القرآن الكريم هو قمّة البلاغة والفصاحة لذلك كان لابدّ من وجود روابط معينّة بين آياته، بل وخيط خفّي يربط بين آيات السورة الواحدة ـ كما يربط حبّات المسبحة بعضها ببعض، والعلاقة بين الآيات قد تكون: علاقة المسبَّب بالسبب. أو علاقة التكامل. أو علاقة التعليل. أو...

منهج التدبّر في القرآن يعتمد على طرح مختلف التساؤلات حول (الظواهر القرآنية)، فكلّ آية من القرآن الكريم مجال خصب لطرح تساؤلات عديدة، وعلى الفرد الذي يحاول التدبُّر في القرآن أن يثير في عقله هذه التساؤلات، ومن ثمّ يحاول الإجابة عليها.

وهذه التساؤلات تتناول 1- معنى الكلمة. 2- تخيُّر الكلمة. 3- موقع الكلمة. 4- الشكل الخارجي. 5- التسلسل المعنوي، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض. 6- التصنيف.

خامساً: الارتباط والتسلسل

من الشروط التي يجب توفُّرها في الكلام ليكون بليغاً وأنيقاً: الارتباط والتسلسل.

فالكاتب الذي يدع أفكاره يموج بعضها في بعض، ويحشر المواضيع المختلفة بعضها في البعض الآخر حشراً.

والخطيب الذي يقفز من موضوع إلى موضوع كما يقفز الطائر من غصن إلى غصن.

والمتحدّث الذي تتزاحم على دماغه الأفكار فيتحدّث حولها جميعاً في وقت واحد. كل هؤلاء ليسوا من البلاغة في شيء.

ولأنّ القرآن الكريم هو قمّة البلاغة والفصاحة لذلك كان لابدّ -على ما يراه بعض العلماء- من وجود روابط معينّة بين آياته، بل وخيط خفّي يربط بين آيات السورة الواحدة ـ كما يربط حبّات المسبحة بعضها ببعض، (خيط خفي) فتأمّل.

والعلاقة بين الآيات قد تكون:

- علاقة المسبَّب بالسبب.

- أو علاقة التكامل.

- أو علاقة التعليل.

- أو علاقة التشابه.

- أو علاقة التفريع.

- إلى غير ذلك من أنواع العلاقة.

والسؤال الآن هو:

لماذا نطرح محاولة اكتشاف الروابط بين الآيات القرآنية؟ هل هناك ضرورة تفرض ذلك؟ أم أنّه يمكننا أن نفهم كلّ آية بشكل مستقل ومنفصل عن الآيات الأُخرى؟.

والجواب: إنّ لاكتشاف الروابط بين الآيات القرآنية فائدتين:

إحداهما: فهم المعنى الحقيقي للآية:

إنّ فهم المعنى الحقيقي لكثير من الآيات يتوقّف على اكتشاف (الارتباط بين الآيات)، ومن هنا نجد: أنّ الذين حاولوا فهم القرآن بشكل تجزيئي أخطأوا في فهم الكثير من الآيات(1).

وثانيتهما: اكتشاف مفاهيم هامة من خلال ذلك.

أمّا مجالات اكتشاف العلاقة فهي:

أوّلاً: العلاقة بين أجزاء الآية الواحدة، وهذا ما نسميه بـ«فهم الارتباط».

ثانياً: العلاقة بين الآيات - وهذا ما نسميه بـ(فهم التسلسل).

وفيما يلي.. بعض الصور الإيضاحيّة:

ـ 1 ـ

يقول القرآن الكريم: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأَكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}(2).

هذه الآية الكريمة تبيّن أنّ الجنة هي من نصيب أفراد ملامحهم كالتالي:

1ـ إنّهم هاجروا.

2ـ هذه الهجرة لم تأت عبثاً، أو من أجل الراحة أو السياحة، بل لأنّهم عملوا وجاهدوا حتى اضطرتهم القوى المعادية للخروج. قال تعالى: {وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ}.

3 ـ وكانت هذه الهجرة عقيب تلقيّهم الأذى والاضطهاد.

{وَأُوذُوا}.

4 ـ وهذه المصاعب كلُّها لم تكن من أجل طموحات شخصية، وإنّما من أجل الله، وفي سبيله: {فِي سَبِيلِي}.

5 ـ وبعد أن سُدّت الأبواب كلُّها في وجههم هاجروا إلى المنفى. ولكنّهم لم يستسلموا في المنفى للهدوء والراحة، بل واصلوا مسيرة الجهاد والثورة: {وَقَاتِلُوا}.

