آراء وافكار - وجهات نظر

إصلاح القطاع العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

هي الثورة التي يمكن تحقيقها في الحوكمة

لعلّ التحدّي الأكثر شحناً بالسياسة هو واقع أنّ عقدها الاجتماعي التقليدي، الذي يبادل الرضوخ السياسي بوظائف في القطاع العام، هو في نهاية المطاف صفقة فاوستية. فالمشكلة في العقد الاجتماعي القائم ليس حصراً غياب استدامته المالية، علماً أنّ هذا التهديد حقيقي وسيتفاقم مع مرور الوقت...
بقلم: روبرت بشيل/طارق يوسف

تعمل بعض الدول في أرجاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على تحديث مؤسّساتها العامة لجعلها أكثر فعالية وكفاءة واستجابة. نقول في هذه المقالة إنّه على الرغم من أنّ الحكومات العربية غالباً ما تنظر إلى خارج المنطقة بحثاً عن الأفكار للإصلاح، تزخر ضمن المنطقة التجارب التي ينبغي على الممارسين أخذها بعين الاعتبار. وتشير الدروس المستقاة من إصلاح القطاع العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في العقدَين المنصرمين إلى أنّ التغيير التحوّلي ممكن.

مع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة للربيع العربي، يتمّ إيلاء الكثير من الانتباه، وهذا أمر محقّ، إلى مسار الحوكمة الأوسع لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا على مدى العقد الماضي.

ولا تبدو الأوضاع مشجّعة، باستثناء لافت هو تونس. فصحيح أنّ الأتوقراطيين قد ولّوا، ولكن حلّ مكان الكثير من التوقّعات الرنّانة التي برزت في تلك الآونة ترسيخُ النخب المتجذّرة للحكم السلطوي. وقد شهدت الدول الأكثر حظّاً تغييرات شكلية لا أكثر في المسائل الأساسية كالديمقراطية والشفافية وحكم القانون. أما الدول الأقل حظّاً، فقد عانت قمعاً محلّياً عنيفاً وانتهاكات فاضحة لحقوق الإنسان. أمّا الدول غير المحظوظة فعلاً، فقد غرقت في الفوضى والحرب الأهلية.

وبعيداً عن النقاش العام حول التغيير الديمقراطي، يجري كفاح طويل الأمد مع محاولة الكثير من دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا العمل على إصلاح مؤسّساتها العامة وتحديثها لجعلها أكثر فعالية وكفاءة واستجابة، وهذه أجندة أقلّ إثارة للجدل لكنّها ليست أقلّ إلحاحاً.

تضمّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعضاً من أكبر القطاعات العامة في العالم، لكنّ غالباً ما تكون نوعية الخدمة التي تقدّمها رديئة، إذ تأتي مرتبة المنطقة بعد الكثير من المناطق في العالم (باستثناء جنوب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء) في المؤشرات العالمية لفعالية الحكومة ونوعية التنظيمات والسيطرة على الفساد. والمقلق أكثر أنّها واحدة من المناطق القليلة في العالم التي تراجعت مرتبتها في هذه المؤشّرات على مدى العقد المنصرم.

وقد اكتشفت حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في خلال جائحة فيروس كورونا المستجدّ الأهمّية الشديدة للمؤسّسات الحكومية. ففي البداية، من خلال مزيج من الحظّ والمهارة، تمكّنت دول المنطقة من إبقاء معدّلات الإصابة والوفاة فيها أدنى بكثير من المناطق التي أصيبت بشدّة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية.

وشهدت المنطقة حالات متعدّدة من التنسيق الفعّال في السياسات بين هيكليات بيروقراطية متصارعة أحياناً. واستفادت عدة دول من استثمارات وخبرات سابقة في مجال الحوكمة الإلكترونية والحوكمة المتحرّكة لمعالجة تحديات مثل تعقّب المخالطين والتعلّم عن بعد. وعلى الرغم من القيود المالية الضاغطة، بادرت الحكومات إلى اعتماد إجراءات مالية ونقدية غير مسبوقة للتخفيف على الأقل من بعض التداعيات الاقتصادية للجائحة على شرائح المجتمع الضعيفة.

بيد أنّ الحاجة واضحة وملحّة لإجراء إصلاحات مؤسّساتية أوسع تتخطّى إلى حدّ بعيد تلك المعتمَدة للاستجابة لجائحة فيروس كورونا المستجد. فكما برهنت الاحتجاجات الواسعة النطاق التي اندلعت في العام 2019، يتضاءل استعداد “الشارع العربي” بالقبول بنوعية تقديم الخدمات غير المتوازية أو المعاملة التفضيلية التي تلقاها الشركات الكبيرة ذات المعارف، وأصبح أكثر إدراكاً للفساد والمحسوبية على أشكالها.

