حكايات النجاح في المنطقة قليلة، فمعظم الشباب الراغبين في الانخراط في الاقتصاد الرقمي والاستفادة منه، يواجهون صعوبة في منافسة نظرائهم ذوي المهارات المصقولة والتمويل العالي في أماكن أخرى في العالم. ففيما تنشئ التكنولوجيا الرقمية الفرص فهي تزيد أيضاً من المنافسة. زد على ذلك أنّ بعض الشباب...
بقلم: نادر قباني
من شأن زيادة الرقمنة أن تعزّز الفرص الاقتصادية أمام الشباب بشكلٍ كبير. فيما تحمل الرقمنة في طيّاتها الوعد بتحسين عمالة الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتردّى وضع المنطقة في مجال البنية التحتية الرقمية والحوكمة والمهارات. ولن تستطيع منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الاستفادةَ من الفرص الرقمية الجديدة إلّا من خلال إصلاحات هيكلية جوهرية.
لأكثر من ثلاثين سنة، كان لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعلى معدلات بطالة الشباب في العالم، إذ تراوحت بين 23 و27 في المئة، أي ضعفَي المتوسّط العالمي. وتنتشر بطالة الشباب في كلّ دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تقريباً. فضمن الدول التي لا تعاني صراعات، تسجَّل أعلى معدّلات بطالة الشباب في الأردن (37 في المئة) وتونسُ (35 في المئة) والمملكةُ العربية السعودية (35 في المئة من الشباب السعودي). وتغطّي هذه الدول الثلاثة المناطق الفرعية الثلاثة للمنطقة [المشرق والمغرب والخليج]، ممّا يوحي بأنّ تهميش الشباب الاقتصادي منتشر في أرجاء المنطقة. وترتفع معدّلات بطالة الشباب أكثر حتّى في دول المنطقة التي تعاني صراعات وانهياراً اقتصادياً . والاستثناء الوحيد هو قطر، التي تتحلّى بالموارد المالية لتعيّن كلّ المواطنين الشباب الراغبين في العمل في مناصب ذات رواتب عالية في القطاع العام والقطاع شبه العام.
وتُعزى معدلات بطالة الشباب المرتفعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى مزيج من العوامل التي تقع على جهتَي العرض والطلب. فمن ناحية الطلب، أدّت طبيعة التنمية الاقتصادية بقيادة الدولة في المنطقة إلى قطاع عام متضخّم غير قادر على استيعاب الوافدين الجدد إلى سوق العمل وإلى قطاع خاص تقيّده القوانين والتشريعات المفرطة وتعرقل عمله أيضاً الزبائنية والمحسوبية، فبات لا يستطيع النمو وتوليد العدد الكافي من الوظائف.
ومن ناحية العرض، تنتج أنظمة التعليم الرديئة شباباً باحثين عن عمل يفتقرون إلى المعرفة والمهارات والقدرات التي ينشدها القطاع الخاص. علاوة على ذلك، يدخل معظم الباحثين عن عمل في المنطقة إلى سوق العمل مع نقص في الخبرة في العمل ويفتقرون إلى المعرفة المناسبة بشأن طريقة التعامل مع عملية البحث عن وظائف وبشأن ما ينبغي توقّعه من ناحية المسؤوليات المطلوبة والتعويضات السائدة.
وقد طرحت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الكثير من السياسات العامة والبرامج والاستراتيجيات التي تهدف إلى معالجة تحدّي بطالة الشباب في بلادها، لكن لم يكن لها تأثير يُذكر على معدلات البطالة الإجمالية. ومع أنّ النية قائمة، كان التنفيذ دون المستوى المطلوب باستمرار. وهذا الأمر لا يبشّر بالخير سواء أللآفاق الاقتصادية أم للاستقرار الاجتماعي في المنطقة، إذ يسري الاعتقاد بأنّ لمعدّلات بطالة الشباب المرتفعة دوراً أساسياً في الاضطراب الاجتماعي الذي تعانيه المنطقة منذ العام 2011، عبر حثّ الشباب على المطالبة بمساهمة اقتصادية وعدالة اجتماعية أكبرَين. وقطر والإمارات العربية المتّحدة وحدهما، وهما الدولتان اللتان تتحلّيان بالموارد لتأمين الوظائف لشبابها، لم تشهدا أيّ اضطراب اجتماعي بارز منذ العام 2011.
الرقمنة قادرة على تحسين الفرص لكنّها أيضاً قادرة على مفاقمة أوجه عدم المساواة
بإمكان الرقمنة المتزايدة تحسين الفرص الاقتصادية للشباب بشكل لافت. فباستطاعة المنصّات الرقمية، على غرار “أبورك” (Upwork) مساعدة الشباب الماهرين على الوصول إلى فرص عمل حر في أرجاء العالم. وتدعم منصّات الاقتصاد التشاركي، على غرار تطبيق “كريم” لتشارك الرحلات، الشباب غير الماهرين في كسب لقمة عيشهم. وتساعد منصّات الدفع عبر الهواتف الجوالة، على غرار “سداد”، روّاد الأعمال الشباب على تسديد الدفعات واستلامها. وفي وسع منّصات التمويل عبر الإنترنت، على غرار “كيفا للشباب العرب” (KIVA Arab Youth)، مساعدة روّاد الأعمال الشباب على الوصول إلى مصادر تمويل. وبإمكان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الإشارة بفخر إلى حفنة من روّاد أعمال في أرجاء المنطقة الذين وظفوا التقنيات الرقمية الجديدة لخلق الفرص لنفسهم ولغيرهم، من ضمنهم رونالدو مشحور، الذي شارك في تأسيس موقع Souq.com، وسميح طوقان، الذي أسس موقع مكتوب (Maktoob.com)، وكلاهما كانا آنذاك في أوائل الثلاثينيات من العمر.