6 ـ ثم لم يكن الهدف من القتال الحصول على مكاسب دنيويّة أو شخصية، فهم حاربوا بروحيّة المصمّم على الموت حتى استشهدوا في هذا الطريق: {وَقُتِلُوا}.

والسؤال الآن: ما هي النتيجة؟

والجواب يفصّله لنا القرآن حين يقول: {...لأَكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ} {وَلأَدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}.

وكل ذلك: {ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} أي: جزاءاً لم يكن يُعطى لهم إلاّ بذلك العمل.

إلاّ أنّ عطاء الله ليس عطاءاً عاديّاً، أو محدوداً؛ لأنّه عطاء من الله {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ}.

وربّما لاحظ القارئ الكريم أنّ العلاقة بين أجزاء هذه الآية الكريمة هي علاقة (تكاملية).

ـ 2 ـ

يقول القرآن الكريم: {فَنَادَتْهُ} (زكريا) {الْمَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}(3).

ربما يبيّن الارتباط بين أجزاء هذه الآية على الشكل التالي: لقد بشّرت الملائكة نبيّ الله زكريا (عليه السلام) ـ بابنه يحيى (عليه السلام)، وذكرت له ثلاث مواصفات:

1 ـ أن يكون المبادر إلى تصديق عيسى المسيح (عليه السلام).

2 ـ ولكن ذلك لا يعني: أنه سيكون فرداً عاديّاً مثل سائر المؤمنين بالمسيح (عليه السلام)، كلاّ! إن له دوره الهام، وشخصيته المتميزة: (وسيّداً).

3 ـ الوجهاء والسادة عادة يستغلون مراكزهم لإشباع غرائزهم وإرواء شهواتهم.

ولكنّ يحيى (عليه السلام) ليس فقط يتجنّب ذلك، وإنّما: يحصر نفسه عن اللهو البريء، والشهوات المحللة ـ أيضاً - «وحصوراً»(4).

4 ـ وبعدئذ: يبلغ قمّة الكمال الإنساني فيصبح (نبيّاً من الصالحين).

وهل هنالك أعظم من هذه البشارة؟!.

ـ 3 ـ

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ *ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(5).

في هاتين الآيتين الكريمتين مبحثان:

1 ـ علاقة (ذريّة بعضها من بعض) بما سبق.

2 ـ علاقة {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بما سبق.

أمّا بالنسبة للمبحث الأوّل: فيبدو أن قوله تعالى: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} بمنزلة التعليل للاصطفاء العمومي الذي شمل (آل إبراهيم) و(آل عمران) فهي ذريّة متماثلة، وبعضها يشبه البعض في صفات الفضيلة والكمال. ومن هنا كان اختيار هاتين الاُسرتين (اختياراً مجموعيّاً)، بينما كان اختيار (آدم) و(نوح) اختياراً فرديّاً، حيث فقدت ذريّاتهما تلك المواصفات.

أمّا بالنسبة إلى المبحث الثاني: فإنّ قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} بمنزلة التحليل لأصل «الاصطفاء». فالاصطفاء الإلهي ليس اصطفاءاً كيفياً، بل هو اصطفاء دقيق، يكفي في دقته: أنّ الله (السميع) (العليم) هو الذي يقوم به.

ومن هنا نستنتج: أنّ اختيار الله لرسوله وصفوته من خلقه، إنّما يعود إلى مؤهّلات وكفاءات توفّرت فيهم، وليس اختياراً فوضوياً، أو عشوائياً ـ حاشاه عن ذلك ـ (6).

ـ 4 ـ

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى *فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}(7).

ما هي العلاقة بين قوله: {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} وقوله: {وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}؟

والجواب: إنّها علاقة سببية، بمعنى: أنّ اتِّباع الهوى هو السبب وراء الكفر بيوم القيامة.

إنّ أغلب الذين لا يؤمنون بالآخرة لا ينطلقون في موقفهم هذا من (شبهات عقلية)، بل من (شهوات نفسية).

إنّهم يجدون أنّ الإيمان بالآخرة يعني الحجر على أهوائهم الطائشة؛ ولذلك يريحون أنفسهم برفض الآخرة من الأساس.

وربما كان في إتيان لفظة (اتَّبع) بصيغة الماضي مع أنّ المعطوف عليه وهو {مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا} قد أتى بصيغة المضارع، ربّما كان في ذلك إشارة إلى تقدُّم مرحلة (أتَّباع الهوى) على (إنكار الآخرة).

ـ 5 ـ

يقول القرآن الكريم: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ *إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}(8).

هنالك ثلاثة حواجز تقف أمام إنزال العقوبة بالمتمردين، وهي:

1 ـ الضعف، فعندما يكون الفرد ضعيفاً، وعندما تكون الدولة ضعيفة، فإنَّهما لن يتمكّنا من ـ بالطبع ـ عقاب المتمّردين.

2 ـ الشفقة المفرطة، فقد يكون الفرد قويّاً، إلاّ أنّ شفقته تكون حاجزاً أمام عقاب من يستحق العقاب.

مثل الآباء الذين تغمرهم العاطفة أكثر من اللازم، فيدعون أبناءهم يفعلون ما يشاؤون من دون أن يقوموا بتأديبهم.

3 ـ الجهل، وهو قد يكون جهلاً بوقوع الجريمة، أو جهلاً بالذين ارتكبوا الجريمة.

وطبعاً في هذه الحالات لن يستطيع ـ الفرد أو الدولة ـ أن يقوما بأيّ إجراء مضاد.

أمّا الله سبحانه وتعالى فلا تقف أمامه هذه الحواجز ـ كما تشرحه لنا هاتان الآيتان ـ فهو:

1 ـ العزيز، أي: القويّ الغالب الذي لا يعجزه شيء.

2 ـ ذو انتقام، فهو ينتقم من المتمرّدين والظالمين، وليس رحمة مطلقة، كما يتصوّره البعض أنّه «أرحم الراحمين في موضع العفو والرحمة» ولكنّه ـ أيضاً ـ «أشد المعاقبين في موضع النكال والنقمة» ـ كما جاء في دعاء الافتتاح ـ.

3 ـ وهو مطلّع على كلّ شيء، ولا يمكن أن يفلت شيء من علمه: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ}.

إذن، فليحذر الكفّار وليستعدّوا لذلك اليوم الرهيب؛ حيث ينتظر الذين كفروا بآيات الله عذاب شديد.

ـ 6 ـ

يقول القرآن الكريم: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ *تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ *لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ}(9).

في النظرة العابرة قد يبدو وجود فجوة بين الآيتين الأُوليين اللّتين تتحدثان عن سلطة الله، وبين الآية الأخيرة التي تنهى المؤمنين عن اتّخاذ الكفار أولياء وأنصاراً. ولكنّ الواقع: أنّ الارتباط بين هذه الآيات قويّ جداً، ولتوضيح هذا الارتباط نذكر ما يلي: هنالك بعض المؤمنين ـ من ضعاف الإيمان ـ يمدون الجسور بينهم وبين الجهات المضادة، ويقيمون معها علاقات متينة، وذلك يعود إلى أنّ هؤلاء يتصورون أنّ التحالف مع هذه الجهات سوف يمنحهم بعض المكاسب الدينية التي يلهثون وراءها.

ولمواجهة هذا الطراز يؤكّد القرآن الكريم أنّ الله سبحانه هو المتصرف في الكون وهو المتصرف في الحياة.

إنّ كل شيء يرتبط بإرادة الله: فالمُلك، والعزّة، والرزق، والامتيازات الدنيوية الأُخرى.. كلّها بيد الله تعالى، وليست بيد أي واحد من المخلوقين.

إذن، فما بال هؤلاء يبحثون عن هذه الأُمور عند غير الله؟!.

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

..................................... 

(1) راجع ـ للمزيد من التفاصيل ـ الفصل الثاني من هذا الكتاب: (الفهم الشمولي للقرآن).

(2) آل عمران: 195.

(3) آل عمران: 39.

(4) قال في الصافي 1: 260: «مصدّقاً بكلمة من الله يعني عيسى. وسيّداً: يسود قومه ويفوقهم. وحصوراً: مبالغاً في حصر النفس عن الشهوات والملاهي، روي أنه مر في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للَّعب خلقت، وعن الصادق (عليه السلام): «هو الذي لا يأتي النساء». وربّما يقال أن تفسير الحصور بعدم الزواج هو من باب المصداق.

(5) آل عمران: 33-34.

(6) قال في الصافي 1: 257: («والله سميع» بأقوال الناس «عليم» بأعمالهم، فيصطفي من كان مستقيم القول والعمل»).

(7) طه: 15-16.

(8) الأعراف: 4-5.

(9) آل عمران: 26-28.

اضف تعليق