يمثل تحديد موقعنا بالنسبة إلى ما يحيط بنا من شوارع وأشجار ومعالم أخرى مهارة أساسية، من دونها يتعرض بقاؤنا ذاته، وحتى بقاء جنسنا، للتهديد بالزوال السريع، تعمل شبكات من الخلايا الكامنة عميقًا ضمن الدماغ على تكوين خريطة ذهنية داخلية لبيئتنا، تمكِّننا من معرفة طريقنا من مكان إلى آخر من دون انقطاع...
بقلم: ماي-بريت موزر، إدوارد. آي. موزر
يمثل تحديد موقعنا بالنسبة إلى ما يحيط بنا من شوارع وأشجار ومعالم أخرى مهارة أساسية، من دونها يتعرض بقاؤنا ذاته، وحتى بقاء جنسنا، للتهديد بالزوال السريع، تعمل شبكات من الخلايا الكامنة عميقًا ضمن الدماغ على تكوين خريطة ذهنية داخلية لبيئتنا، تمكِّننا من معرفة طريقنا من مكان إلى آخر من دون انقطاع، كما لو كانت تلك الخلايا منظومة تحديد موقع بيولوجية.
إن مناطق الدماغ المنخرطة في تحديد المسار على صلة وثيقة أيضًا بتكوين الذاكرة الجديدة. وعندما تُصاب تلك المسارات العصبونية بخلل، فإنها يمكن أن تُؤدي إلى اضطراب شديد في تحديد الاتجاه، من النوع الذي يعاني منه المصابون بمرض ألزهايمر.
لقد تغيرت مقدرتنا على قيادة سيارة أو طائرة أو حتى على التجوال في الشوارع كليًّا بعد اختراع منظومة تحديد الموقع والملاحة (جي بي إس) أوGlobal Positioning System (GPS). لكن كيف كنا نقوم بتحديد الموقع قبل ظهور الجي بي إس؟ لقد أظهر بحث حديث أن دماغ الثدييات يستخدم منظومة تعقُّب شديدة التعقيد مشابهة للجي بي إس؛ بغرض توجيهها من مكان إلى آخر.
وعلى غرار الـجي بي إس الموجود في هواتفنا وسياراتنا، تحدد منظومة الملاحة الدماغية مكاننا والمكان الذي سوف نتجه إليه، وذلك بدمج إشارات متعددة ذات صلة بالموقع والوقت المنقضي. ويؤدي الدماغ تلك الحسابات عادةً بأقل جهد ممكن، بحيث لا نشعر بها. ونحن لا نكتشف أهمية تلك الملاحة الدماغية لحياتنا إلا عندما نَضِلُّ الطريق، أوعندما نُصاب بخلل في قدرتنا على الملاحة بسبب إصابة جسدية أو عصبية.
إن قدرتنا على تحديد موقعنا والموقع الذي سوف نذهب إليه مهمة لبقائنا؛ شأننا في ذلك شأن بقية الكائنات الحية، ومن دون هذه القدرة نعجز عن العثور على الغذاء والتكاثر، فينقرض الجنس برمته.
ويظهر تعقيد منظومة الملاحة لدى الثدييات عند مقارنتها بمثيلاتها في الحيوانات الأخرى. فالدودة الأسطوانية البسيطة المعروفة باسم الربداء الرشيقة، التي تمتلك من العصبونات (الخلايا العصبية) 302 فقط، تقوم بالملاحة بالكامل تقريبًا استجابة لإشارات شمِّية، متِّبعةً مسارًا ذا رائحة متدرجة الشدة زيادة أو نقصانًا.
أما الحيوانات ذات المنظومات العصبية الأشد تعقيدًا، مثل نمل الصحراء والنحل، فتلتمس طريقها بمساعدة وسائل أخرى؛ منها ما يُعرف بتكامُل المسار، وهي آلية شبيهة بآلية الجي بي إس، تحدد فيها العصبونات الموقع بناء على مراقبة مستمرة لاتجاه الحيوان وسرعة حركته بالنسبة إلى نقطة بداية معينة؛ وتتم تلك العملية دون الاستعانة بأدلة توجيه خارجية مثل المعالم الأرضية. أما عند الفقاريات، والثدييات على وجه الخصوص، فإن مخزون المهارات السلوكية التي تُمكِّن الحيوان من تحديد موقعه ضمن بيئته قد شهد مزيدًا من التوسُّع.
