برز تطوّرُ علاقات مفتوحة وودّية بين إسرائيل وبعض الدول العربية الخليجية كدينامية جديدة لافتة لمنطقة الشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين. ففي منطقة محفوفة بالاضطرابات والحروب الأهلية المتفشّية والتحالفات الجيوسياسية المتغيّرة والتنافس بين التحالفات المتخاصمة التي تسعى إلى توسيع دوائر نفوذها وتحديد المصائر في الدول الضعيفة والمتجزّئة...
بقلم: Omar H. Rahman

برز تطوّرُ علاقات مفتوحة وودّية بين إسرائيل وبعض الدول العربية الخليجية كدينامية جديدة لافتة لمنطقة الشرق الأوسط في القرن الواحد والعشرين. ففي منطقة محفوفة بالاضطرابات والحروب الأهلية المتفشّية والتحالفات الجيوسياسية المتغيّرة والتنافس بين التحالفات المتخاصمة التي تسعى إلى توسيع دوائر نفوذها وتحديد المصائر في الدول الضعيفة والمتجزّئة في المنطقة، اكتسبت هذه الدينامية أهمية استراتيجية قوية من الجهة الخليجية بشكل خاص. وفيما بقيت العلاقات الرسمية مع إسرائيل لفترة طويلة مقيَّدة بغياب القدرة على إيجاد حلّ للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، أعطت قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية المتضائلة على التأثير في السياسات الإقليمية الدولَ الخليجية حيّزاً أوسع لمنح مصالحها الوطنية الأولوية على حساب المصالح “العربية”.

ومع أنّ الاتّفاقات الدبلوماسية التي وقّعتها الإمارات العربية المتّحدة والبحرين مع إسرائيل في العام 2020 شكّلت تقدّماً لافتاً في العلاقات، ليست خطوط التواصل والتعاون بين الدول الخليجية وإسرائيل بأمر جديد. فقد أنشأت عدّة دول في المنطقة، من ضمنها قطر والبحرين وعمان، صلات بإسرائيل في التسعينيات بعد أن وقّعت منظّمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتّفاقيات أوسلو.[1] ومع أنّ السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين لم يتحقق، أصبح الخطّ الأحمر الذي يحظر العلاقات في الدول العربية مع إسرائيل غير واضح الملامح. وبعد أوسلو، تطوّرت العلاقات بشكل سرّي وغير رسمي، وبقيت عموماً طيّ الكتمان بسبب التحريم المستمرّ لدى الجماهير العربية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل فيما لا يزال الشعب الفلسطيني تحت نير الاحتلال الإسرائيلي. وفي العام 2002، قادت المملكة العربية السعودية مبادرة السلام العربية، التي ثبّتت التسلسل في العلاقات العربية مع إسرائيل: دولة فلسطينية تبعاً لحدود العام 1967 أولاً، ثم تطبيعٌ للعلاقات مع العالم العربي برمّته.

ومع توسيع الجهتَين تعاونهما في السنوات الأخيرة، أصبحت هذه القنوات الخلفية مرئية أكثر بشكل لا مفرّ منه. وكذلك، أصبح الترويج لها أكثر فأكثر جزءاً من الهدف الذي وضعته الدول الخليجية في سعيها لنيل موافقة واشنطن، ممّا أفضى جزئياً إلى اتفاقيات التطبيع غير المسبوقة التي وقّعتها الإمارات العربية المتّحدة والبحرين مع إسرائيل في البيت الأبيض في 15 سبتمبر 2020، والتي تمّ الترويج لها تحت عنوان “اتّفاقيات أبراهام”.[2]ومع ذلك، ما زالت دول مجلس التعاون الخليجي كتلة غير مُجمِعة على الإطلاق، وتختلف طبيعة العلاقات مع إسرائيل ونطاقها بين الدول الخليجية.

