولية في محاولة لتخفيف حدة التوترات. في 14 كانون الأول/ديسمبر، اجتمع وزراء خارجية الدول الأوروبية والعربية في عمان لمناقشة سبل دعم انتقال سلمي في سوريا.
لبنان
تعكس ردود الفعل في لبنان على الأحداث في سوريا حالة من الاستقطاب بشأن وضع حزب الله في السياسات الداخلية وفي “محور المقاومة” التي تقوده إيران. يتبنى السياسيون اللبنانيون وجهات نظر مختلفة على نحو صارخ بشأن ما يمكن أن يعنيه انهيار نظام الأسد بالنسبة لدور حزب الله وما تبقى من مخزون أسلحته. وتتمثل خلفية ذلك في الحرب التي استمرت أربعة عشر شهراً مع إسرائيل التي أطلقها حزب الله في مساندة حماس، وهدأت بعد وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 27 تشرين الثاني/نوفمبر، وخرج منها الحزب بخسائر كبيرة.
بالنسبة لحزب الله، فإن سقوط الأسد يعني خسارة حليف محوري، وعمق إستراتيجي وخطوط الإمداد البرية التي حصل من خلالها على معظم أسلحته المصنوعة في إيران. كانت الميليشيا الشيعية التي تحولت إلى حزب قد استثمرت كثيراً في بقاء نظام الأسد في الحرب الأهلية السورية، وفقدت أكثر من 2,000 من رجالها منذ عام 2013 في قتالها إلى جانب دمشق. تعد الإطاحة بالنظام انتكاسة كبيرة، وقد وجد الحزب صعوبة كبيرة في توجيه الرسائل الصحيحة بشأنها؛ إذ بدأت وسائل الإعلام الموالية للحزب الالتزام بالخط الإيراني الرسمي القائل بأن الأحداث في سوريا كانت نتيجة “مخطط صهيوني–أميركي“، في حين أشار الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، إلى الهجمات الإسرائيلية على الأصول العسكرية السورية على أنها أدلة على أن مقاومة ما وصفه أجندة إسرائيل التوسعية ما تزال ضرورية.
لقد ضخَّم حزب الله الهواجس المتعلقة بالتوجُّه “المتطرف” للمتمردين السوريين. وبفعله ذلك، استحضر تاريخ التنظيم الذي نشأت عنه هيئة تحرير الشام، وهو جبهة النصرة، والتي كانت فرعاً للقاعدة، وسيطرت إلى جانب تنظيم الدولة الإسلامية، على مناطق على طول الحدود اللبنانية – السورية بين عامي 2014 و2017، فقتلت واختطفت أفراداً من الجيش والشرطة اللبنانيين، وشنت هجمات في مناطق في بيروت تقطنها غالبية شيعية. قطعت هيئة تحرير الشام منذ ذلك الحين علاقاتها الرسمية بالقاعدة، واعتقلت عدداً كبيراً من خلايا تنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة. اليوم، يبدو أنها تعمل على إظهار اعتدالها، رغم أن من المبكر الحكم على ما إذا كانت سترفق الأقوال بالأفعال؛ ومن المفهوم أن يشعر كثير من اللبنانيين بالقلق بشأن الكيفية التي ستحكم بها الجماعة.
في الوقت نفسه، فإن عدداً لا بأس به كان كارهاً لنظام الأسد المخلوع منذ وقت طويل. تدخل الجيش السوري وأجهزة المخابرات السورية في الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1991) واحتفظ بدور مهيمن في مرحلة ما بعد الحرب. حمَّل كثير من اللبنانيين سوريا مسؤولية اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري في عام 2005 وعن عدد كبير آخر من الاغتيالات. أجبرت موجة من الاحتجاجات الشعبية مدعومة بضغوط دولية، أجبرت سوريا على سحب قواتها وعناصر مخابراتها في عام 2005. لكن حتى بعد ذلك الوقت، كان من الشائع أن يصر اللبنانيون على أن سوريا تحتفظ بسجناء لبنانيين (وهو ادعاء ثبتت صحته عندما ظهر عدد منهم من زنزانات نظام الأسد التي فتحت أخيراً في 8 كانون الأول/ديسمبر). أثار اندلاع الحرب الأهلية السورية في عام 2011-2012 مخاوف من أن القتال سيشمل لبنان، بينما ولَّد تدفُّق نحو 1.5 مليون لاجئ سوري توترات اجتماعية.
يبدي اللبنانيون الذين حمّلوا مسؤولية كثير من مشكلات بلادهم لنظام الأسد ابتهاجاً بسقوطه. وأحرج ظهور السجناء اللبنانيين المحررين كثيراً من السياسيين مثل وزير الخارجية السابق جبران باسيل والرئيس السابق ميشيل عون، الذين كانا قد قبلا التأكيدات السورية بأنه لم يعد هناك سجناء لبنانيون في سوريا. بين أولئك اللبنانيين الذين يعارضون حزب الله – وهم غالبية المسيحيين والسنة، لكن أيضاً بعض الشيعة – يرى بعضهم فرصة الآن لترجيح كفة ميزان القوى في لبنان ضد الحزب. خلال الحرب بين حزب الله وإسرائيل، قال ممثلو الأحزاب التي تتبنى مثل هذا التوجه – مثل القوات اللبنانية – إنهم يتوقعون قطع خطوط إمداد حزب الله من خلال سوريا نتيجة للصراع، الأمر الذي يمنع الحزب من تجديد ترسانته والاحتفاظ بما يصفونها بأنها هيمنته على السياسة اللبنانية.