وتعتمد الثدييات، أكثر من غيرها، على مقدرتها على تكوين خرائط عصبية للبيئة المحيطة، وذلك على شكل أنشطة كهربائية في الدماغ تنشط فيها مجموعات من الخلايا العصبية بطريقة تعكس تخطيط البيئة المحيطة وموقع الحيوان فيها. ويُعتقد أن تكوين تلك الخرائط الذهنية يحدث على الأرجح في قشرة الدماغ، وهي الطبقات المتجعدة العليا من المخ التي نشأت في وقت متأخر نوعًا ما من عملية النشوء.
وقد كوَّن الباحثون خلال العقود القليلة الماضية فهمًا عميقًا لكيفية تكوين الدماغ تلك الخرائط ومراجعتها في أثناء حركة الحيوان. وأظهرت أحدث دراسة أُجريت معظمها على قوارض أن منظومات الملاحة تتألف من عدة أنواع من الخلايا المتخصصة التي تحسب باستمرار موقع الحيوان، والمسافة التي قطعها، والاتجاه الذي يمضي فيه، وسرعته. وتشكِّل تلك الخلايا المختلفة –مجتمِعة- خريطة ديناميكية للحيز المحيط، يمكن استخدامها في الوقت الحاضر، إلى جانب تخزينها على شكل ذاكرة لاستعمالها في وقت لاحق.
علم الأعصاب المكاني
بدأت دراسة خرائط الدماغ المكانية على يد إدوارد س. تولمان، أستاذ علم النفس لدى جامعة كاليفورنيا ببيركلي، بين عامي 1918 و1954. وقبل أن يبدأ تولمان في دراساته، ألمحت التجارب المعملية التي أُجريت على الجرذان إلى أن الحيوانات تحدِّد مسارها بالاستجابة لمحفِّزات متعاقبة على طول المسار الذي تقطعه، وبحفظ تلك المحفِّزات في الذاكرة. فلدى تعلُّم الجرذان السير عبر متاهة، على سبيل المثال، كان الاعتقاد السائد هو أنها تتذكر الانعطافات المتتالية التي قامت بها من بداية المتاهة حتى نهايتها. إلا أن تلك الفكرة لم تأخذ في الحسبان أن الحيوانات ربما تكون قد كوَّنت صورة شاملة للمتاهة بأسرها كي تحدد أفضل مسار تقطعه.
وخرج تولمان جذريًّا على الآراء التي كانت سائدة بعد أن شاهد الجرذان وهي تسلك مسارات مختصرة أو تقوم بانعطافات، الأمر الذي اعتبره سلوكًا غير متوقَّع منها لو كانت قد اقتصرت على تعلُّم سلسلة طويلة واحدة من التحركات فقط. وبناء على ملحوظاته تلك، اقترح أن الحيوانات ترسم خرائط ذهنية في أدمغتها تعكس التخطيط المكاني للبيئة الخارجية. وقد بدا لتولمان أن ما تفعله تلك الخرائط الإدراكية يفوق مجرد مساعدة الحيوان على تحديد مساره؛ إذ اتضح أيضًا أنها تسجِّل معلومات عن الأحداث التي مر بها الحيوان في مواقع محددة.
وبقيت أفكار تولمان، التي قدمها عام 1930 تقريبًا، موضع جدل لعقود عدة، ونالت قبولًا بطيئًا رجع جزئيًّا إلى كون تلك الأفكار مبنية كليًّا على مشاهدات لسلوك حيوانات تجارب يمكن أن تُفسَّر بطرق كثيرة. فتولمان لم يكن يمتلك المفاهيم أو الأدوات اللازمة لاختبار ما إذا كانت خريطة البيئة المحيطة توجد بالفعل ضمن دماغ الحيوان.
ومضى نحو 40 عامًا قبل أن تأتي دراسات الأنشطة العصبية بدليل مباشر على وجود خريطة من هذا النوع. ففي خمسينيات القرن العشرين، أتاح التقدم في تطوير مساري كهربية مراقبةَ النشاط الكهربائي للعصبونات المنفردة لدى الحيوانات اليقظة. ومكَّن ذلك الباحثين من رصد عصبونات منفردة وهي تقدح في أثناء تجوال الحيوان. ويعني مصطلح "القدح" أن الخلية العصبونية تحفز ما يُعرف بجهد الفعل، وهو تغيُّر قصير الأجل في الجهد الكهربائي عبر غشائها. ويؤدي جهد الفعل بالعصبونات إلى أن تُطلق جزيئات تسمى بالمرسلات العصبونية، تحمل إشارات من عصبون إلى آخر.