فالمملكة العربية السعودية، كجزء من المحور الذي يضمّ دولاً ذات تفكير متشابه تسعى إلى تحقيق أهداف منسّقة في السياسة الخارجية، تتشارك الدوافع الاستراتيجية مع الإمارات العربية المتّحدة والبحرين إزاء إسرائيل. وبالفعل، فقد تعاونت الرياض وتل أبيب سرّاً لسنوات بالإجمال في المسائل الأمنية وتبادل المعلومات الاستخبارية، لكنّ للمملكة الخليجية حساباتها الخاصة في ما يخص استعدادها لجعل العلاقات رسمية.[3] ويشمل ذلك مكانتها الفريدة في العالم الإسلامي بصفتها خادمة الحرمَين الشريفَين والشرعية التي ينبغي على آل سعود حمايتها في هذا الدور. والمملكة أكبر بكثير وأكثر تنوّعاً من الدول النظيرة لها، مع وجود شرائح لا تنظر إلى إسرائيل بعينٍ العطف.[4] ومع ذلك، الإشارات الصادرة عن المؤسّسة السياسية، ولا سيّما الجيل الشاب الذي يقوده ولي العهد محمّد بن سلمان، يتّجه بوضوح نحو مقاربة مختلفة مع إسرائيل لا تستثني تطبيع العلاقات قبل التوصّل إلى اتفاقية سلام فلسطينية إسرائيلية.[5]

أمّا عُمان، فمع أنّها لم تطبّع العلاقات مع إسرائيل، لطالما انتهجت مقاربة غير تقليدية بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، إذ دعمت مصر علناً في اتّفاقية السلام التي وقّعتها مع إسرائيل في العام 1979 واستضافت مسؤولين إسرائيليين رفيعي المستوى منذ أواسط التسعينيات، من بينهم رئيس الوزراء الراحل إسحق رابين في العام 1994.[6] علاوة على ذلك، على عكس الدول الأخرى في المنطقة، لا تنبع علاقة عمان بإسرائيل من رغبة في مواجهة قوى إقليمية خصمة بل من موقف عمان القديم بالحياد والدبلوماسية ومن رغبتها في المحافظة على علاقات إيجابية مع كل الدول في المنطقة، من بينها إسرائيل وإيران.[7] ومع أنّ هذه السياسة الخارجية وضعها السلطان قابوس بن سعيد الراحل، يبدو أنّ خلَفَه السلطان هيثم بن طارق آل سعيد مستعدّ للمحافظة عليها إن أمكن.[8] بيد أنّه نظراً إلى موقع عمان الاقتصادي المتراجع، قد يكون هذا الموقف مرهوناً بقدرة عمان على المحافظة على استقلاليتها عن المحور السعودي الإماراتي في استقرارها الاقتصادي، علماً أنّ هذا المحور لم يتورّع يوماً عن الضغط على الدول الأخرى لاعتماد مواقفه.

وتجلّت هذه المسألة بوضوح مع قطر، التي خضعت لحصار إقليمي فرضه المحور السعودي الإماراتي من يونيو 2017 إلى يناير 2021 بسبب سياستها الخارجية المتفرّدة. فعلى غرار عمان، تعطي قطر الأولوية لسياسة خارجية مستقلّة عن دول مجلس التعاون الخليجي الأخرى المجاورة لها، لكنّها سياسة تشمل فكرة تطوير علاقة فعّالة مع إسرائيل، وهذا ما تقوم به من أواسط التسعينيات. وقد استفادت الدوحة من هذه العلاقة لتؤدّي دوراً أكثر نشاطاً من أيّ من الدول النظيرة لها في مجلس التعاون الخليجي على الساحة الإسرائيليّة الفلسطينيّة، ولا سيّما في غزّة كوسيط بين إسرائيل وحماس وكجهة تؤمّن الاستقرار المالي.[9] ونظراً إلى مواقف قطر الإقليمية الأوسع والتنافس بينها وبين المحور السعودي الإماراتي، على الرغم من تقاربهما في العام 2021، من المستبعد أن تجعل العلاقات مع إسرائيل رسمية على المدى القريب. في الواقع، قد تتمكّن من الاستفادة من المعارضة الواضحة لكن غير المعلنة للتخلّي عن الفلسطينيين لصالح إسرائيل. لكن من الممكن أن تحذو قطر حذو الإمارات العربية المتحدة والبحرين في الطريق نحو التطبيع في حال باتت المكاسب كبيرة جدّاً لدرجة لا يسعها تجاهلها.