لقد سلّطت جائحة فيروس كورونا المستجدّ الضوء على الحاجة إلى مؤسّسات مرنة ومستجيبة يمكنها التكيّف مع الظروف المتغيّرة والتنسيق لوضع سياسات معقّدة. في الوقت عينه، بيّن التقلّب الذي شهدته مؤخراً أسواق النفط والتحويلات المالية من الخارج بوضوح أنّه ينبغي على المنطقة تنويع مصادر عائداتها بشكل طارئ وجعْل نفقاتها الحكومية أكثر فعالية.

وتحديات القطاع العام التي تواجهها المنطقة على مدى العقد القادم واضحة وهائلة على حدّ سواء. فمن أجل استيعاب الضغوط الديمغرافية الجارية أصلاً، سينبغي على الحكومات أن توسّع نطاق الخدمات التي تقدّمها لمواطنيها ونوعيّتها في الوقت عينه، مع التركيز بشكلٍ خاص على المناطق المتأخّرة والمجتمعات المحرومة.

وعلى الحكومات تعليم الجيل القادم على المنافسة في اقتصاد عالميّ متغيّر، وعليها أن تشكّل وجهة جذّابة لرؤوس الأموال، فتؤمّن بيئة الأعمال التي ستسهّل الاستثمار الأجنبي والمحلّي. وعليها كذلك أن توسّع نطاق أنظمة الرعاية الصحّية الشحيحة التمويل لتطال بشكل أفضل المناطق والسكّان المهملين. وعليها أيضاً أن تكون سريعة بما فيه الكفاية للاستجابة لمجموعة من التهديدات المتداخلة، من التغيّر المناخي وشحّ المياه إلى تحوّلات سوق الطاقة العالمية. وستتطلّب هذه التهديدات استجابة متكاملة ومستدامة ومتنوّعة على كامل نطاق الحكومة.

ومن بين كل التحديات التي ينبغي على حكومات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مواجهتها، لعلّ التحدّي الأكثر شحناً بالسياسة هو واقع أنّ عقدها الاجتماعي التقليدي، الذي يبادل الرضوخ السياسي بوظائف في القطاع العام، هو في نهاية المطاف صفقة فاوستية. فالمشكلة في العقد الاجتماعي القائم ليس حصراً غياب استدامته المالية، علماً أنّ هذا التهديد حقيقي وسيتفاقم مع مرور الوقت.

والمشكلة أنّ هذه الصفقة تقوّض من حكم أهل الكفاءة وتعوّق إنشاء القطاعات العامة ذات الأداء العالي التي ستكون ضرورة لمعالجة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية الأكثر إلحاحاً في المنطقة. وتنشئ هذه الصفقة أيضاً محفّزات خاطئة تقوّض الأهداف المهمّة الأخرى، على غرار تنويع اليد العاملة.

وفي عملية تجميع أجريناها مؤخراً لدراسات حالات معمقة تحت عنوان “إصلاح القطاع العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: دروس تجارب لمنطقة في حالة تحوّل” (Public Sector Reform in the Middle East and North Africa: Lessons of Experience for a Region in Transition)، نلقي نظرة عن كثب إلى أمثلة لافتة عن إصلاح القطاع العام في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من العقدين المنصرمين.

ويمنح تقييمنا الأمل لمستقبل المنطقة عبر تبيان أنّ التغيير التحويلي ممكن. وسيكون هذا التغيير لازماً بالفعل. فقد تجتاح الاندفاعةُ الثورية التي أطلقها الربيع العربي منذ عقد من الزمن وأصداؤها التي برزت مؤخّراً في العام 2019 المنطقةَ من جديد بعد أن تتوقّف إجراءات الإقفال وتحاول الاقتصادات تحريك عجلاتها من جديد ويصبح واضحاً النطاقُ الكامل للضرر الذي لحق بالوظائف وسبل كسب العيش بفعل جائحة فيروس كورونا المستجدّ. وحتّى إن لم تتبلور هذه الضغوط، حري بالحكومات أن تستفيد من الفرصة التي أتاحتها الجائحة لتحقيق تغيير جذري.

ومع أنّ الحكومات العربية غالباً ما تنظر إلى الخارج بحثاً عن أفكار للإصلاح، نرى أنّ المنطقة تزخر بالتجارب التي ينبغي على الممارسين أخذها بعين الاعتبار. وقد لا تتماشى تماماً مع المعرفة والممارسة العالميتين لكنّها لا تختلف عنهما بالكامل. فعلى قدر ما تختلف الدول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لا تختلف هذه التجارب إلّا في بعض النواحي وغالباً ما يكون هذا الاختلاف بالمستويات وليس بالنوع.

ستكون الدروس المستقاة من هذه التجربة، أجيّدة كانت أم سيّئة، قيّمة للغاية للجيل المقبل من الإصلاحيين العرب في شروعهم في مهمّتهم الحاسمة التي تقضي بالحرص على أن تكون حكوماتهم وقطاعاتهم العامة قادرة على الاستجابة للتحديات التنموية البارزة، المعروفة وغير المعروفة، التي سيُطلب منهم معالجتها في العقد القادم.

* نُشرت هذه المقالة في الأصل من قبل منتدى البحوث الاقتصادية وهذه ترجمة للنص الإنجليزي
https://www.brookings.edu

اضف تعليق