وقد استعمل جون أوكيف -من كلية لندن الجامعية- مساري مكروية لمراقبة جهد الفعل في الحُصَيْن الدماغي لدى الجرذان، وهو منطقة من الدماغ عُرفت منذ عقود بأنها مهمة لوظائف الذاكرة. وأعلن في عام 1971 أن العصبونات فيها قد قدحت عندما قضى جرذ موضوع بداخل صندوق مدة من الزمن في موقع معين، فأطلق عليها اسم خلايا المكان. ولاحظ أوكيف أن خلايا مكان مختلفة قد قدحت في مواقع مختلفة من الصندوق، وأن أنماط القدح كوَّنت مجتمِعة خريطةً للمواقع ضمن الصندوق. ويمكن قراءة النشاط الجماعي لخلايا مكان متعددة عبر المساري لتحديد موقع الحيوان في أي وقت بشكل دقيق. وفي عام 1978، خلص أوكيف وزميله لين نَيدل -الذي يعمل حاليًّا لدى جامعة أريزونا- إلى أن خلايا المكان كانت في الواقع جزءًا لا يتجزأ من الخريطة الإدراكية التي تخيَّلها تولمان.
خريطة لحائية
فتح اكتشاف خلايا المكان نافذة على الأجزاء العميقة من اللحاء في مناطق بعيدة عن اللحاءات الحسية (تلك التي تستقبل إشارات الحواس) وعن اللحاء الحركي (الذي يُصدر إشارات بدء الحركة ويتحكم فيها). وفي نهاية ستينيات القرن العشرين، عندما بدأ أوكيف عمله، اقتصرت المعرفة الخاصة بأوقات قدح العصبونات وتوقفها عن القدح إلى حدٍّ بعيد على مناطق تسمى اللحاءات الحسية الأساسية، حيث يحصل التحكم في الأنشطة العصبونية مباشرة بواسطة الواردات الحسية مثل الضوء والصوت واللمس.
وخمن علماء الأعصاب في ذلك الوقت أن الحُصَيْن قد أبعد عن أعضاء الحواس كي يُعالِج الإشارات الواردة منها بأي طريقة تُمكٍّن من فهمها من خلال تسجيلات المساري المكروية. إلا أن اكتشاف خلايا في الحُصَيْن تكوِّن خريطة للبيئة المحيطة بالحيوان مباشرةً أطاح بتلك التخمينات.
وعلى الرغم من كون ذلك الاكتشاف لافتًا، وبرغم أنه أوحى بوجود دور لخلايا المكان في عملية الملاحة، إلا أن أحدًا لم يعرف طبيعة ذلك الدور طوال عقود بعد اكتشافها. وتوجد خلايا المكان في منطقة من الحُصَيْن تُعرف علميًّا باسم CA1 وتمثل نقطة النهاية في سلسلة لتوليد الإشارات تُعرَف باسم قرن آمون (Cornu Ammonis)، تبدأ في مكان آخر من الحُصَيْن. وقد افتُرض أن خلايا المكان تستقبل الكثير من الحسابات المهمة ذات الصلة بالملاحة من مناطق حُصَيْنية أخرى. لذا قرر كلانا (المقصود هنا العالِمان كاتبا المقال)، بُعَيْد عام 2000 تقريبًا، إجراء مزيد من البحث في تلك الفكرة في المختبر الجديد الذي أنشأناه لدى الجامعة النرويجية للعلوم والتكنولوجيا. وأدى هذا المسعى في الختام إلى اكتشاف كبير.
بالتعاون مع مينُّو ويتَّر، الموجود حاليًّا في معهدنا، وبمساعدة مجموعة من الطلاب اللامعين، بدأنا باستعمال مَسارٍ مكروية لمراقبة نشاط خلايا المكان في حُصَيْن دماغ جرذ، بعد أن عملنا تشويشًا على جزء من الدارة العصبونية فيه يُعرَف بأنه يورد معلومات إلى تلك الخلايا. وتوقعنا أن يُثبت هذا العمل أن تلك الدارة مهمة لكي تعمل خلايا المكان بشكل سليم. لكن ما فاجأنا هو أن العصبونات عند نهاية الدارة، وبالتحديد في الـCA1، استمرت في القدح عندما وصل الحيوان إلى مواقع معينة.