أخيراً، تميّزت دولة الكويت بين دول مجلس التعاون الخليجي في أنّها تُعارض علناً إقامة علاقات مع إسرائيل طالما الشعب الفلسطيني ما زال تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي. وقال الشيخ الراحل صباح الأحمد الجابر الصباح قبل وفاته بفترة قصيرة في سبتمبر إنّ لا رغبة لدى الكويت في تغيير سياساتها الإقليمية وستكون آخر مَن يطبّع العلاقات.[10] ويمكن أن يكون هذا الوفاء المستمرّ للفلسطينيين نتيجة الطبيعة الأكثر تمثيلاً للسياسة الكويتية مقارنة بنظيراتها، مع برلمان ذي صلاحيات ونخبة فكرية متقدّمة نوعاً ما مع صلات تاريخية بالحركات القومية العربية، من بينها مجتمع العمال الوافدين الفلسطينيين الذي كان في فترة من الفترات كبيراً ونافذاً في الكويت.[11]

حوافز لمقاربة جديدة

بين الدول الخليجية كافة التي تسعي إلى إنشاء علاقات مع إسرائيل، لعلّ دوافع الإمارات العربية المتّحدة تجسّد على أكمل وجه الديناميات الإقليمية المتغيّرة. فعلى عكس النظرة المعيارية تاريخياً إلى إسرائيل في العالم العربي، لا تعتبر الإمارات العربية المتّحدة إسرائيل عدوّةً أو تهديداً للاستقرار الإقليمي. فتبعاً للنظرة العالمية لولي عهد إمارة أبوظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي أصبح قائد الإمارات بحكم الأمر الواقع بعد تعرّض أخيه الأكبر لجلطة في العام 2014، فإن التهديدات الأساسية للإمارات العربية المتّحدة وحلفائها هي دولة إيرانية توسّعية والإسلاميين السياسيين عبر الوطنيين.[12] في هذا المشهد، كان لكلتا هاتَين الجهتين الفاعلتين الرغبة في الاستفادة من حال عدم الاستقرار الإقليمي وقد فعلتا ذك بالفعل لتحسين موقعهما من خلال التدخّل الأجنبي، في حالة إيران، ومن خلال العملية الديمقراطية، في حالة تنظيم الإخوان المسلمين والتنظيمات التابعة لها التي يدعمها تحالف منافس ترأسه تركيا وقطر. في المقابل، ترى الإمارات العربية المتّحدة إسرائيل كقوّة إقليمية جبّارة تتشاطر آراءها ومستعدة للجوء إلى القوّة لمواجهة الخصوم الإقليميين. بالتالي، يعتبر إنشاء تحالف رسمي مع إسرائيل منطقياً على المستوى الاستراتيجي. لذا فيما صنّفت إدارة ترامب اتفاقيات التطبيع التي كانت وسيطتها على أنّها اتفاقيات سلام، كان الدافع خلفها بشكل واضح إنشاء التحالفات وليس بناء السلام.

علاوة على ذلك، في خضمّ التهديد الذي يشكّله انتشار الانتفاضات الشعبية في المنطقة، تهافتت الدول الخليجية على شراء تكنولوجيا المراقبة المتطوّرة من أجل ضبط شعوبها بفعالية أكبر.[13] وكانت إسرائيل من جهتها مزوِّدة راغبة لهذه التكنولوجيا من دون تحفّظات تُذكر حيال الانتهاكات الممكنة لحقوق الإنسان.[14] وقد أضاف هذا الأمر منفعةً إضافية للعلاقة بينها وأفسح في المجال أمام مسارات تجارية جديدة تماشت مع طموحات الإمارات العربية المتّحدة بأن تصبح مركزاً إقليمياً للتكنولوجيا والابتكار. زد على ذلك أنّه منذ التطبيع، أعلنت الجهتان عن عدد من مجالات التعاون التجاري، من بينها خطط لأنبوب نفط يمتد من البحر الأحمر إلى المتوسّط.[15]

بيد أنّ الأمر الأهمّ على الإطلاق هو أنّ المحور السعودي الإماراتي يرى في تقارب العلاقات مع إسرائيل وسيلة غير مباشرة للمحافظة على شراكته مع واشنطن. وتتشارك دول مجلس التعاون الخليجي عموماً هذا الحافز بسبب الأهمّية التي تتّسم بها البنية الأمنية في المنطقة التي تدعمها الولايات المتّحدة والقائمة منذ عقود. لكن في السنوات الأخيرة، كان للدول الخليجية أسبابٌ كثيرة لتقلق بشأن التزام الولايات المتّحدة الطويل الأمد. وعلى وجه الخصوص، سبّبت الحروب الأمريكية الطويلة والمكلفة إرهاقاً في الداخل من الانخراط العسكري المستمر في الشرق الأوسط. وفيما كان أمن الطاقة في الماضي العنصر الرابط للتحالف الأمريكي الخليجي، ولّدت عودة إنتاج الطاقة الأمريكية على مدى العقد المنصرم نظرةً بأن التحالف قد تداعى. نتيجة لهذا ولعوامل أخرى، أعربت الإدارات الأمريكية المتعاقبة عن رغبتها في تعديل وضع الولايات المتحدة وحضورها في المنطقة وفي تخفيفه ربّما، وهذا شعور قد يترسّخ أكثر نتيجة التكاليف الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا المستجد.[16] لكن للدول الخليجية، التي توتّرها التطلّعات الإقليمية بشدّة، تعتبر المحافظة على الالتزام الأمريكي بأمنها غاية في الأهمّية.[17]

