الخُطَط التي نرسمَها ونضعَها ونتَّفِق عليها سواءً على المُستوى الشَّخصي أَو الإِجتماعي، فإِذا نُلاحظ بدقَّةٍ فإِنَّ أَغلبها يفشلُ ولا يُؤتي ثِمارهُ لأَنَّنا ننسى التَّوقيتاتُ فنتركَها بنِهاياتٍ سائبةٍ، الأَمرُ الذي يُضيِّع الجُهود ويُبدِّد الإِمكانيَّات ويهدُر الوقت ويُحطِّم المِصداقيَّة. بالمُجملِ لا نحترِم الوقت ولا نلتزِم بمَوعدٍ ولا نقدِّر التَّوقيتات ولولا...
(إِلَىٰ يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ).
عكسُ الوَقتِ هي الفَوضى، فالتَّوقيتُ ينظِّمُ شؤُونَ الحياة وأَنَّ العبثَ بهِ، لأَيِّ سببٍ كانٍ، يُسبِّبُ الفَوضى وتضييعِ الطَّاقات والجُهد.
والوقتُ والتَّوقيتُ على نوعَينِ؛ نوعٌ ثابِتٌ لا يمكِنُ لنا التَّلاعبَ بهِ وتغييرهِ أَو الإِلتزامَ بهِ بمِزاجِنا كمواقيتِ الصَّلاةِ مثلاً والحجِّ وأَيَّام الشَّهر الفضيل رمَضان المُبارك ووقتَ الصِّيام [السَّحر والإِفطار] (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) وغيرِها من التَّوقيتاتِ الثَّابتةِ التي حدَّدها المُشرِّع.
ومنهُ التَّوقيتُ الإِلهي، الذي لَو كانَ تحتَ الطَّلبِ لشهِدنا قياماتٌ عدَّةٌ حسبَ مِزاجِ كُلِّ مجموعةٍ بشريَّةٍ (وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ).
ونوعٌ متغيِّرٌ أَنتَ تتحكَّمُ بهِ، كموعدِ زيارةِ طبيبٍ مثلاً أَو موعدِ الإِمتحانِ أَو موعدِ الفطورِ والغداءِ والعشاءِ والقِراءةِ واللَّعبِ والنَّومِ والإِستيقاظِ وما إِلى ذلكَ.
النَّوعُ الثَّاني كذلكَ على نَوعَينِ؛ نوعٌ يرتبِطُ بكَ شخصيّاً لا علاقةَ لأَحدٍ بهِ فأَنتَ الذي تُحدِّدهُ حسبَ مِزاجِكَ وأَنت الذي تُلغيه بما يَتناسب ووضعكَ الشَّخصي، وهوَ الزَّمن الذي تكونُ أَنتَ مسؤُولٌ عنهُ بشكلٍ مُباشرِ وستُسأَلُ عنهُ.
ونوعٌ يرتبِطُ بكَ وبغيرِكَ كتاريخِ الإِمتحان في المَدرسةِ مثلاً فإِنَّ مثلَ هذا التَّوقيتُ لا يُمكنكَ أَن تتصرَّفَ بهِ، ليسَ لأَنَّهُ مُثبَّتٌ من قِبلِ المُشرِّعِ وإِنَّما لارتباطِهِ بكَ وبغَيركَ، ولذلكَ يلزمكَ الإِلتزام بهِ فلا يحقُّ لكَ ولا لغيرِكَ من المَعنيِّينَ بهِ أَن تتلاعبَ بهِ فتلتزِم أَو لا تلتزِم بهِ.
ومن نماذِج هذا النَّوع من التَّوقيت ما وردَ في قصَّةِ نبيَّ الله موسى (ع) معَ فِرعَونٍ وملَئِهِ وسحرَتِهِ كما يذكُرها القرآن الكريم (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى* قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) وقولهُ تعالى (فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ) فلم يكُن لأَيٍّ من الطَّرفَينِ أَن يتخلَّفَ عنِ المَوعدِ لأَنَّ التَّخلُّفَ في مثلِ هذهِ الحالةِ بمثابةِ الهزيمةِ قبلَ النِّزال!.
وأَحياناً يكونُ الإِستعجالُ على توقيتٍ مُعيَّنٍ بمثابةِ الوقُوعِ في فتنةٍ ولذلكَ يلزم الإِنتباه إِلى ذلكَ، كما في قصَّةِ استعجالِ موسى (ع) الذِّهابَ للموعدِ المضرُوبِ معَ الله تعالى.
(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى* قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى* قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ).
إِنَّ فلسفَة الوَقت والزَّمن دقيقةٌ جدّاً فهيَ التي تُنظِّم الحياة وتُنظِّم علاقاتَنا مع بعضِنا وتنظُّم علاقاتَنا الشخصيَّة مع الأَشياءِ من حَولِنا خاصَّةً التي نُباشِر التَّعامُلَ معها وبِها وإِنَّ أَيَّ تلاعُبٍ أَو عبثٍ بالتَّوقيتاتِ والزَّمنِ ينهارُ كُلَّ شيءٍ فتتحوَّلُ أَيَّامنا إِلى فَوضى وعِلاقاتنا إِلى فوضى.
خُذ مثلاً على ذلكَ الخُطَط التي نرسمَها ونضعَها ونتَّفِق عليها سواءً على المُستوى الشَّخصي أَو الإِجتماعي، فإِذا نُلاحظ بدقَّةٍ فإِنَّ أَغلبها يفشلُ ولا يُؤتي ثِمارهُ لأَنَّنا ننسى التَّوقيتاتُ فنتركَها بنِهاياتٍ سائبةٍ، الأَمرُ الذي يُضيِّع الجُهود ويُبدِّد الإِمكانيَّات ويهدُر الوقت ويُحطِّم المِصداقيَّة!.