يعبِّر المراقبون الآن عن قلقهم من أن حزب الله قد يرد على الضربة التي تعرَّض لها باغتيالات واحتجاجات في الشوارع. من المحتمل أن يمنع الضرر الذي لحق بقيادة الحزب وأسلحته على يد إسرائيل حدوث مثل هذا السيناريو، لكن عندما يُحاصَر حزب الله فإنه قد يفاقم من زعزعة استقرار لبنان غير المستقر أصلاً.
روسيا
يُعدُّ سقوط عائلة الأسد ضربة لمصداقية روسيا، ضربةٌ تكشف حدود قدرتها (أو ربما استعدادها) لدعم شركائها الأمنيين، على الأقل طالما ظلت مشغولة بصراع يستنزفها في أوكرانيا. من شبه المؤكد أن تُلحق الأحداث في سوريا ضرراً بمكانة روسيا في الشرق الأوسط والعالم. كما أنها تشكك باستمرار وجودها العسكري في المنطقة، بما في ذلك مصير قاعدتها البحرية الوحيدة على أراضٍ أجنبية، وهي قاعدة طرطوس على ساحل سوريا على البحر الأبيض المتوسط.
تدخلت روسيا عسكرياً في سوريا في عام 2015 بدعوة من نظام الأسد. تعمدت موسكو أن تبعث برسالة إلى القادة المستبدين الذين يواجهون مخاطر مماثلة بأن روسيا ستساندهم. كما أرادت حماية وصولها إلى طرطوس، ميناءها الوحيد على المياه الدافئة. في تلك الحالة، حسَّن تدخُّل موسكو علاقاتها مع عدة لاعبين إقليميين: إيران، بسبب مصالحها المشتركة في المحافظة على نظام الأسد، لكن أيضاً مع إسرائيل، التي بدأت معها حواراً بشأن سوريا. في عام 2015، أسست روسيا وإسرائيل مركزاً للتنسيق ساعد في عدم حدوث تداخل بين عملياتهما الجوية في سوريا. كما بدأت دول الخليج العربية أيضاً بالتعامل مع روسيا على نحو مختلف - الاعتراف بموسكو لاعباً إقليمياً قوياً لا تستطيع تجاهله – وزيادة التعاون الاقتصادي معها.
لكن انتباه روسيا انصرف في النهاية إلى مكان آخر؛ فغزوها لأوكرانيا في عام 2022 عجَّل بانسحاب تدريجي لقواتها من سوريا. بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2024، كانت كتيبتان من الجيش الروسي وسرب واحد من الطائرات الروسية كل ما بقي في سوريا. (قدَّرت بي. بي. سي أن نحو 7,500 جندي روسي كانوا في سوريا في بداية الحرب. لم تُصدر موسكو أي بيانات رسمية). كما تراجعت جودة القادة الروس في سوريا، حيث كانت موسكو ترسل إلى سوريا ضباطاً كان أداؤهم سيئاً في أوكرانيا. كما لم يكن لدى روسيا قوات احتياطية يمكن أن تنشرها بسرعة في حالة طوارئ، الأمر الذي ترك نظام الأسد مكشوفاً ووحيداً عندما شنت هيئة تحرير الشام هجومها.
ربما بالغت روسيا في تقديرها لقدرة نظام الأسد على الصمود. تشير مصادر لمجموعة الأزمات مقربة من الحكومة الروسية إلى أن الجيش الروسي اعتقد أن الجيش السوري، الذي كان متفوقاً عددياً على قوات المتمردين، سيتمكن من مقاومة هجوم المتمردين، أو على الأقل، الدفاع عن محيط دمشق. بعدما فوجئت موسكو بتقدم المتمردين الصاعق إلى حلب، ثاني أكبر مدينة في سوريا، فكرت بطرق لتحقيق الاستقرار في الجبهة، لكنها أعادت النظر عندما رأت أن الجيش السوري لن يدافع عن النظام.
بعد أن حصلت عائلة الأسد على اللجوء في روسيا، فإن أولوية موسكو القصوى في سوريا هي الاحتفاظ بقاعدتها البحرية في طرطوس، وأيضاً قاعدتها الجوية في حميميم. لقد رست السفن الحربية الروسية في طرطوس منذ عام 1971، في الحقبة السوفيتية، في حين أن حميميم، التي بنيت عام 2015، شكَّلت مركزاً عملياتياً للقوات الروسية في سوريا، وأيضاً لنشر قوات في أفريقيا. يذكر أن روسيا فاوضت على استمرار أصولها مع هيئة تحرير الشام، لكن في الأيام الأخيرة بدأت تسحب أصولها من سوريا. عند وقت نشر هذه المادة، كانت روسيا قد سحبت نحو 400 جندي من سوريا، إضافة إلى قدر كبير من العتاد الثقيل، وكانت تجري نقاشات مع هيئة تحرير الشام بشأن سحب المزيد. ولذلك فإنه من غير الواضح ما إذا كان الكرملين يستطيع الاحتفاظ بقواعده أو إلى متى. إن خسارة هذه القواعد ستلحق ضرراً كبيراً بطموحاته في المنطقة وفي مناطق أخرى.