ونظراً إلى التفاني الأمريكي لأمن إسرائيل، قد تفترض الدول الخليجية منطقياً أنّ إنشاء روابط مع إسرائيل سيساعدها على تحصين صلاتها الأمنية الخاصة بالولايات المتحدة. وسواء أكان عن وجه حق أم لا، ترى الدول الخليجية أنّ السياسة الخارجية الأمريكية حسّاسة بشكل مفرط إزاء المصالح والمخاوف الإسرائيلية. وما تعلّمته الدول الخليجية أيضاً عن خبرة هو أنّ البروز كعدو ظاهري لإسرائيل لم يساعد علاقتها بالولايات المتّحدة ولم يجعلها محبوبة في بعض الأوساط في المؤسّسة السياسية والدبلوماسية الأمريكية وعرقل استحواذها على معدّات وتكنولوجيا عسكرية متطوّرة مخصّصة لإسرائيل وجهات حليفة مقرّبة أخرى خارج المنطقة.[18]

ولهذا التحليل أسباب مقنعة. فلطالما شكّلت مصر مثالاً للدول الخليجية لما يتمخّض عن التحلّي بعلاقة رسمية مع إسرائيل في واشنطن. فبعد أن وقّعت مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل بين العامَين 1978 و1979 انتقلت إلى مدار الولايات المتّحدة الاستراتيجي وأصبحت ثاني أكبر متلقٍّ للمساعدات الاقتصادية والعسكرية الأمريكية، على الرغم من سياساتها السلطوية وسجّلها الرديء في مجال حقوق الإنسان.[19] ومع أنّ الدول الخليجية شريكة أصلاً لواشنطن ولا تحتاج إلى مساعدات مالية أمريكية، هي تدرك أنّ دور مصر كشريك سلام مع إسرائيل جعلها تبدو أنّ لا غنى عنها في السياسة الخارجية الإقليمية الاستراتيجية الأمريكية.[20]

بالتالي، هل بإمكان علاقة مختلفة مع إسرائيل أن تنقذ أهمّية الدول الخليجية المتضائلة في التقييم الاستراتيجي الأمريكي وأن تحيّد المسؤولين الراغبين في “إعادة النظر” في العلاقات السعودية برمّتها؟[21] يبدو أنّ المحور السعودي الإماراتي يعتقد ذلك ويراهن على أنّ تحالفاً أمنياً إقليمياً جديداً مع إسرائيل يمكن أن يكون العامل الرابط للمستقبل.

علاوة على ذلك، تلاقت إسرائيل والمحور الخليجي على قضيّة مشتركة عبر محاولتهما توجيه السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط باتجاه يفيد الطرفين.[22] وبشكل خاص، اعتبرا سعي إدارة أوباما إلى إبرام اتفاقية نووية مع إيران، وبالتالي إنهاء العزلة الإيرانية، أمراً مقلقاً وخطيراً. وبات العثور على طرق لمواجهة أجندة إدارة أوباما فرصةً للجهتين للعمل معاً من دون تدخّل أمريكي، وهذه خطوة لافتة في تطوّر هذه العلاقة، والقاعدةَ اللاحقة للعمل مع إدارة ترامب التي استلمت السلطة في العام 2017.[23]

وبالفعل، تبيّن أنّ هذه الاستراتيجية ناجحة جدّاً إذ جعلت إدارة ترامب من إنشاء تحالف راسخ أكثر بين إسرائيل والخليج جوهراً لسياستها الخارجية في الشرق الأوسط. وعبر القيام بذلك، قدّمت الإدارة الأمريكية دعماً شبه مفتوح للجهتَين وانسحبت من الاتفاقية النووية لخطّة العمل الشاملة المشتركة التي أطلقها أوباما وطبّقت حملة “الضغط الأقصى” على إيران.

