معظمنا بالتأكيد مرَّ بتجربة أن يجاهد للوصول إلى حل إحدى المشكلات دون جدوى، ثم بينما يتريض أو يغسل الصحون، يُفاجئه الحل على طبقٍ من ذهب، وكأنما يظهر من العدم، يُطلق علماء النفس على لحظات التجلي المفاجئة هذه -والتي يصيح فيها المرء: وجدتها اسم: التبصُّر...
بقلم: إيميلي ليبر
تمكَّن مشاركون في إحدى الدراسات من حل مجموعة من الأحاجي بسهولةٍ وبراعة.. في أثناء تركيزهم على أداء مهمات عقلية بعيدة الصلة بتلك الأحاجي.. مستخدمين في ذلك قدرتهم على التبصُّر العفوي لا التفكير التحليلي.
معظمنا بالتأكيد مرَّ بتجربة أن يجاهد للوصول إلى حل إحدى المشكلات دون جدوى، ثم بينما يتريض أو يغسل الصحون، يُفاجئه الحل على طبقٍ من ذهب، وكأنما يظهر من العدم، يُطلق علماء النفس على لحظات التجلي المفاجئة هذه -والتي يصيح فيها المرء: "وجدتها!"- اسم: «التبصُّر»، وهي لحظات لا تقتصر على المواقف التي تواجهنا فيها مشكلةٌ ما، بل كذلك عندما نفهم مغزى دعابةٍ ما فجأة، أو يباغتنا حلُّ أحجية كلمات متقاطعة، أو حتى حينما يخطر ببالنا تأمُّل في ذواتنا، وقد حدد العلماء أنماطًا مميزةً من النشاط الذهني تُميّز لحظات التبصُّر هذه، غير أن الجدال لا يزال قائمًا بشأن ما إذا كان التبصُّر يُمثِّل ببساطة تلك الخطوة النهائية في عملية التفكير المتأنية، ما يجعله أكثر الخطوات التي تجلب الرضا للنفس، أم أنه نمطٌ منفصلٌ كليًّا عن التفكير.
والآن تقدم دراسة جديدة ومبتكرة، أجراها فريقٌ من المتخصصين في علم النفس البلجيكيين، أدلةً إضافيةً تثبت أن التبصُّر يستعين بآليات لاواعية، تختلف عن التفكير العقلي التحليلي، الذي يسير وفق خطوات منظمة، ويشير البحث إلى أنه حتى عندما تتزاحم الأفكار في عقل المرء، ويشغله التفكير في العديد من المهمات، فإنه يكون قادرًا على الاستعانة بحدسه بكل سهولةٍ ويسر.
يقول هانس ستايك -طالب الدكتوراة بجامعة بروكسل الحرة وجامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، الذي قاد الدراسة- تعقيبًا على الفكرة السابقة: "قد تجد نفسك مثقلًا بكثيرٍ من هذه الأمور، مثل إمساكك بهاتفك المحمول أو أي شيء آخر، لكنَّ قدرتك على التبصُّر تبقى مُحصّنة".
ولإجراء هذا البحث، الذي نُشر للمرة الأولى عبر الإنترنت، في شهر ديسمبر من عام 2021، في »مجلة كوجنيشن« Cognition، أعد اختصاصيو علم النفس 70 أحجيةً كلامية يمكن لطلاب جامعيين حلها استعانةً بالتبصُّر أو من خلال استخدام التفكير التحليلي، وكانت كل أحجية تتألف من ثلاث كلمات باللغة الهولندية، تظهر على شاشة الحاسوب أمام المشاركين، وكانت المهمة المطلوبة منهم هي العثور على كلمة رابعة يمكن أن تتَّسق مع كل كلمة من الكلمات الثلاث مكونةً عبارة، (فعلى سبيل المثال، في حالة كان الاختبار سيُجرى باللغة العربية، فإن الكلمات الثلاث التي يمكن عرضها على المشاركين بالاختبار هي "رضيع" و"أمر" و"طريق"، والإجابة ستكون "مهد"؛ وذلك أن "مهد الرضيع" و"مَهَّد للأمر" و"مَهَّد الطريق" جميعها عبارات مألوفة ومعروفة).