بشكل عام، تسعى روسيا إلى التعاون مع السلطات القائمة في كل مكان لها مصالح فيه. ولذلك فإنها ستكون مستعدة لتأسيس حوار مع هيئة تحرير الشام والفصائل الأخرى المتنافسة على السلطة في سوريا ما بعد الأسد، وكذلك مع تركيا، التي يعترف بها الكرملين الآن لاعباً محورياً في البلاد. لكنها ستواجه تحديات في تأمين دور لها في السياسة الداخلية السورية، بالنظر إلى أنه ليس لديها الكثير مما تقدمه للسلطات الجديدة، التي لها ذكريات ما تزال حية عن روسيا بصفتها البلد الذي بددت طائراته الحربية صفوف المتمردين وقصفت المستشفيات في المدن التي تسيطر عليها المعارضة. بعد منح الأسد اللجوء، دعت وزارة الخارجية الروسية السلطات الجديدة في دمشق لتشكيل حكومة جامعة وأعلنت أنه يتعين أن يقرر السوريون مستقبلهم.
الأراضي الفلسطينية المحتلة
يشعر الفلسطينيون الذين أنهكتهم الحرب أن الإطاحة بنظام بشار الأسد، التي تُعدُّ منتجاً ثانوياً غير متوقع لحرب إسرائيل التي دمرت قطاع غزة منذ هجوم حماس في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، من شأنها أن تقوض الجهود الدبلوماسية التي يبدو أنها بدأت تكتسب بعض الزخم. في الأسابيع الأخيرة، أُعيد إحياء محادثات توسطت فيها قطر بين حماس وإسرائيل للتوصل إلى وقف لإطلاق النار، بينما حققت محادثات بقيادة مصرية بين حماس وفتح لتشكيل لجنة تكنوقراطية لحكم القطاع تقدماً أيضاً. ويذكر أن الإدارة الأميركية شجعت الأطراف على تسريع المحادثات من أجل التوصل إلى اتفاق قبل تنصيب الرئيس المنتخب دونالد ترامب، وتقدم حماس تنازلات لكلا الطرفين اللذين تتحادث معهما بشأن بنود الاتفاقين.
السؤال هو ما إذا كان الزخم سيستمر مع تحول الاهتمام الدولي نحو سوريا، حيث ركزت إسرائيل والدول العربية والجهات الفاعلة الدولية الأخرى على إدارة تداعيات ما بعد سقوط الأسد. يشعر الفلسطينيون بالقلق من أن صناع السياسات الغربيون قد يكونون أكثر استعداداً لإنفاق الوقت والموارد على الملف السوري مما هم مستعدون لفعله لتسوية الوضع في غزة، بالنظر إلى أنهم يتصورون الحالة الأولى على أنها هاجس أمني مباشر والثانية مشكلة حادة لكن محتواة تسيطر عليها إسرائيل. في هذه الأثناء، يستمر الوضع في غزة بالتدهور؛ إذ يجبر الهجوم المدمر الذي يشنه الجيش الإسرائيلي في الجزء الشمالي من القطاع عشرات آلاف الفلسطينيين الذين ظلوا هناك على الانتقال إلى الجنوب. بعد أربعة عشر شهراً من القصف والحصار شبه الكامل، يتعرض سكان القطاع إلى خطر تفاقم المجاعة والتعرض إلى ظروف الشتاء القاسية، وانخفاض إيصال المساعدات إلى أدنى حدوده.
بالنسبة لحماس، يختتم سقوط الأسد تاريخاً معقداً من العلاقات المتقلبة بين الانقطاع والتواصل مع النظام. قررت الحركة الإسلامية، التي كانت قيادتها في المنفى أن تتخذ من دمشق مقراً لها حتى عام 2012، فقررت في عام 2011 الوقوف إلى جانب الانتفاضة الشعبية ضد الأسد، وهو خيار أدى إلى طرد حماس من البلاد، وخسارة دولة راعية رئيسية، وتدهور علاقاتها مؤقتاً مع إيران وحزب الله، شركائها الآخرين في “محور المقاومة“. كانت العلاقات قد تعافت إلى حد أن حزب الله هبَّ لمساعدة حماس، وإن يكن على مضض وعلى نحو جزئي، بعد بداية حرب غزة. الآن، وضعت هزيمة الأسد في أعقاب الانتكاسات التي ألحقتها إسرائيل بحزب الله وإيران على مدى العام الماضي، وضعت محور المقاومة في موقع دفاعي.