بيد أنّه لا ينبغي النظر إلى قرار الإمارات العربية المتّحدة بجعل العلاقات رسمية مع إسرائيل في سبتمبر 2020 حصراً من خلال عدسة علاقاتها مع إدارة ترامب، لكن أيضاً مع الأخذ بعين الاعتبار العودة المحتملة لحكم الحزب الديمقراطي قبل إجراء الانتخابات الأمريكية بعد أقلّ من شهرَين. فكما كان من المتوقّع آنذاك، رحّبت القوى السياسية الأمريكية كافة، من ضمنها حملة بايدن، باتفاقيات التطبيع بغضّ النظر عن التسييس المتزايد للعلاقات الأمريكية الخليجية في عهد إدارة ترامب أو النظرة السلبية المتزايدة إلى السياسات السعودية الإماراتية في الأوساط التقدمية للحزب الديمقراطي أو التأكيد على الحاجة إلى إعادة ضبط العلاقات الأمريكية السعودية.[24] مع ذلك، وعلى الرغم من فوز جو بايدن في الانتخابات في نوفمبر 2020، لن تظهر تغييرات بارزة في العلاقة بين الولايات المتّحدة والإمارات العربية المتّحدة والمملكة العربية السعودية قبل مرور أشهر على تولّيه الرئاسة.

المخاطر والتكاليف

مع أنّ العلاقات العامة في واشنطن عنصر مهم من العلاقات الخليجية الإسرائيلية، للتصوّر العام في الشرق الأوسط أهمّية كبيرة أيضاً، فلطالما كان خطر إنشاء علاقة كهذه عاملاً رادعاً. لكن تراوح ردّ الفعل لدى الحكومات الإقليمية إزاء تقدّم العلاقات الخليجية الإسرائيلية عموماً واتفاقية التطبيع بين إسرائيل والإمارات العربية المتّحدة خصوصاً بين الحيادي والإيجابي. وكانت الاستثناءات، بشكل لا يدعو للمفاجأة، إيران و، بشكل لافت، تركيا، التي تُبقي على علاقات موسّعة مع إسرائيل على الرغم من التباعد في عهد رئاسة رجب طيب أردوغان.[25]

يشكّل ردّ الفعل هذا إزاء التطبيع ابتعاداً كبيراً عن الماضي. فقد تمّ مثلاً تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية لعقد من الزمن بعد توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في العام 1979، على الرغم من أنّ عاصمتها تستضيف مقرّ الجامعة. ويشهد على الأرجح الفارق بين تلك الفترة والزمن الحاضر على النفوذ المتنامي للدول الخليجية على الدول الأخرى في المنطقة وعلى انحسار التأثير السياسي الفلسطيني وعلى الحماس المتضائل حيال قضيّتهم (مع أنّ هذا البُعد موضع جدل كبير). ورأى الفلسطينيون من جهتهم اتفاقية التطبيع عموماً “خيانة” واستنكروها أشدّ الاستنكار. مع ذلك، فشلت القيادة الفلسطينية برئاسة محمود عبّاس في محاولتها لجعل الجامعة العربية تستنكر الاتفاقية.[26]

وكان ردّ الفعل لدى الجماهير العربية مكتوماً نسبياً. طبعاً من الصعب تقييم الرأي العام في الشرق الأوسط، ولا سيّما في منطقة الخليج، نظراً إلى القمع العام لحرّية التعبير عن الرأي والحكم غير الديمقراطي وغياب استطلاعات الرأي والإعلام المستقلّ. وقد برزت بعض بوادر المعارضة، من ضمنها في البحرين حيث أصدرت ثماني جمعيات سياسية و23 مجموعة مجتمع مدني بيانات مشتركة اعترضت فيها على اتفاقية التطبيع وتمّ تأسيس جمعية إماراتية لمقاومة التطبيع ووقّع ناشطون ومحامون ورجال أعمال إماراتيون عريضة عبّروا فيها عن معارضتهم.[27] وبيّن ما يقع من استطلاعات الرأي الإقليمية، على غرار المؤشّر العربي، معارضة واسعة للاعتراف بإسرائيل.[28] ومع ذلك، لم يشكّل ردّ الفعل الشعبي في الشارع عاملاً مؤثّراً.