وكان الاستنتاج الذي لا مفر منه، والذي توصل فريقنا إليه، هو أن خلايا المكان لم تعتمد على تلك الدارة الحُصَيْنية لتقدير حركة الحيوان. وعندئذٍ وجهنا تركيزنا إلى المسار العصبوني الوحيد الذي أعفيناه من تدخُّلنا، ألا وهو الوصلات المباشرة بين المنطقة CA1 واللحاء الشمِّي الداخلي، وهو منطقة ملاصقة تخلق واجهة مشتركة مع بقية اللحاء.
وفي عام 2002، ونحن لا نزال على تعاوننا مع ويتر، أدخلنا مَساريَ مكروية في اللحاء الشمي الداخلي، ثم بدأنا التسجيل في أثناء تنفيذ الحيوانات مَهامَّ تشبه تلك التي استعملناها في دراساتنا لخلايا المكان. ووجهنا المساري إلى اللحاء الشمي الداخلي الذي يحتوي على وصلات مباشرة إلى أجزاء من الحُصَيْن؛ حيث اكتُشفت خلايا مكان في كافة الدراسات التي أجراها غيرنا سابقًا. وتبيَّن لنا أن كثيرًا من الخلايا في اللحاء الشمي الداخلي قدحت عندما كان الحيوان في بقعة معينة من الحجرة، على نحو مشابِهٍ كثيرًا لما تفعله خلايا المكان في الحُصَيْن. لكن خلافًا لخلايا المكان، قدحت خلية واحدة في اللحاء الشمي الداخلي في كثير من المواقع الأخرى التي مر بها القارض، لا في موقع واحد فقط.
أما الخاصية الأكثر إثارة في هذه الخلايا فهي الطريقة التي تقدح بها. لقد أصبح نمط نشاطها جليًّا لنا في عام 2005 عندما زدنا حجم الحجرة التي كنا نُجري التسجيل فيها. فبعد توسيعها إلى حجم معين، وجدنا أن المواقع المتعددة التي قدحت فيها خلية شمية داخلية قد شكَّلت رؤوس شكل سداسي. وأسمينا الخلايا التي قدحت عند مرور الحيوان فوق تلك الرؤوس بخلايا الشبكة.
وبدا أن السداسيات التي غطت الحجرة برمتها تمثل وحدات منفصلة لشبكة ما على غرار المربعات التي تكوِّنها خطوط الإحداثيات على الخريطة. وخلافًا لخلايا المكان، أثار نمط قدح خلايا الشبكة إمكانيةَ توفيرِها معلوماتٍ عن المسافة والاتجاه تساعد الحيوان على تعقُّب مساره بناءً على إشارات داخلية من حركة جسمه، من دون الاعتماد على إشارات تأتي من البيئة المحيطة.
وفي أثناء تحرينا لأنشطة الخلايا في أجزاء مختلفة من اللحاء الشمي الداخلي، شهد العديد من مظاهر الشبكة تغيُّرًا أيضًا. فعند الجزء الظهري، وبالقرب من أعلى تلك البنية، أنتجت الخلايا شبكة تألفت من مسدسات شديدة التقارب. وازدادت مقاسات المسدسات تدريجيًّا في سلسلة من الخطوات أو الوحدات مع النزول نحو الجزء البطني الأخفض من اللحاء الشمي الداخلي. وأظهرت عناصر الشبكة السداسية في كل خطوة تباعُدًا فريدًا.
وأمكن تحديد تباعُد خلايا الشبكة ضمن كل وحدة متتالية في اتجاه الأسفل بضرب المسافة بين الخلايا في الوحدة السابقة بمعامل يساوي نحو 1.4، أي ما يساوي جذر الـ2 تقريبًا. وفي المجموعة الواقعة في أعلى اللحاء الشمي الداخلي، كان على الجرذ الذي يقدح خلية شبكة عند أحد رؤوس المسدس أن ينتقل مسافة 30 حتى 35 سنتيمترًا إلى رأس مجاور. وفي المجموعة التالية باتجاه الأسفل، كان على الحيوان أن ينتقل مسافة 42 حتى 49 سنتيمترًا... وهكذا دواليك. وفي المجموعة الدنيا، امتد طول تلك المسافة إلى عدة أمتار.