للأَسفِ الشَّديد فإِنَّنا بالمُجملِ لا نحترِم الوقت ولا نلتزِم بمَوعدٍ ولا نقدِّر التَّوقيتات ولولا أَنَّ الله تعالى هوَ الذي حدَّد وقتَ الصِّيام وشهرهُ وساعتهُ ومُدَّتهُ لرأَيتنا كُلٌّ يؤَقِّتُ لنفسهِ مَوعِداً!.
هذا على الرَّغمِ من أَنَّنا جميعاً نحفَظ قَولَ رسُولِ الله (ص) الذي ذكرَ فيهِ صِفاتُ المُنافق الأَربع، منها (إِذا وعدَ أَخلَف).
واحدةٌ من أَشدِّ التَّوقيتاتِ خطورةً هي ما يتعلَّق باتِّخاذِ القرارِ وفي أَيَّةِ قضيَّةٍ من القضايا، وخاصَّةً فيما يتعلَّق بالشَّأن العام وما يخصُّ مصير الأُمَّة والجَماعة.
إِنَّ لاتِّخاذِ القرارِ السَّليمِ، كما نعرِف، شرُوطاً وعواملَ ومنها أَن يتُمَّ اتِّخاذ القرار في الوقتِ المعلُوم أَي قبلَ فواتِ الأَوان، أَمَّا إِذا اتُّخِذَ بعدَ فوات الأَوان فبالتَّأكيد سيفقُد القرارُ منفعتهُ، فليسَ كلُّ قرارٍ [سليمٍ] ينفعُ أَبداً فإِذا جاءَ بعدَ فَواتِ الأَوان فلن تكونَ لهُ قيمةٌ ويكونَ غيرَ ذي جدوى.
مُشكلتُنا أَنَّنا لا نحسِب للتَّوقيتِ حسابٌ عندما نُفكِّر ونتشاوَر لاتِّخاذِ قرارٍ ما خاصَّةً، كما قُلنا، في الشَّأنِ العامِّ، ولذلكَ نُلاحظ أَنَّ الكثيرَ من [قراراتِنا] الصَّائبة تذهَب أَدراج الرِّياح وتكونُ غيرَ ذي منفعةٍ ليسَ لأَنَّها غَير سليمَة بذاتِها وإِنَّما لأَنَّنا نتَّخذَها بغيرِ أَوانِها وبعدَ فواتِ الأَوان.
يذكرُ القُرآن الكريم [٣] نماذِجَ لقراراتٍ [سليمَةٍ] و [صائِبَةٍ] من دونِ فائدةٍ لأَنَّها اتُّخِذَت بعدَ فَواتِ الأَوان.
الأَوَّل (فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّىٰ يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ).
الثاَّني (حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ* آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ).
الثَّالِث (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّىٰ إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ۚ أُولَـٰئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
يشرحُ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) ذلكَ لمالكِ الأَشتر بعهدهِ إِليهِ لمَّا ولَّاهُ مِصر بقولهِ (وإِيَّاكَ والْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا أَوِ التَّسَقُّطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا أَوِ اللَّجَاجَةَ فِيهَا إِذَا تَنَكَّرَتْ أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إِذَا اسْتَوْضَحَتْ فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَه وأَوْقِعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْقِعَه).
أُنظر إِلى دقَّةِ الحاجةِ إِلى التَّوقيتاتِ في كُلِّ خُطوةٍ يخطُوها المسؤُول، وهيَ الدقَّة نفسَها التي يحتاجَها المرءُ في حياتهِ وفي كُلِّ صغيرةٍ وكبيرةٍ، فإِذا كانت قراراتنا الشخصيَّة مثلاً تأتي مُتأَخِّرةً دائماً وبعدَ فَواتِ الأَوان فستجِد أَنَّ الفَوضويَّةَ هي التي تحكُم حياتَنا فنضيِّع الفُرص دائماً وندفَع أَثماناً باهِضةً لكُلِّ شيءٍ.
ولتوضيحِ الفكرةِ أَكثر لتكُونَ درساً وعِبرةً، أَتحدَّثُ هُنا عن العقلانيَّةِ وعلاقتها بالوقتِ والتَّوقيتِ.
فالعقلانيَّةُ قبلَ فَواتِ الأَوانِ تكُونُ بنَّاءةً، والعقلانيَّةُ بعدَ فُواتِ الأَوانِ تكُونُ مُذلَّةً ومُدمِّرةً!.
والأُولى تحمي الدَّم والعِرض والأَرض في الوقتِ المُناسِب، والثَّانيةُ تُفرِّطُ بكُلِّ ذلكَ.
الأُولى قوَّةٌ والثَّانيةُ ضَعفٌ.
الأُولى تنتزِعُ حقّاً والثَّانيةُ تُضيِّعُ الحقُوق.
الأُولى تنزَعُ أَسنان العدُو والثَّانِيةُ تُسلِّحهُ بأَسنانٍ إِضافيَّة.
الأُولى دليلٌ على فَهمِ الواقعِ وقراءةِ المُستقبلِ بدقَّةٍ.
الثَّانيةُ دليلٌ على قَصرِ النَّظرِ والإِعتدادِ الكاذبِ بالنَّفسِ وسيطرَةِ الأَوهامِ على المنطقِ.
فهَل وصَلَت الفِكرة؟!
من أَجلِ أَن لا يكونَ دُعاؤُنا كدُعاءِ أَهلِ النَّارِ بعدَ فواتِ الأَوانِ!.
يقُولُ تعالى مُخاطِباً أَهلَ النَّارِ (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۚ قَالُوا فَادْعُوا ۗ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ).
اضف تعليق