لكن في تقييم المخاطر، من الضروري فهم السياق الذي تجري فيه الأمور وأرجحية تغيّر هذا السياق مع مرور الوقت. وفي هذه الحالة بالذات، انطلقت العلاقات الخليجية الإسرائيلية بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عندما فتحت عملية السلام مع منظّمة التحرير الفلسطينية الباب لكي تتعاطى الدول الأخرى مع إسرائيل. والمهمّ أنّ استمرار اتفاقية أوسلو بعد مدّة سريانها بفترة طويلة تابع بمنح الغطاء السياسي للعلاقة على الرغم من الاحتلال الإسرائيلي وقمع الفلسطينيين المستمرَّين. لكن بعد ثلاثة عقود تقريباً، استُنفدت اتفاقية أوسلو وشارفت على نهايتها. فإن اتّسمت مرحلة ما بعد أوسلو بحشد شعبي ضدّ الضمّ والحكم الدائم الإسرائيليَّين، يمكنها أن تعرّض العلاقة بين الدول الخليجية وإسرائيل لانتقادات أقسى، لا بل من الممكن حتّى أن تنجرّ الدول الخليجية إلى دعم مباشر للاحتلال الإسرائيلي.[29]

في الواقع، اختُبرت متانة اتفاقيات التطبيع هذه في أبريل ومايو 2021 عندما فرّقت القوى الأمنية الإسرائيلية بعنف احتجاجات فلسطينية واسعة في القدس في خلال شهر رمضان الفضيل، وشنّت غارات مروّعة على حرم المسجد الأقصى، وأطلقت قنابل صوتية ومسيّلة للدموع داخل المسجد بحدّ ذاته. وزاد من الضغط القصفُ التالي الذي شنّته إسرائيل على قطاع غزّة والذي قُتل فيه عشرات الأطفال والعنف المجتمعي بين اليهود والعرب في المدن الإسرائيلية. ومع أنّه كان من المستبعد أن تؤدّي هذه الأحداث إلى التراجع عن قرار استراتيجي طويل الأمد مثل التطبيع، من الواضح أنّها جعلت الدول المطبِّعة غير مرتاحة وأطلقت ردود فعل ضمن مجتمعاتها وبرهنت على أنّه من دون إنهاء للإخضاع الفلسطيني ستتكرّر انتفاضات كهذه وتستمرّ بوضع العلاقة الخليجية الإسرائيلية قيد الاختبار.[30]

بالإضافة إلى الخطر، تترتّب على هذه العلاقة كلفة. فمن المسائل الأخيرة الباقية التي تحظى بتوافق ووحدة بين الدول العربية دعمُ القضية الفلسطينية، وهي مادة ثمينة لمنطقة تتجزّأ وتتعارض بشكل متزايد. وتبقى مبادرة السلام العربية أيضاً إنجازاً لافتاً في توحيد التزام العالم العربي بأسره لتطبيع العلاقات مع إسرائيل مقابل السلام مع الفلسطينيين. والتخلّي عن هذه المبادرة خسارة كبيرة حتّى لو لم تلقَ الدعم في العقديَن الماضيين. وتكمن الخسارة الكبيرة أيضاً في التخلّي عن الدعم الموحَّد للشعب الفلسطيني، لأنّ ضمان حرّيتهم وحقوقهم يبقى ضرورة أخلاقية للمنطقة والعالم.

ختاماً، ليست العلاقات بين معظم الدول الخليجية وإسرائيل جديدة أو متجانسة، لكنّ التغيّرات في الديناميات الإقليمية منحَ بعض دول مجلس التعاون الخليجي ضرورة استراتيجية جديدة تقضي بالتقرّب من خصمتها السابقة. بالتالي، ابتعد المحور السعودي الإماراتي عن سياسة العالم العربي القائمة منذ زمن والقاضية بوضع فلسطين في الأولوية بحثاً عن تحالف مع إسرائيل، مدفوعاً بعدد من التهديدات الإقليمية والحاجة إلى إبقاء الولايات المتّحدة منخرطة في أمنه. وفيما اعتبرت هذه الدول التطبيع قيمة أكثر منها عبئاً في هذه المرحلة من الزمن، لا تخلو العلاقة المفتوحة من مخاطر وتكاليف قد تصبح ظاهرة أكثر مع مرور الوقت.