وقد أتيح للمشاركين في الدراسة، البالغ عددهم 105 طلاب جامعيين، معظمهم من النساء، 25 ثانيةً لحل كل أحجية، وكان المشاركون يشيرون، بعد كل مرة يكتبون فيها الحل، إذا ما كانوا قد توصلوا إليه بعد مرورهم بإحدى «لحظات التجلي» تلك، التي أخبروهم أنها تعني «إدراك الحل فجأةً وبوضوح»، مثل مصباح يتوهج بغتةً ليضيء غرفةً معتمةً، أم أنهم قد أمعنوا النظر والتفكير في السؤال، وعمدوا إلى حسابه خطوةً بخطوةٍ، "دون لحظات تجلٍّ مماثلة"، مستخدمين في ذلك وصف: كما لو أن الرأس غرفةٌ مظلمةٌ تُضيء شيئًا فشيئًا، باستخدام مفتاح يرفع شدة الإضاءة بالتدريج.
وقد قُسِّم المشاركون إلى ثلاث مجموعات: فلم يُعرَض على المجموعة الأولى إلا الأحاجي التي طُلب منهم حلها، أما المجموعة الثانية، فكان يُعرَض على أفرادها رقمان عشوائيان، يظهران بالتتابع على الشاشة، قبل ظهور الكلمات، وكان يُطلب من المشاركين أن يحاولوا تذَكُّر هذين الرقمين بعد الانتهاء من حل الأحجية، في حين جاءت المهمة المسندة إلى المجموعة الثالثة مشابهةً للمجموعة الثانية، عدا أن المشاركين كان عليهم تذَكُّر أربعة أرقام، بدلًا من رقمين.
وقد كان الغرض من جعل الأشخاص يتذكرون أرقامًا عشوائيةً هو شغل عقولهم بمهمةٍ محددة، لا علاقة لها بالأحاجي التي يُطلب منهم حلها، وتوقع العلماء أن ذلك سيتداخل مع قدراتهم الواعية على حل المشكلات، وذلك لأن "مجموعة الموارد الإدراكية تلك التي يمكننا الاستفادة منها وتسخيرها لفعل أي شيء بصورة واعية، تتصف بكونها محدودةً ومتناهية"، على حد وصف ستايك، بيد أن التساؤلات التي أثيرت في هذا الصدد، كانت تتعلق بما إذا كان التفكير الاستبصاري يتأثر بالقدر نفسه.
وبالفعل، عندما استعان المشاركون بالتفكير التحليلي، كأن ينتجوا -على سبيل المثال- عبارةً مثل «بكاء الرضيع»، ثم التفكير فيما إذا كانت كلمة «بكاء» تتَّسق مع كلمتي «أمر» و«طريق»، ثم محاولة الانتقال إلى غيرها، كانت نتيجة ذلك انخفاض عدد الأحاجي التي تمكنوا من حلها؛ إذ تمكنت المجموعة، التي لم تظهر أمامها أي أرقام، من حل 16 أحجيةً، في المتوسط، بينما تمكن المشاركون الذين طُلب منهم تذكُّر رقمين من حل 12 أحجيةً، في مقابل ثماني أحاجي عند المشاركين الذين طُلب منهم تذكُّر أربع كلمات.
غير أن اعتماد المشاركين في هذه الدراسة على التبصُّر في حل الأحاجي التي تُعرض أمامهم، لم يترتب عليه ارتفاع معدل قدرتهم على حل الأحاجي بمهارة فحسب، بل إن ذاك المعدل لم يتأثر أيضًا بمهمة تذكُّر الأرقام؛ إذ تمكَّن هؤلاء المشاركون من إتمام ما بين 17 إلى 19 أحجيةً، في المتوسط، بدقةٍ وكفاءةٍ، في جميع المجموعات الثلاث، الأمر الذي علَّق عليه ستايك قائلًا: "سواء كانت مهمة تذكُّر الأرقام لم تُسند إليهم، أو أُسنِد إليهم تذكُّر عدد أقل أو أكثر من الكلمات، فإن عدد الأحاجي التي تمكنوا من حلها عن طريق التبصُّر بقي ثابتًا لم يتغير، ولعل هذه النتيجة هي أكثر ما أثار اهتمامنا".
جزء كبير من نشاط أدمغتنا يحدث بصورة لاواعية، ولهذا يبدو الأمر وكأن باستطاعتنا قيادة سياراتنا إلى العمل بصورة تلقائية دون إعمال للعقل في ذلك، ولهذا السبب أيضًا يرجع عجزنا عن إدراك أهوائنا وانحيازاتنا التي تؤثر في قراراتنا، غير أن المتخصصين في علم النفس الإدراكي يختلفون فيما بينهم حول ما إذا كان التفكير العقلي يحدث في مستوى من الدماغ دون مستوى الإدراك، وفي ذلك يقول ستايك: "ثمة الكثير من الجدال الذي أُثير حول هذا الأمر في الأوراق العلمية".