بيد أنّ حكايات النجاح في المنطقة قليلة، فمعظم الشباب الراغبين في الانخراط في الاقتصاد الرقمي والاستفادة منه، يواجهون صعوبة في منافسة نظرائهم ذوي المهارات المصقولة والتمويل العالي في أماكن أخرى في العالم. ففيما تنشئ التكنولوجيا الرقمية الفرص فهي تزيد أيضاً من المنافسة. زد على ذلك أنّ بعض الشباب مجهّز بشكل أفضل بكثير من غيره للاستفادة من هذه الفرص بفضل قدرتهم على الوصول إلى شبكات النطاق العريض وتطوير مهاراتهم وتلقّي التدريب والدعم اللذَين يحتاجون إليه للنجاح. بالتالي، بإمكان التكنولوجيا الرقمية مفاقمة أوجه عدم المساواة القائمة من خلال تفضيل المدن والشباب المتعلّمين الذين يعرفون طريقهم في الأدغال الرقمية وحفنة من المحظيّين القادرين على ولوج شبكات الأصدقاء وأفراد العائلة المتعلّمين والأثرياء وأصحاب المعارف.
منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في تراجع
ثلاثة عوائق تحول دون وصول الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى المنافع والفرص التي تولّدها التكنولوجيا الرقمية.
أولاً، القوانين والتنظيمات والقيود البيروقراطية التقليدية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معرقلةٌ وهدفها حماية المصالح المكتسبة، ممّا يحول دون عمل روّاد الأعمال على تحقيق إبداعات تغييرية فعلية يمكنها إطلاق العنان للنمو الاقتصادي وتوليد الوظائف المجدية للآخرين. علاوة على ذلك، تبيّن لجالر ومولينويفو (Jaller and Molinuevo) في الورقة التي نشراها في العام 2020 أنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا “تتراجع في تأسيس إطار عمل حوكمة حديث للاقتصاد الرقمي”، متّكلة على قوانين غير مهيّأة أساساً للعصر الرقمي. وتشمل أطر عمل الحوكمة الحديثة هذه التوثيق والتواقيع إلكترونية وحماية المستهلك على الإنترنت وحوكمة البيانات والأمن السيبراني ولوائح مسؤولية الوسطاء.
ثانياً، تراجعت المنطقة في ما يخصّ قدرة الوصول إلى التكنولوجيا الرقميةـ فتبعاً للاتّحاد الدولي للاتصالات، تتّخذ اشتراكات الهواتف الخلويّة الجوالة في المنطقة العربية منحاً تنازلياً، إذ تراجعت إلى ما دون 100 في المئة في العام 2020، فيما لم تبلغ الاشتراكات الناشطة للنطاق العريض الجوّال سوى 60 في المئة، وهو رقم متأخّر كثيراً عن باقي العالم، باستثناء أفريقيا. والمقلق أيضاً هو التأخّر في دمج التكنولوجيا لتحسين قدرة الوصول إلى الخدمات الأخرى. مثلاً، بحسب البيانات العالمية لتعميم الخدمات المالية، كان لنسبة 34 في المئة فقط من الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا حسابٌ في مؤسّسة مالية أو لدى مزوّد خدمات نقدية متنقلة في العام 2017، محقّقة بذلك ترتيباً أدنى من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء حتّى.
ثالثاً، يتطلّب استغلال التكنولوجيا للاستفادة بالكامل من الفرص التي تتيحها مهارات تقنية وأساسية ورقمية. مثلاً، يتطلّب نقل الناس بواسطة “أوبر” (Uber) إبقاء السيارات بحالة جيّدة والتعاطي مع العملاء للحصول على تقييمات إيجابية عالية. كذلك، يتطلّب تقديم خدمة على “فايفر” (Fiverr) أو “أبورك”
معارف تقنية عالية والقدرة على التعاطي مع العملاء وإنجاز المطلوب ضمن المهل المحدّدة. لكن للأسف، يفتقر معظم الشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى المهارات اللازمة للاستفادة إلى أقصى حدّ من الفرص التي تقدّمها التكنولوجيا الرقمية، إذ مازالت الأنظمة التعليمية في المنطقة عالقة في الماضي وتركّز على الحفظ والتكرار أكثر منه على التفكير النقدي والعمل الجماعي والتواصل، فضلاً عن المهارات الرقمية طبعاً.
إطلاق العنان لإمكانات التكنولوجيا الرقمية
ينبغي على حكومات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اعتماد إصلاحات هيكلية لإطلاق العنان للإمكانية التي تقدّمها التكنولوجيا الرقمية من أجل المساهمة في النمو الشامل والحدّ من بطالة الشباب. وتشمل هذه الإصلاحات: (1) الحدّ من التنظيمات المنهكة وتحسين أطر عمل الحوكمة الحديثة و(2) تحسين البنية التحتية الرقمية، بما في ذلك النطاق العريض وغيرها من أنواع التكنولوجيا، والحرص على تأمين قدرة وصول متكافئة للأفراد والمجتمعات و(3) إصلاح الأنظمة التعليمية لإعداد الشباب لوظائف المستقبل عبر الحدّ من الاعتماد الزائد على نقل المعرفة وتعزيز مهارات القرن الواحد والعشرين.
اضف تعليق