إضافة إلى حماس، كانت الحرب الأهلية السورية قضية تثير الانقسام في السياسة الفلسطينية والرأي العام الفلسطيني منذ عام 2011. فقد أدت إلى وقوف المعسكرين الموالي والمناهض للنظام ضد بعضهما بعضاً، حيث اصبحت القضية الفلسطينية مجالاً لصدامات أخرى أدت إلى انقسام الفصائل الفلسطينية حتى من الداخل. مع تنافس الجهات الفاعلة السورية والدولية على صياغة حقبة ما بعد الأسد، من المرجح أن تنعكس الخلافات الناجمة عن ذلك في المناظرات الفلسطينية الداخلية أيضاً. وسيكون مصير ما يقدر بـ 438,000 لاجئ فلسطيني في سوريا، معظمهم يعتمدون على وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين للحصول على المساعدات والخدمات الأساسية، قضية رئيسية، وكذلك مستقبل نحو 120,000 آخرين هربوا من البلاد خلال الحرب الأهلية وباتوا الآن مشتتين في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأوروبا.
العراق
أذهل السقوط السريع لنظام الأسد الحكومة العراقية والمجموعات المسلحة العراقية التي كانت تتمركز منذ وقت طويل في سوريا كجزء من “محور المقاومة” الذي تقوده إيران. عندما شنت هيئة تحرير الشام هجومها السريع على حلب، كان رد فعل بغداد تعزيز حدودها مع سوريا البالغ طولها 600 كم. الآن وقد سيطر المتمردون على دمشق وجزء كبير من البلاد، تسعى الحكومة العراقية إلى صياغة سياسة جديدة حيال جارتها الغربية.
في البداية هبَّت بغداد للدفاع عن بشار الأسد، فأدانت هجوم المتمردين، بل إن المتحدث العسكري باسم رئيس الوزراء محمد شياع السوداني شبَّه تقدم هيئة تحرير الشام بتقدم تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2014. في مكالمة هاتفية مع الرئيس التركي أردوغان، قال السوداني إن حكومته لن تقف مكتوفة الأيدي بينما تحقق عناصر خطيرة مكاسب في سوريا، مؤكداً على الضرر الذي عاناه العراق على أيدي المنظمات المتطرفة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، عندما اكتسبت موطئ قدم في سوريا. أرسل قائد هيئة تحرير الشام، الشرع (الذي كان يعمل حينذاك باسم الجولاني)، رسائل تطمين بأن هدف مجموعته الوحيد كان الإطاحة بالنظام في دمشق. وقالت قيادة هيئة تحرير الشام إنه ليس للتنظيم أي نية في التحرك إلى العراق؛ وفي الواقع، كان يسعى لإقامة علاقات ودية مع بغداد. لكن الحكومة العراقية كانت متشككة.
تعرض السوداني، بعد وقت قصير، للضغط من المجموعات المسلحة المدعومة من إيران وبعض الأحزاب الشيعية في ائتلافه الحاكم للتدخل عسكرياً لصالح الأسد. لم يستجب السوداني لهذه الدعوات، لكنه لم يسعَ إلى منع المجموعات المتحالفة مع إيران من عبور الحدود إلى سوريا. لكن عدداً قليلاً منها فعل ذلك. وتلك التي كانت تقاتل أصلاً في سوريا، بما فيها كتائب حزب الله، وحركة النجباء وكتائب سيد الشهداء، كانت مستعدة لدخول المعركة لصالح النظام إذا أعطاها قادتها الإشارة بذلك. عضو في إحدى تلك المجموعات أخبر مجموعة الأزمات أنه بحلول في 5 كانون الأول/ديسمبر، عندما سيطر المتمردون على حماة، ثاني أكبر جائزة بعد حلب، بات من الواضح أن الجيش السوري كان يتراجع بدلاً من أن يقاوم تقدم المتمردين. وهكذا، قررت المجموعات العراقية، بالتنسيق مع إيران، عدم التدخل في الصراع. في 6 كانون الأول/ديسمبر، انسحبت جميع المجموعات العراقية المتبقية في سوريا إلى العراق بعد انسحاب الجيش السوري من شرق البلاد، وتسليم السيطرة لقسد في المناطق الممتدة من دير الزور إلى المعبر الحدودي مع العراق في البوكمال.
منذ سيطرة المتمردين على دمشق في 8 كانون الأول/ديسمبر، خففت الحكومة العراقية لهجتها، لكنها لا تزال حذرة وغامضة، ولا سيما اتجاه السلطة الجديدة في دمشق. سيواجه الشرع، الذي قاتل مع القاعدة في العراق قبل انشقاقه عن التنظيم (تحت اسم الجولاني)، مهمة شاقة في تغيير موقف بغداد حيال هيئة تحرير الشام، سواء بسبب تاريخه أو بسبب هيمنة المجموعات المدعومة من إيران في السياسة العراقية. لا تنظر بغداد إلى وعود هيئة تحرير الشام بحماية الأماكن الشيعية المقدسة في سوريا على أنها إيجابية، بل ترى مخاطرة في تردي البلاد مرة أخرى إلى الحرب الأهلية.
أما كيف ستؤثر هذه الخلفية في العلاقات بين بغداد ودمشق فلا يزال غير واضح حتى الآن. من جهة، أصدرت الحكومة بياناً تؤكد فيه على الأهمية التي يوليها العراق لاحترام سلامة الأراضي السورية وخيارات الشعب السوري. ومن جهة أخرى، تزداد المخاوف بشأن عودة تنظيم الدولة الإسلامية إلى الظهور، مع تركيز قسد على صد تقدم الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا غرباً. بانتظار حدوث تغيير في الاتجاه مع الإدارة الأميركية القادمة، فإن تعاون بغداد مع قوى التحالف التي تقودها الولايات المتحدة في سوريا سيستمر بصفته عائقاً يمنع وصول أي عدم استقرار إلى العراق.
دول الخليج العربية
تتشاطر دول الخليج العربية الهواجس بشأن كيفية تحقيق الاستقرار في سوريا، والمحافظة على مؤسسات الدولة والسيادة، ودعم المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار. وتشعر بالقلق حيال انهيار الدولة وإعادة ظهور المجموعات الجهادية، وامتداد أثر أي من تلك التطورات إلى الجوار في الأردن، ولبنان والعراق. إذا لم يتمكن قادة سوريا الجدد من تعزيز سيطرتهم، يمكن لمجموعات عنيفة أن تستغل الفراغ في السلطة للسيطرة على أراضٍ وتفاقم الانقسامات بين المجموعات الإثنية والدينية التي كانت في حالة استقطاب خلال الحرب الأهلية.
لم يكن هناك دائماً تلاقٍ في المنظورات بين رؤى هذه الدول. كان لدى دول الخليج العربية آراء متباينة حيال نظام الأسد ومجموعات المعارضة المختلفة في سوريا، ودرجات متفاوتة من الانخراط معها. في السنوات الأولى للحرب الأهلية، قطعت جميعها، باستثناء عُمان، علاقاتها مع دمشق. ودعمت كل من السعودية، وقطر والإمارات العربية المتحدة عناصر في المعارضة السورية، بما في ذلك مجموعات قاتل بعضها بعضاً. تبع فشل محاولات الإطاحة بالأسد سنوات من الانسداد، طبَّعت بعدها السعودية، والبحرين والإمارات علاقاتها مع دمشق، الأمر الذي مهد الطريق لعودة سوريا إلى الجامعة العربية في عام 2023. وكان هدفها استعمال العلاقات السياسية، وفيما بعد العلاقات الاقتصادية لإخراج الأسد من الفلك الإيراني. في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، مباشرة قبل شن المتمردين هجومهم، ذُكر أن الإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة كانتا تناقشان رفع العقوبات عن نظام الأسد إذا ابتعد عن طهران. على العكس من ذلك، استمرت قطر في دعم المعارضة السورية طوال الحرب، فاستضافت ممثليها في الدوحة ورفضت أي تقارب مع الأسد. الكويت أيضاً دعمت المعارضة، بينما احتفظت عُمان بعلاقات مع النظام. (في حين أن معظم دول الخليج العربية لديها قنوات اتصال مع مجموعات المتمردين والمعارضة السورية السابقة، فإن لدى قطر علاقات أقوى – تليها الكويت – ومن ثم فهي في موقع أفضل للتأثير في الديناميكيات الجارية على الأرض).
لقد جاءت ردود فعل دول الخليج العربية على الإطاحة بالأسد متشابهة في التأكيد على أهمية الأمن، والاستقرار ودعم المؤسسات السورية. في بيان رسمي، أبرزت الإمارات العربية المتحدة أهمية الحفاظ على وحدة وسيادة سوريا، بينما قال المستشار الرئاسي الإماراتي أنور قرقاش إن الأسد كان قد أخفق في الاستفادة من “الحبل الذي رمته له عدة دول عربية“. امتدحت البيانات السعودية والقطرية أيضاً الخطوات التي اتخذتها السلطات الجديدة حتى الآن لحماية المدنيين، وتخفيف حدة الصراع وحماية مؤسسات الدولة السورية. إضافة إلى ذلك، أكدت قطر على أهمية الحوار بين مختلف مجموعات المعارضة السابقة والحاجة الماسة للمساعدات الإنسانية.
أعلنت دول الخليج العربية الست جميعها خططاً لإجراء محادثات مع الحكومة السورية المؤقتة والفصائل الموجودة في جميع أنحاء البلاد
رغم الهواجس بشأن مختلف مجموعات المتمردين العاملة في سوريا، فإن دول الخليج العربية الست جميعها أعلنت خططاً لإجراء محادثات مع الحكومة السورية المؤقتة والفصائل الموجودة في جميع أنحاء البلاد، وأيضاً عن إرسال المساعدات. لقد بدأت الدوحة بإرسال المساعدات من خلال تركيا والأردن، مستعملة علاقاتها مع مختلف مجموعات المعارضة السابقة؛ ومن المرجح أن تحذو دول الخليج العربية حذوها. في علامة على الاستعداد للانخراط، كان دبلوماسيو دول الخليج العربية والمنطقة بين مجموعة من السفراء التقت الحكومة المؤقتة في 12 كانون الأول/ديسمبر.
من المؤكد أن بعض دول الخليج العربية، ولا سيما الإمارات العربية المتحدة، والسعودية والبحرين حذرة من أيديولوجية هيئة تحرير الشام، وكذلك من النفوذ التركي المتنامي في سوريا، لكن من غير المرجح أن تمنعها هذه العوامل من السعي لإقامة علاقات عمل معها. لقد انتظرت طويلاً لإخراج سوريا من كنف إيران؛ والآن بعد أن خسرت إيران نفوذها في سوريا، يمكن أن تنجح في إعادة البلاد إلى الصف العربي فقط إذا دعمت تعافيه من دمار الحرب الأهلية. ثم إن هذه أفضل طريقة لأن يكون لها دور في صياغة مستقبل البلاد طبقاً لمصالحها الخاصة.
ليبيا
لقد عكست ردود الفعل على سقوط الأسد الانقسامات السياسية العميقة في ليبيا. في طرابلس، مقر حكومة رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة المدعومة من الأمم المتحدة، خرج الناس إلى الشوارع احتفالاً بالإطاحة بالطاغية، التي استحضرت انتفاضة عام 2011 التي أسقطت الزعيم الليبي معمر القذافي. وعبَّر البعض في طرابلس عن أمله بأن يكون حليف الأسد الليبي، المشير خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق ليبيا وأجزاء من الجنوب ويتمتع بدعم عسكري روسي، هو التالي على جدول السقوط.
بالمقابل، في بنغازي، معقل قوات حفتر ومقر الحكومة المنافسة، تلقَّى الناس الأخبار من سوريا بصمت رصين. منذ عام 2018، أرسلت روسيا الأسلحة والعتاد إلى الجيش الوطني الليبي الذي يقوده حفتر من خلال قواعد عسكرية في سوريا. وعلى مدى سنوات، ربطت الرحلات الجوية المدنية بين دمشق وبنغازي، فنقلت العمال من سوريا إلى ليبيا، إضافة إلى مهاجرين يأملون بالوصول إلى أوروبا بحراً. كما ذُكر أن أفراداً من عائلة حفتر التقت عائلة الأسد وأقامت علاقات عمل مع حاشيتها. جدير بالملاحظة أنه في يوم رحيل الأسد من سوريا، حطت طائرة من دمشق في بنغازي، الأمر الذي أثار الحديث بين الليبيين بأن طائرة حملت عدداً من مسؤولي النظام الهاربين من سيطرة المتمردين. وأخبرت مصادر قريبة من حفتر مجموعة الأزمات أنه خلف الأبواب المغلقة، يشيطِن المقربون منه الإسلاميين الموجودين في الحكم الآن في سوريا.
توضح ردود الفعل المتناقضة هذه كيف أن من المرجح أن تستمر الفصائل المتنافسة في ليبيا بالنظر إلى التطورات في سوريا من خلال منظور مصالحها الخاصة. قد يشكل سقوط نظام الأسد تحذيراً لكلا الجانبين، اللذين يتسمان كليهما بنزعات استبدادية، الأمر الذي يبرز أن الوضع الراهن يمكن أن يتغير على نحو غير متوقع. عبَّر دبلوماسيون مشاركون في اجتماع الأمم المتحدة بشأن ليبيا على الأمل في أن يثير السقوط المفاجئ للأسد اندفاعة متجددة نحو المفاوضات السياسية، التي توقفت منذ أكثر من سنة، بهدف توحيد البلاد. لكن السياسيين الليبيين، المتلهفين لتعزيز قوتهم التفاوضية قبل أن يتفقوا على إجراء المحادثات، قد لا يغتنمون الفرصة.
فيما يتجاوز السياسات المحلية، ثمة قضية ينبغي مراقبتها تتمثل في الكيفية التي ستُحدث فيها التغيرات في الوجود العسكري الروسي في سوريا أثراً في ليبيا. تكثر التكهنات في طرابلس والعواصم الغربية بشأن قاعدة حميميم الجوية على نحو خاص. إذا فقدت موسكو حميميم، يعتقد كثيرون أنها ستواجه مشكلة في إمداد المنشآت في شرق وجنوب ليبيا، وهي المناطق التي تتمركز فيها طائرات روسية وبضع مئات من الجنود. ولذلك فإن دورها العسكري في البلاد – وفي جميع أنحاء أفريقيا فعلياً – يمكن أن يتقلص. لكن التطورات في سوريا قد تدفع موسكو إلى محاولة تعزيز قواتها في ليبيا بدلاً من تقليصها، ولا سيما إذا نجحت في الجهود الرامية إلى المحافظة على قواعدها في سوريا.
مجلس الأمن الدولي
لقد دفع انهيار حكومة بشار الأسد إلى حوار بنَّاءٍ نادر في مجلس الأمن الدولي. منذ عام 2011، كانت مناظرات المجلس حول سوريا صدامية عادة، حيث تستعمل روسيا والصين الفيتو لحماية نظام الأسد. لكن عندما أجرى المجلس مشاورات مغلقة في 9 كانون الأول/ديسمبر لمناقشة الوضع في سوريا، ذُكر أن جميع أعضائه كانوا براغماتيين بشأن الحاجة إلى التكيّف مع النجاح العسكري لهيئة تحرير الشام، رغم أن البعض، بمن فيهم روسيا، استمروا بالإشارة إلى جذور الجماعة الجهادية. يتعين على أعضاء المجلس، وأيضاً على المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى سوريا، غير بيدرسون، أن يحددوا طبيعة الدور الذي يمكن للمنظمة أن تلعبه في المرحلة الانتقالية في البلاد.