https://www.brookings.edu

...........................................
الحواشي
1Kristian Coates Ulrichsen, “Israel and the Arab Gulf States: Drivers and Directions of Change,” Rice University’s Baker Institute for Policy, September 2016, 3–4, https://www.bakerinstitute.org/media/files/research_document/13eaaa71/CME-pub-GCCIsrael-090716.pdf; Simon Henderson, “Israeli-GCC Ties Twenty-Five Years After the First Gulf War,” The Washington Institute for Near East Policy, in Focus Quarterly Policy Analysis, October 14, 2015, www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/israel-gcc-ties-twenty-five-years-after-the-first-gulf-war.
2“The Abraham Accords,” U.S. Department of State, accessed July 1, 2021, www.state.gov/the-abraham-accords/.
3Ulrichsen, “Israel and the Arab Gulf States,” 2, 6–9; Asher Orkaby, “Rivals with Benefits: Israel and Saudi Arabia’s Secret History of Cooperation,” Foreign Affairs, March 13, 2015, www.foreignaffairs.com/articles/middle-east/2015-03-13/rivals-benefits.
4Hussein Ibish, “After the UAE, Who Will and Won’t Be Next to Normalize With Israel?,” The Arab Gulf States Institute in Washington (AGSIW) (blog), August 24, 2020, https://agsiw.org/after-the-uae-who-will-and-wont-be-next-to-normalize-with-israel/.
5Yasmine Farouk, “What Would Happen If Israel and Saudi Arabia Established Official Relations?,” Carnegie Endowment for International Peace, Commentary, October 15, 2020, https://carnegieendowment.org/2020/10/15/what-would-happen-if-israel-and-saudi-arabia-established-official-relations-pub-82964.
6Ulrichsen, “Israel and the Arab Gulf States,” 3–4; Oman also hosted Prime Minister Benjamin Netanyahu in 2018.
7Abdullah Baabood, “Oman and the Gulf Diplomatic Crisis,” Gulf Affairs (Autumn 2017), 30–31, www.oxgaps.org/files/commentary_-_baabood.pdf.
8Kristian Coates Ulrichsen and Giorgio Cafiero, “Oman plays it safe on Israel,” Middle East Institute (MEI), October 27, 2020, www.mei.edu/publications/oman-plays-it-safe-israel.
9Adnan Abu Amer, “Qatar boosts its influence in Gaza,” Al-Monitor, April 14, 2019, www.al-monitor.com/pulse/originals/2019/04/qatar-support-hamas-gaza-pa-abbas-israel-us-humanitarian.html; Jonathan Spyer, “Israel and Qatar have an unlikely partnership for dealing with Gaza,” The Jerusalem Post, September 10, 2020, www.jpost.com/arab-israeli-conflict/israel-and-qatar-have-an-unlikely-partnership-for-dealing-with-gaza-641878).
10“Kuwait says it’ll be ‘last to normalize’ with Israel, will stand by Palestinians,” The Times of Israel, August 16, 2020, www.timesofisrael.com/kuwaiti-officials-reject-israel-normalization-reaffirm-support-for-palestinians/.
11Normalization with Israel is clearly a top-down driven policy.
12This is the author’s opinion, however other accounts back this view up, including: Robert F. Worth, “Mohammed bin Zayed’s Dark Vision of the Middle East’s Future,” The New York Times Magazine, January 9, 2020, www.nytimes.com/2020/01/09/magazine/united-arab-emirates-mohammed-bin-zayed.html.
13Laura Mackenzie, “Surveillance state: How Gulf governments keep watch on us,” Wired, January 21, 2020, https://wired.me/technology/privacy/surveillance-gulf-states/.
14Neri Zilber, “Gulf Cyber Cooperation with Israel: Balancing Threats and Rights,” The Washington Institute for Near East Policy, PolicyWatch 3066, January 17, 2019, www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/view/gulf-cyber-cooperation-with-israel-balancing-threats-and-rights; Chaim Levinson, “With Israel’s Encouragement, NSO Sold Spyware to UAE and Other Gulf States,” Haaretz, August 25, 2020, www.haaretz.com/middle-east-news/.premium-with-israel-s-encouragement-nso-sold-spyware-to-uae-and-other-gulf-states-1.9093465.
15“Israeli firm signs deal to pipe UAE oil to Europe,” The Times of Israel, October 21, 2020, www.timesofisrael.com/israeli-firm-signs-deal-to-pipe-uae-oil-to-europe/.
16Daniel Benaim, “A Progressive Course Correction for U.S.-Saudi Relations,” The Century Foundation, Report, June 25, 2020, https://tcf.org/content/report/progressive-course-correction-u-s-saudi-relations/; Benaim describes “rethinkers” of American policy on U.S.-Saudi relations as those who advocate for fundamental changes to the relationship altogether.