لقد أدهشتنا خلايا الشبكة كثيرًا، وأدهشنا ترتيبها المتناسق أيضًا. ففي معظم أجزاء اللحاء، اتسمت العصبونات بأنماط قدح بدت عشوائية وغير مفهومة، أما هنا في أعماق اللحاء، فثمة منظومة من الخلايا قدحت بأنماط منتظمة قابلة للتنبؤ. ورغم تحمُّسنا لاستقصائها، إلا أن تلك الخلايا، ومعها خلايا المكان، لم تكن الوحيدة المنخرطة في تحديد خريطة عالم الثدييات، بل كانت ثمة مفاجآت بانتظارنا.
ففي منتصف ثمانينيات القرن العشرين وأوائل تسعينياته، قام جيمس رانك، الذي يعمل حاليًّا لدى مركز صني داونستَيت الطبي بنيويورك، وجفري س. تاوب، الموجود حاليًّا في كلية دارتموث بنيوهامشير، بإعطاء وصف لخلايا قدحت حينما اتجه القارض في اتجاه معين. وقد اكتشفا خلايا الاتجاه تلك في قادمة المرفد presubiculum، وهي منطقة أخرى من اللحاء مجاورة للحُصين.
وقد وجدنا من خلال دراساتنا أن تلك الخلايا موجودة أيضًا في اللحاء الشمي الداخلي متداخلة مع خلايا الشبكة، وأن كثيرًا من خلايا الاتجاه في اللحاء الشمي الداخلي تعمل كخلايا شبكة. فبينما شكَّلت مواقع الحجرة التي قدحت فيها تلك الخلايا شبكة أيضًا، لم تصبح الخلايا في تلك المواقع نشطةً إلا عندما اتخذ الجرذ اتجاهًا معينًا، وبدا أنها تعمل عمل البوصلة للحيوان. وبمراقبتها، أمكن معرفة الاتجاه الذي يتوجه نحوه الحيوان في أي وقت بالتناسب مع البيئة المحيطة.
وبعد بضع سنوات، أي في عام 2008، اكتشفنا في اللحاء الشمي الداخلي نوعًا آخر من الخلايا أسميناه خلايا الحدود. فقد كانت تلك الخلايا تقدح كلما اقترب الحيوان من جدار أو حافة في الحجرة أو من أي حاجز آخر، وبدا أنها تحسب بُعد الحيوان عن ذلك الحاجز. وكانت تلك المعلومات تُستعمل من قِبل خلايا الشبكة لتقدير المسافة التي قطعها الحيوان مبتعدًا عن الجدار، وبوصفها مرجعًا لتذكيره بمكان الجدار في وقت لاحق.
وأخيرًا، وفي عام 2015، ظهر نوع رابع من الخلايا يستجيب لسرعة العَدْو تحديدًا، بصرف النظر عن موقع الحيوان أو اتجاهه. وكانت معدلات قدح خلايا السرعة تلك تزداد متناسبةً مع سرعة الحركة. وبالفعل، صار في مقدورنا استنتاج السرعة التي يتحرك بها الحيوان في لحظة معينة من خلال معاينة معدلات قدح بضع خلايا. وبالتشارك مع خلايا الاتجاه، أمكن لخلايا السرعة أن توفِّر معلومات محدَّثة باستمرار لخلايا الشبكة عن حركة الحيوان، وسرعته، واتجاهه، وبُعده عن المكان الذي انطلق منه.
من خلايا الشبكة إلى خلايا المكان
لقد نتج اكتشافنا لخلايا الشبكة عن رغبتنا في كشف الإشارات الواردة التي تسمح لخلايا المكان بأن توفر للثدييات صورة داخلية لمحيطها. ونحن نعرف الآن أن خلايا المكان تضم الإشارات من أنواع الخلايا المختلفة إلى اللحاء الشمي الداخلي في أثناء محاولة الدماغ تعقُّبَ المسار الذي يتبعه الحيوان وتحديد المكان الذي يسعى إليه ضمن بيئته. ولكن حتى هذه الأنشطة لا تقدم القصة الكاملة عن كيفية قيام الثدييات بضبط اتجاهها.
لقد تركَّز عملنا في بداياته في اللحاء الشمي الداخلي الأوسط. إن خلايا المكان يمكن أن تستقبل أيضًا إشارات من اللحاء الشمي الداخلي الجانبي الذي ينقل إشارات معالَجة من عدد من منظومات الحواس، ومنها معلومات عن رائحة الأشياء وهويتها. وبضم المعلومات الواردة من الأجزاء الوسطى والجانبية للحاء الشمي الداخلي، تُفسِّر خلايا المكان الإشارات الواردة من مختلِف أنحاء الدماغ. لكن التفاعل المعقد فيما بين الرسائل الواردة إلى الحُصَيْن، وما يترتب عليه من تكوين لذاكرة خاصة بالمكان، ما زال قيد البحث في مختبرنا وفي غيره، وسوف يستمر هذا البحث في السنوات العديدة القادمة ولا شك.
إن إحدى الطرائق التي يمكن بها فهم كيفية قيام الخرائط المكانية في كل من اللحاء الشمي الداخلي الأوسط والحُصَيْن مجتمعةً بالمساعدة على الملاحة هي طرح السؤال عن الفوارق بين تلك الخرائط. لقد بيَّن جون كوبي والراحل روبرت مولَّر، وكلاهما من مركز صني داونستَيت الطبي، في ثمانينيات القرن العشرين، أن خرائط الحُصَيْن المكونة من خلايا مكانية يمكن أن تتغير كليًّا عندما ينتقل الحيوان إلى بيئة جديدة، حتى لو كانت حيزًا مختلف اللون في المكان نفسه من الغرفة نفسها.
وفي تجارب أجراها مختبرنا على جرذان تبحث عن الغذاء ضمن ما يصل إلى 11 حيزًا في مجموعة من الغرف المختلفة، تبيَّن أن كل غرفة تولِّد بسرعة خريطتها الخاصة بها، وهذا ما يُعزِّز فكرة أن الحُصَيْن يكوِّن خرائط مكانية مفصلة لكل بيئة.
وخلافًا لذلك، تتصف خرائط اللحاء الشمي الداخلي الأوسط بالشمولية. فخلايا الشبكة والاتجاه والحدود، التي تقدح معًا في مجموعة معينة من المواقع على خريطة شبكة بيئة معينة، تقدح أيضًا في مواقع مشابهة على خريطة بيئة أخرى، كما لو أن خطوط الطول والعرض في الخريطة الأولى قد وُضِّعت فوق الخريطة الثانية. ومجموعة الخلايا التي تقدح عند انتقال الحيوان باتجاه الشمال الشرقي، مثلًا، في غرفة من القفص، تكرر قدحها حينما يذهب الجرذ بنفس الاتجاه في غرفة أخرى. فأنماط الإشارات المتبادلة فيما بين تلك الخلايا في اللحاء الشمي الداخلي هي ما يستعمله الدماغ للملاحة ضمن محيطه.
وتُرسَل تلك المعلومات بعدئذٍ من اللحاء الشمي الداخلي إلى الحُصَيْن؛ حيث تُستعمَل لتكوين خرائط خاصة بمكان معين. ومن وجهة نظر نشوئية، يبدو تكامل مجموعتين من الخرائط لتوجيه الحيوان حلًّا فعالاً يستخدمه الحيوان للملاحة الحيِّزية. فالشبكات المشكَّلة ضمن اللحاء الشمي الداخلي الأوسط والتي تقيس المسافة والاتجاه لا تتغير من غرفة إلى أخرى. على النقيض من ذلك، تشكِّل خلايا المكان في الحُصَيْن خرائط مستقلة لكل غرفة على حدة.
خرائط موضعية
ما زال العمل على فهم منظومة الملاحة العصبونية قائمًا. لقد أتت كل معارفنا تقريبًا عن خلايا المكان والشبكة من تجارب سُجِّلت فيها أنشطة عصبونية كهربائية في أثناء تجوال جرذان أو فئران عشوائيًّا ضمن بيئات مصطنعة، كالصناديق ذات الأرضيات المسطحة عديمة المعالم الداخلية.
لكن المختبر يختلف كثيرًا عن البيئات الطبيعية المتغيرة باستمرار والمَلأى بالأشياء ثلاثية الأبعاد. وهذا الاختزال في الدراسة يطرح أسئلة عما إنْ كانت خلايا المكان والشبكة تقدح بنفس الطريقة عندما يكون الحيوان خارج المختبر.
فإجراء التجارب اعتمادًا على متاهات معقدة تحاكي موطن الحيوان الطبيعي لا يوفر الكثير من الشرح لما يحدث من نشاط. وفي عام 2009، سجلنا إشارات خلايا شبكة في أثناء تجوال حيوان في متاهة معقدة، حيث انعطف بمقدار 180 درجة عند نهاية كل ممر وبداية الممر التالي. وكما كان متوقعًا، بيَّنت الدراسة أن خلايا الشبكة كوَّنت أشكالاً سداسية لتمثيل مسافات الجرذان ضمن ممرات المتاهة المختلفة. وفي كل مرة انعطف فيها الحيوان من ممر إلى آخر، حصل تغيُّر مفاجئ. فقد توضَّعت خريطة أخرى منفصلة على الممر الجديد، كما لو كان الجرذ قد دخل غرفة مختلفة كليًّا تقريبًا.
لقد كشفت تجارب لاحقة في مختبرنا أن خرائط الشبكة تتجزَّأ إلى خرائط أصغر في الفضاءات المفتوحة إذا كانت كبيرة بقدرٍ كافٍ. ونحن نبحث الآن في كيفية اندماج تلك الخرائط الصغيرة لتكوين خريطة متكاملة لمنطقة معينة. لكن حتى هذه التجارب هي تجارب شديدة التبسيط؛ لأن الحجرات فيها مسطحة وأفقية. أما التجارب التي تُجرَى في مختبرات أخرى، والتي ترصد خفافيش طائرة وجرذانًا تتسلق وتتجول ضمن أقفاص، فقد بدأت بتوفير بعض الأفكار، مفادها أن خلايا المكان وخلايا الاتجاه تقدح في أماكن محددة ضمن أي فضاء ثلاثي الأبعاد، ومن المرجَّح جدًّا أن خلايا الشبكة تفعل ذلك أيضًا.
المكان والذاكرة
تقوم منظومة الملاحة في الحُصَيْن بأكثر من مجرد مساعدة الحيوان على الانتقال من النقطة (أ) إلى النقطة (ب). فإضافة إلى استقبال معلومات عن الموقع والمسافة والاتجاه من اللحاء الشمي الداخلي الأوسط، يُسجِّل الحُصَيْن ما هو موجود في مكان معيَّن، سواء أكان سيارة أم سارية علم، إضافة إلى الأحداث الجارية في تلك البقعة. أي أن خريطة الحيِّز التي تكوِّنها خلايا المكان تحوي معلومات عن موقع الحيوان، إضافة إلى تفاصيل عن خبراته المكتسبة، وذلك على نحو مشابه لتصوُّر تولمان للخريطة الإدراكية.
ويبدو أن بعض تلك المعلومات الإضافية يأتي من عصبونات في الجزء الجانبي من اللحاء الشمي الداخلي، حيث تندمج التفاصيل الخاصة بالأشياء والأحداث مع إحداثيات الحيوان، ويُحتفظ بها على شكل ذاكرة. وعند استعادة تلك الذاكرة، يقفز كلٌّ من الحدث والموقع إلى الذهن.
وهذا الترابط بين المكان والذاكرة يستحضر استراتيجية للحفظ اخترعها الإغريق والرومان القدماء. إن «طريقة المواقع method of loci» تجعل المرء يحفظ لائحة من الأشياء من خلال تخيُّل وضع كلٍّ منها في موقع معين على طول مسار معرَّف تمامًا ضمن حيِّزٍ ما، مثل منظر طبيعي أو مبنى، ويطلق على ذلك النسق "قصر الذاكرة". وما زال المشاركون في مسابقات الحفظ يستعملون هذه الطريقة لاستذكار لوائح طويلة من الأعداد أو الأحرف أو أوراق اللعب.
ومن المؤسف أن اللحاء الشمي الداخلي هو من بين أوائل المناطق الدماغية التي يحصل فيها عطب لدى الأشخاص المصابين بمرض ألزهايمر، حيث يتسبب ذلك المرض في موت الخلايا في تلك المنطقة. ويُعتبر التناقص في حجم اللحاء معيارًا معتمدًا لتحديد الأشخاص المعرَّضين لخطر المرض. ويُعتبر الميل إلى التجوال الذي يؤدي إلى ضلال الطريق أيضًا من المؤشرات المبكرة على وجود المرض. وفي المراحل المتأخرة منه، تموت الخلايا في الحُصَيْن مؤديةً إلى عجز في استذكار الخبرات أو تذكُّر المفاهيم من نوعية أسماء الألوان مثلًا. بل إن دراسة صدرت مؤخرًا قدمت دليلًا على أن الأشخاص الصغار في السن الذين يحملون مورِّثة ترجِّح إصابتهم بمرض ألزهايمر قد يعانون قصورًا في أداء شبكات خلايا الشبكة، وذاك اكتشاف قد يؤدي إلى طرائق جديدة لتشخيص المرض.
مخزون غني من الخبرات
واليوم، بعد مضي أكثر من ثمانين سنة على اقتراح تولمان وجود خريطة ذهنية للبيئة المحيطة بنا، يتضح أن خلايا المكان ليست سوى مكوِّن واحد من مكوِّنات تجسيد معقد يقوم به الدماغ لبيئته المكانية؛ بغية حساب الموقع والمسافة والسرعة والاتجاه. وقد تبيَّن أن أنواع الخلايا المتعددة التي عُثر عليها في منظومة الملاحة في أدمغة القوارض موجودة أيضًا لدى الخفافيش والقردة والبشر. كما يوحي وجود تلك الخلايا بين أصناف الثدييات المختلفة بأن خلايا الشبكة، وغيرها مما يسهم في نظام الملاحة، قد نشأت باكرًا في مراحل تطور الثدييات، وأن أنماطًا حسابية عصبونية متشابهة تُستعمل لحساب الموقع من قِبل الأجناس المختلفة.
لقد اكتشفنا كثيرًا من مكونات خريطة تولمان؛ وبدأنا بفهم كيفية تكوين تلك الخريطة واستعمالها من قبل الدماغ؛ وأصبحت منظومة التمثيل المكاني واحدة من أوضح الدارات في لحاء الثدييات؛ وبدأنا بتحديد العمليات الحسابية المستعملة فيه؛ للمساعدة على تفسير المعلومات العصبية التي يستعملها الدماغ في الملاحة.
وعلى غرار ما يحصل في كثير من مجالات الاستقصاء الأخرى، تثير الكشوفات الجديدة أسئلة جديدة. إننا نعلم أن الدماغ يحتوي على خريطة داخلية، إلا أننا ما زلنا بحاجة إلى فهم أفضل لكيفية عمل عناصر الخريطة معًا لإنتاج تمثيل متماسك لتحديد الموقع، ولكيفية قراءة المعلومات من قِبل منظومات الدماغ الأخرى؛ لاتخاذ قرارات بخصوص المكان الذي ينتظر التوجُّه إليه وكيفية بلوغه.
وثمة الكثير من الأسئلة الأخرى. هل تقتصر الشبكة المكانية في الحُصَيْن واللحاء الشمي الداخلي على الملاحة ضمن الفضاء الموضعي؟ ففي حالة القوارض، نحن نتحرى مناطق لا تتجاوز أنصاف أقطارها بضعة أمتار. فهل تُستعمل خلايا المكان والشبكة أيضًا في المسافات الطويلة التي تقطعها الخفافيش مثلًا في أثناء هجرتها، والتي تبلغ مئات أو آلاف الكيلومترات؟
وأخيرًا، ثمة تساؤل عن كيفية نشوء خلايا الشبكة، وعما إنْ كان ثمة فترة تكوين حرجة لها خلال تطور الحيوان، وعن إمكان وجود خلايا المكان والشبكة لدى الفقاريات الأخرى أو اللافقاريات. فإن كانت اللافقاريات تستعملها، فإن ذلك يمكن أن ينطوي على أن عملية التطور استخدمت منظومة الخرائط المكانية تلك طوال مئات الملايين من السنين، وعلى أن نظام تحديد الموضع الدماغي سوف يستمر بتوفير ثروة كبيرة من الأدلة تدفع باتجاه بحث جديد تنشغل به أجيال من الباحثين في العقود المقبلة.
اضف تعليق