لا يزال إطار انخراط الأمم المتحدة هو قرار مجلس الأمن رقم 2254 لعام 2015، الذي دعا إلى “مرحلة انتقالية بملكية وقيادة سورية“. واجه مبعوثو الأمم المتحدة المتتابعون إلى سوريا صعوبة كبيرة في دفع الأسد في هذا الاتجاه. يعتقد دبلوماسيون في نيويورك أن المبادئ الواردة في القرار – بما في ذلك الحاجة لبناء نظام سياسي شامل، وحماية الأقليات والتحضير لانتخابات وطنية في النهاية – ما تزال مناسبة للتعامل مع السلطات الجديدة في دمشق. ويبدو أن أعضاء المجلس عازمون على تشجيع بيدرسون لاستكشاف مدى استعداد هيئة تحرير الشام والفصائل السورية الأخرى للانخراط في محادثات حول مستقبل البلاد، رغم أن الهيئة لم تُشِر حتى الآن إلى أنها تريد من الأمم المتحدة أن تلعب مثل ذلك الدور الميسِّر. بعد أن سيطرت الجماعة على العاصمة، فإنها من غير المرجح أن تقبل بأن تعامَل على أنها مجرد واحدة من جهات فاعلة عدة في المحادثات. إضافة إلى ذلك، فإن عملية تقودها الأمم المتحدة ستحظى بالمصداقية فقط إذا حظيت بدعم اللاعبين الإقليميين والدوليين.
قد يتبين أن تراجع حدة التوترات في المجلس بشأن سوريا مؤقتٌ فحسب. ثمة مصدران كبيران للنزاع. أحدهما التوغل العسكري الإسرائيلي في سوريا، الذي تجاوز المنطقة العازلة المنزوعة السلاح التي تُسيِّر فيها الأمم المتحدة دوريات في مرتفعات الجولان، الأمر الذي انتقدته روسيا ومعظم أعضاء المجلس، لكن المسؤولين الأميركيين دافعوا عنه بصفته إجراءً أمنياً مشروعاً. حتى الآن، يقول الدبلوماسيون إنهم يريدون فصل نقاشاتهم لأفعال إسرائيل في سوريا (وأيضاً نقاشاتهم بشأن غزة) عن المحادثات الدائرة بشأن المرحلة الانتقالية بعد سقوط الأسد. قد يكون من الصعب فصل الجانبين إذا تطورت المناورات الإسرائيلية إلى عملية عسكرية مفتوحة.
تتمثل العقبة الثانية في تصنيف المجلس لهيئة تحرير الشام منظمة إرهابية معاقَبة منذ عام 2014. لا يمنع التصنيف الأمم المتحدة من الانخراط مع هيئة تحرير الشام سياسياً، وقد اتخذ المجلس خطوات لتسهيل عمل وكالات المساعدات التابعة للأمم المتحدة في المناطق الواقعة تحت سيطرة جهات فاعلة معاقَبَة، لكنها تبقى رغم ذلك عقبة بالنسبة للدول الأعضاء المنخرطة مع سلطات الأمر الواقع الجديدة، ومن ثم تجعل التقدم نحو إعادة بناء سوريا أكثر صعوبة. لم يناقش المجلس القضية رسمياً بعد، لكن أعضاءه بدؤوا التفكير جدياً باحتمال رفع هيئة تحرير الشام عن قائمة المنظمات المصنفة إرهابياً. سيستغرق مثل ذلك القرار وقتاً، بالنظر إلى أن أعضاء المجلس حذرون بشأن رفع الجماعة من التصنيف قبل الآوان، وقبل أن يروا كيف تترجم خطابها المعتدل حتى الآن إلى أفعال. يتحدث البعض على نحو غير رسمي عن رفع تدريجي للعقوبات عندما تحقق السلطات السورية معايير معينة، لكن النقاشات الدبلوماسية لم تصل إلى هذا الحد بعد.
رغم هذه العقبات الماثلة أمام متابعة الأمم المتحدة للقرار 2254، فإن المجلس – بما فيه الدول المتمتعة بحق الفيتو – لديها حوافز مشتركة معينة للمحافظة على أرضية مشتركة حيال سوريا. بعد سنوات من الجدل الغاضب حول الأسد، فإن لا روسيا ولا أي قوة غربية تسيطر على الأحداث. وتُعدُّ محاولة إقناع حكام سوريا الجدد بالالتزام بمبادئ القرار 2254 طريقة لحفظ ماء الوجه في لحظة تتسم بدرجة كبيرة من انعدام اليقين. حتى الآن، يناقش مبعوث الأمم المتحدة وفريقه الخيارات، سواء مع الأطراف الخارجية أو في اجتماعات في دمشق في 16 كانون الأول/ديسمبر، مع القادة الجدد، بعد أن دعا بيدرسون إلى عملية بقيادة سورية ونهاية سريعة للعقوبات الدولية.
الولايات المتحدة
كغيرها من الدول، أُخذت الولايات المتحدة على حين غرة بالأحداث الدراماتيكية في سوريا. مباشرة بعد بداية هجوم المتمردين، توصلت إدارة بايدين إلى ثلاثة استنتاجات. أولاً، لم يكن هناك داعٍ لوضع الولايات المتحدة في الواجهة فيما يتعلق بتطور الأحداث في سوريا، وبالفعل فإن أفضل تحرك لواشنطن يتمثل في مراقبة الأوضاع والتحضير للطوارئ. ثانياً، لم يعد بوسع نظام الأسد وشركاءه إقامة دفاع فعال على المناطق التي كانوا يسيطرون عليها، إما بسبب الافتقار إلى القدرة أو غياب الإرادة. أخيراً كان من الممكن تماماً أن يسقط النظام، وإذا فعل، سيتعين على الولايات المتحدة الانخراط مع هيئة تحرير الشام المنتصرة رغم تاريخ الجماعة ووضعها القانوني كمنظمة مصنفة إرهابية.
لم تشارك الولايات المتحدة في الإطاحة الصاعقة بالنظام، لكنها لا تزال منخرطة بعمق في الشؤون السورية من خلال وجودها العسكري في البلاد وأنظمة العقوبات المتقاطعة التي فرضتها على دمشق، والتي مضى على بعضها عقود، عندما كان حافظ الأسد في السلطة. كما أن علاقات واشنطن الوثيقة بإسرائيل تعني أن للولايات المتحدة علاقة بالأفعال الإسرائيلية في سوريا. وستتوقع الجهات الفاعلة الإقليمية أن تضغط الولايات المتحدة على الحكومة الإسرائيلية كي لا تسمح بتوسع هذه الأفعال إلى ما لا نهاية زمنياً وعلى الأرض.
ينتشر نحو 900 فرد من الجيش الأميركي في شرق وجنوب سوريا. ويعود وجودهم في سوريا إلى عام 2015، عندما شكَّلت الولايات المتحدة بعثة لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية تقودها منذ ذلك الحين. ستستمر البعثة في سوريا والعراق على حد سواء، وستركز على شراكات مع قسد، التي أحدثت احتكاكاً كبيراً مع تركيا، الحليفة الأطلسية. لا تزال القوات الأميركية تساعد قسد في احتجاز آلاف السجناء من تنظيم الدولة الإسلامية وفي إدارة المخيمات التي تحوي عشرات الآلاف من الأسر المرتبطة بتنظيم الدولة وأشخاص آخرين من المناطق التي كانت واقعة تحت إدارة تنظيم الدولة.
مباشرة بعد سقوط نظام الأسد، شنَّت الولايات المتحدة عشرات الضربات الجوية التي استهدفت تنظيم الدولة الإسلامية، ووصفت مهمتها بأنها محاولة لضمان ألَّا يستطيع التنظيم استغلال الفوضى لإعادة ترتيب نفسه. لكن العمليات التي تُشن ضد تنظيم الدولة الإسلامية تعقِّدها عداوة أنقرة لقسد، التي أُجبرت على تحويل طاقتها إلى الدفاع عن نفسها ضد الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا. يخشى المسؤولون الأميركيون أن تندفع تركيا والجيش الوطني السوري شرقاً إلى مسافة أبعد، في محاولة لإخراج قسد، شريك واشنطن في مكافحة الإرهاب. في الوقت الحاضر، تسعى الولايات المتحدة أولاً إلى تقييد الهجمات المدعومة من تركيا ضد قسد ومن ثم التوسط في التوصل إلى ترتيب بين أنقرة والجماعة ذات القيادة الكردية. ليس لدى الولايات المتحدة الآن خطط لسحب قواتها من سوريا، لكن آراء إدارة ترامب القادمة حول المسألة غير واضحة. خلال فترته الرئاسية الأولى، سعى الرئيس المنتخب على نحو متكرر لسحب القوات من البلاد، لكنه توقف. في مؤتمر صحفي عقده في 16 كانون الأول/ديسمبر، لم يكن حاسماً عندما سُئل عن مستقبل القوات الأميركية في سوريا، لكنه أوضح أنه يرى أن تركيا لاعب محوري هناك، ووصف دورها بأنه “المفتاح“. أثارت هذه التعليقات تكهنات بشأن مقاربة واشنطن المستقبلية حيال شراكتها مع قسد.
لقد بدأت الولايات المتحدة الانخراط بسرعة مع هيئة تحرير الشام، لكن مثل تلك الدبلوماسية ستكون مقيدة طالما احتفظت واشنطن بالعقوبات التي تقوِّض جهود إعادة بناء سوريا. في الوقت الراهن، ليس هناك خطط لرفع العقوبات، رغم وجود نقاش قوي بشأن كيفية تخفيف حدة آثارها. لكن من غير المرجح أن تكون هذه الإجراءات كافية، ولا ينبغي أن تصرف اهتمام صناع السياسات عن الجهد الأوسع المتمثل في رفع العقوبات، والذي ستظل المرحلة الانتقالية في سوريا في خطر كبير دونه.
اضف تعليق