يرى ستايك أن لحظات التبصُّر تشهد تناوبًا، وتبادلًا للأدوار بين العمليات الواعية واللاواعية، فعلى سبيل المثال، حينما يسعى مجموعةٌ من الأشخاص لحل أحجية تتضمن كلمات (خل/ سلطعون/ صلصة (تنشط مهارة الربط بين الكلمات المتعددة، لكن وحدها الكلمات الأقوى ارتباطًا هي التي تدخل إلى العقول الواعية، فإذا حدث وكان الجواب الصحيح يمثل ارتباطًا ضعيفًا، فقد يشعر الأشخاص بالعجز عن إيجاده، على حد قوله، غير أن عقولهم، في مستوى أعمق منها، ومجهول تمامًا بالنسبة لهم، قد ترشدهم إلى ذاك الجواب، وتنقله إلى وعيهم.
وحول ذلك، يقول مارك بيمان، المتخصص في علم الأعصاب الإدراكي بجامعة نورث ويسترن، وأحد الخبراء الرائدين في مجال التبصُّر، والذي لم يشارك في هذه الدراسة الجديدة: "إن محاولة إيجاد حل مبتكر لمعضلةٍ ما تشبه إبصار نجم خافت في الليل، إذ سيكون عليك التفكير في الأمر بشكل غير مباشر، في إحدى زوايا عقلك".
حالة التبصُّر هذه تحدث عادةً عندما يفكر شخصٌ ما مليًّا في مشكلةٍ ما لفترة من الزمن، ثم ينصرف عنها، على حد قول بيمان، فبمجرد تكوُّن أساس قوي عن هذه المشكلة في عقل المرء، من خلال الجهد العقلي الواعي، يبدو أن التجوُّل برويَّة في الأرجاء، أو أخذ غفوة، أو الانشغال بأي مهمة ينصرف إليها انتباهك، قادرٌ بالفعل على فتح آفاق قدراتك الإبداعية والتبصُّر الخلاق، وهو ما يصحبه، عادةً، شعورٌ بالرضا والاطمئنان.
والسبب في كون احتفاظ المرء برقمين، أو أربعة أرقام، في رأسه يعوق مقدرته على التفكير العقلي، دون تأثير حل قدرة حل المشكلات القائمة على التبصُّر، يرجع في رأي ستايك إلى أن صرف الانتباه إلى فكرة خافتة لا يستلزم -على ما يبدو- بذل مجهود عقلي.
لاقى ذلك قبولًا لدى بيمان، الذي ينبه إلى ضرورة عدم تعميم نتائج هذه الدراسة على عالمنا الواقعي، ويُرجع ذلك إلى أن مهمة تذكُّر الأرقام كانت على قدرٍ من البساطة والسهولة يكفي لصرف انتباه المشاركين وإلهائهم، بما فيه نفعٌ لهم، وقد ساعد ذلك المشاركين على بلوغ لحظات التجلي والتوصل إلى الإجابات الصحيحة، غير أنه في الوقت نفسه يشكك في إمكانية تحقيق النتائج نفسها حالما يصبح العقل البشري مثقلًا ومرهقًا أكثر مما يستطيع، ويقول: "بطبيعة الحال لا أريد أن أنصح الأشخاص الذين يرغبون في تعزيز قدراتهم الإبداعية في العمل، بتحمُّل المزيد من أعباء العمل، بصورة تُثقل كاهلهم".
يُوشك فريق ستايك على الشروع في إجراء تجربة تبصُّر جديدة، قوامها الأحاجي أيضًا، ويعتزم الباحثون، في هذه المرة، إحداث «خلل افتراضي» عن طريق تعطيل جزء من القشرة الجبهية الأمامية، وهي منطقة في الدماغ نستفيد منها في معالجة المعلومات واستخدامها بشكلٍ واعٍ، (من المقرر استخدام طريقة غير باضعة، لا تسبب أي ضرر، تُسمَّى التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة، تحفز خلايا الدماغ، عن طريق استخدام مجالات مغناطيسية)، ومن المتوقع أن يقلص هذا الخلل العارض مقدرة الأفراد على حل الأحاجي، عند استخدامهم نهجًا تحليليًّا في الحل، غير أن ما يثير التساؤل هنا هو ما إذا كان ذلك سيضعف قدراتهم على حل المعضلات باستخدام التبصُّر.
اضف تعليق