17Omar H. Rahman, “What’s behind the relationship between Israel and Arab Gulf states?,” Order From Chaos (blog), January 28, 2019, www.brookings.edu/blog/order-from-chaos/2019/01/28/whats-behind-the-relationship-between-israel-and-arab-gulf-states/.
18Indeed, following the signing of the normalization agreements, the UAE believed it would be granted access to the coveted F-35 fighter aircraft that Israel also receives. After this led to controversy, U.S. congressmen introduced a bipartisan bill that would give Israel a quasi-veto over U.S. arms sales to regional partners, an astounding measure of sovereignty to cede to a foreign power, and one more justification for seeing Israel as the key to a better partnership with the United States. Ultimately, Israel gave its consent to the United States to sell the F-35 jets to the UAE and on December 9, 2020, the Senate voted against resolutions that would block the sale to the UAE. See: JTA and Ron Kampeas, “Bipartisan Bill Would Give Israel a Veto on Middle East Arms Sales,” Haaretz, October 4, 2020, www.haaretz.com/us-news/bipartisan-bill-would-give-israel-a-veto-on-middle-east-arms-sales-1.9206918; Barak Ravid, “Israel drops opposition to F-35 deal between U.S. and UAE,” Axios, October 23, 2020, www.axios.com/israel-drops-opposition-to-f-35-deal-uae-trump-d393d6ee-b50a-49e5-845b-edb11438295e.html.
19Jeremy M. Sharp, “Egypt: Background and U.S. Relations,” Congressional Research Service, May 27, 2020, https://fas.org/sgp/crs/mideast/RL33003.pdf.
20Shadi Hamid and Tamara Cofman Wittes, “Camp David Peace Treaty Collapse,” Brookings Institution, Memorandum, January 17, 2013, https://www.brookings.edu/research/camp-david-peace-treaty-collapse/.
21Benaim, “A Progressive Course Correction for U.S.-Saudi Relations.”
22Adam Entous, “Donald Trump’s New World Order,” The New Yorker, June 11, 2018, www.newyorker.com/magazine/2018/06/18/donald-trumps-new-world-order; Entous describes secret cooperation between Israeli and Emirati officials to oppose Obama’s foreign policy on Iran and to persuade the Trump campaign and administration to adopt its own foreign policy perspective Benaim also describes Saudi and Emirati efforts to interfere with Obama’s foreign policy in the Middle East, as well as “undermine the policies of a U.S. administration within the U.S. system.”
23Entous, “Donald Trump’s New World Order.”
24Benaim, “A Progressive Course Correction for U.S.-Saudi Relations.”
25“Turkey denounces Bahrain-Israel normalization deal,” Daily Sabah, September 12, 2020, www.dailysabah.com/politics/diplomacy/turkey-denounces-bahrain-israel-normalization-deal.
26“Arab League refuses to back Palestinians in rebuke of Israel-UAE deal,” Al-Monitor, September 9, 2020, https://www.al-monitor.com/originals/2020/09/arab-league-palestinian-uae-israel-normalization-condemn.html.
27Elham Fakhro, “Selling Normalization in the Gulf,” Middle East Research and Information Project, June 23, 2021, https://merip.org/2021/06/selling-normalization-in-the-gulf/.
28“The 2017-2018 Arab Opinion Index: Main Results in Brief,” Arab Center for Research & Policy Studies, May 9, 2018, 31–32, www.dohainstitute.org/en/News/Pages/ACRPS-Releases-Arab-Index-2017-2018.aspx.
29And in fact, a joint $3 billion fund announced by Israel, the UAE, and the United States was described by one U.S. official as intended to modernize Israeli checkpoints in the territories, among other things. And in order to make this palatable, they are waging a campaign to reframe the Palestinians in a negative light. See: Stephen Farrell and Dan Williams, “Israel says UAE visit ‘making history’ - Palestinians call it ‘shameful,’” Reuters, October 20, 2020, www.reuters.com/article/us-emirates-israel/uae-government-delegation-heads-to-israel-for-first-official-visit-idUSKBN2750PI.
30Fakhro, “Selling Normalization in the Gulf.”
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق