q
بناء الدولة العراقية بعد عام 2003 يجب ان يتم التعامل مع المجتمع على اساس مجتمع واحد موحد في الاهداف والتوجهات والحقوق والواجبات لا على اساس مكونات هذا المجتمع او تركيبته الفسيفسائية التي هي حالة طبيعية في أي مجتمع، لذا فما يحصل منذ عام 2003 والى...
أ.م.د. اسامة مرتضى باقر السعيدي/كلية العلوم السياسية - جامعة النهرين

(بحث مقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية)

المقدمة

إن أبرز التحديات التي تواجه الامن المجتمعي هي ازمة عدم الاندماج كظاهرة تعاني منها العديد من مجتمعات دول العالم وخاصة عالم الجنوب، وتتولد ازمة عدم الاندماج بفعل عوامل ومتغيرات داخلية وخارجية، وغالباً ما تكون التركيبة الاجتماعية للنسيج الاجتماعي هو جزء الاساس من مركب المشكلة مضافا اليها متغيرات خارجية تغذي حالة عدم الاستقرار الداخلي. لذا جاءت الورقة للبحث في التركيبة الاجتماعية للمجتمع العراقي واسباب او مدخلات عدم الاستقرار الاجتماعي التي شهدها العراق بعد عام 2003 واعمال العنف. ومن ثم التوصل للمعالجات التي يمكن ان تتحقق حالة من الاندماج والتكامل الوطني وفق مبدأ المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات كثقافة يمكن ان تصهر مختلف الانتماءات الثانوية.

لذا فإن البحث جاء لتأكيد فرضية مفادها: ان بناء الدولة العراقية بعد عام 2003 يجب ان يتم التعامل مع المجتمع على اساس مجتمع واحد موحد في الاهداف والتوجهات والحقوق والواجبات لا على اساس مكونات هذا المجتمع او تركيبته الفسيفسائية التي هي حالة طبيعية في أي مجتمع، لذا فما يحصل منذ عام 2003 والى الآن هو التعامل مع مكونات المجتمع العراقي وانتماءاته الثانوية والفرعية وهذا ما يفضي الى مزيد من حالة الانقسام والتشرذم الامر الذي انعكس سلباً ليس فقط على الامن المجتمعي وحده بل على الاداء المؤسسي للوزارات الحكومية ولتصبح تلك الحالة حالة مرضية مزمنة ممكن ان تهدد مستقبل وجود الدولة ككل وكذلك وحدة العراق. هذا لا يلغي ان هناك مدخلات ايجابية عديدة يمكن ان تساهم في تحقيق الاستقرار وبناء مجتمع متجانس قائم على اساس البناء الديمقراطي السليم بعد ان عاش فترة الدكتاتورية المقيتة طوال المرحلة الماضية ولمعالجة تلك الفرضية سيتضمن البحث.

- واقع التعايش السلمي في المجتمع العراقي.

- الازمات التي واجهت المجتمع العراقي بعد نيسان/ 2003.

- مدخلات بناء الاندماج الثقافي وتحقيق الوحدة الوطنية في العراق.

- مستقبل التعايش السلمي وتحقيق التجانس الثقافي في العراق.

- آليات مواجهة واحتواء افكار التطرف والتكفير.

أولا:- التعايش السلمي في العراق:

انطلاقا واتساقا مع فرضية البحث فانه سوف لن يتم التطرق الى النسب واعداد المكونات داخل المجتمع سعيا من قبل الباحث للتوصل الى خطاب عام مشترك.

يتكون المجتمع العراقي من نسيج اجتماعي تتعدد فيه المكونات العراقية الدينية والقومية والطائفية حيث يصنف المجتمع العراقي من اكثر المجتمعات فسيفسائية من حيث اعداد تلك الجماعات وتشابكها وتداخلها، رغم هذا التنوع الا ان تلك التعددية تعايشت على اختلاف الانظمة السياسية المتعاقبة ورغم معاناة مكوناته من سياسة الحزب الواحد والتضيق على الحريات والثقافات خوفا من ان يقوض ذلك السلطة الحاكمة او يكون مدعاه للتغيير، لذا كانت عمليات القتل والتهجير والدمج والسلخ لقرى وعوائل وقوميات ومذاهب وتصفية لرموز وفق الخارطة الاجتماعية التي تؤمن بها النخب الحاكمة بصرف النظر عن واقع وحاجات وتطلعات تلك الجماعات والتي غالباً ما تكون لها مطالب اقتصادية واجتماعية اكثر من كونها مطالب سياسية، ذلك لأنها لا تمتلك القوة والقدرة على التغيير السياسي آنذاك مقارنة بما تمتلكه الاجهزة القمعية للسلطة.

اذن لم يحدث ان شهد المجتمع العراقي صراعاً بينياً على غرار ما يحصل في التصارع القومي او القبائلي في بعض الدول الافريقية او دول امريكا اللاتينية وانما كان هناك قمعاً عمودياً من النظام السياسي على المجتمع بمختلف فئاته وتنوعه.(1)

ثانياً:- الأزمات التي واجهت المجتمع العراقي بعد نيسان/ 2003:

ان من اولى الازمات التي واجهت المجتمع العراقي هو انهيار السلطة الحاكمة بكل ما تمثله من مؤسسات وثقافة كانت ساندة آنذاك، ومن ثم الذي كان يملك السلطة لم يعد يملكها واضحى مطلوباً جنائياً واجتماعياً والذي كان في المعارضة ومطلوب من قبل السلطة الحاكمة اضحى هو من يملك بزمام القرار والسلطة والاشكالية، ان هذا التحول لم يتم عبر مراحل او تنازل الاول للثاني طواعية وانما جاء دفعة واحدة ويفعل مؤثر خارجي ادى الى تغيير موازين القوى. فكان اول قرار للحاكم المدني آنذاك (بول بريمر) هو اجتثاث البعث من المؤسسات والدوائر الحكومية وفي ظل غياب احكام (العدالة الانتقالية) بدأت اعمال الانتقام والقتل الفردي للأشخاص الذين كانوا جزءاً من المنظومة السابقة الامر الذي بدأ يغذي لعناصر العداء والانتقام كل طرف من الطرف الآخر. كل ذلك وسط وجود لأطراف خارجية بدأت بتغذية روح الفرقة والتفتيت والتصارع، سواء اكانت اطرافا اقليمية او دولية افضى ذلك الى انحدار المجتمع العراقي الى مرحلة وحالة من اللاتعايش وهيمنة اجواء الشك والربية وعدم اطمئنان المكونات القومية والعرقية والدينية لبعضها للبعض الاخر وتحديداً مع اول بذرة للسلطة بعد عام 2003 وهي مجلس الحكم كانت مبنية على اساس مكونات المجتمع العراقي وتقسيماته المتفرعة لا على اساس الاتجاهات السياسية لتلك التجمعات والاحزاب.(2)

ان الحرب الطائفية التي حصلت هذا اذا سلمنا بتسميتها بهذا المسمى كانت حصيلة لعوامل متباينة ادت لحدوثها من ابرزها هو حالة التحول المفاجئة لمفاتيح السلطة والحكم ومن ثم اضحى هناك من يحاول ان يثأر لخسارته للنفوذ ومقاليد الثروة وان كان على قناعه ان المعطيات لم ولن تعود الى سابق عهدها.

ثالثاً:- مدخلات بناء الاندماج الثقافي وتحقيق الوحدة الوطنية بالعراق:

اثبتت التجارب بالدليل القاطع فشل الانظمة البوليسية والمخابراتية في بناء مجتمع متكاتف مندمج ومتفق في الرؤى والاهداف.

بل على العكس ان تلك الانظمة تعزز من التعصب الاثني والعرقي والانتماءات الثانوية كرد فعل عكسي لحالة القهر المفروضة والتي تحاول تطويع الجميع لمصالحها، وبعد عام 2007 وجد العراقيون انه لا جدوى من استمرار حالة الاقتتال والعنف والعنف المضاد الى مزيد من القتل وعدم الاستقرار وتعطيل لعملية التنمية والتطور السياسي والاقتصادي والخدمي.

لذا فان مدخلات التعايش السلمي تتمثل ببناء السلام والوئام الوطنيتين والتعايش وقبول التنوع والتسامح واعادة بناء المواطن من الداخل واشاعة روح المواطنة وحب الوطن.(3)

ان عملية بناء السلم الاهلي تلتزم تجاوز كل المعوقات التي تعيق بناء تلك المنظومة عبر تجاوز الموروث الدكتاتوري القديم وتغليب الهوية الوطنية السياسية والمدنية العراقية على الهويات السياسية غير المدنية الفرعية (القومية، العنصرية، الدينية، الطائفية، الاجتماعية العشائرية)

ايضاً لا مناص من ان العمل السياسي يساهم بشكل واضح في بناء السلم الاهلي عبر المصارحة والمصالحة واعتماد مبدأ (العدالة الانتقالية) ومنع استخدام السلاح والعنف (استحصال الحقوق والقصاص من المذنبين خارج مظلة القضاء(4)

خامساً:- مستقبل التعايش السلمي وتحقيق التجانس الثقافي العراقي:

اننا كعراقيين ننظر اليوم الى بناء نمط يوحد الانتماءات ويصهر الولاءات في منظومة ثقافية موحدة، وهذا لم ولن يأتي الا من خلال المثقفين والمؤسسات الثقافية، فلن يتعالى الفرد ويتجاوز انتماءاته الثانوية والعرقية لصالح الانتماء الوطني الأسمى الا عندما يحمل فكراً متطورا معبراً عن حالة التطلع الانساني، وان يتعاطى مع الوطن بوصفه الحاضنة للجميع.

بيد ان لا يمكن بناء اي اتجاه من اتجاهات التجانس الاجتماعي الا على اساس سياسي متمثل بالبرامج والسياسات العاملة بتلك المبادئ مرتكزين على الحد الادنى من الثقافة للفرد العراقي تمكنه من التعاطي مع مفاهيم الحوار ونبذ العنف والتسامح وقبول الآخر.

فلا يمكن الجزم بإن هناك مأزقاً طائفياً سيستمر في العراق لأن استمراره معناه انتفاء لوجود مكون ثقافي واجتماعي وسياسي موحد ومن ثم اعلان التشرذم السياسي والاجتماعي، فمن الخيال تصور ان هناك اجماعاً سياسياً او مكوناً اجتماعياً موحداً ولكن المنطقي ان هناك تجانساً ثقافياً مقبولاً يمكن التعويل عليه لتجاوز الازمات والكوارث السياسية والاقتصادية ولعل تجارب البلدان في هذا الجانب خير دليل.

سادسا:- آليات مواجهة واحتواء افكار التطرف والكفير:

لما كانت المشاكل والاختلالات التي يعاني منها المجتمع العراقي هي مشاكل مركبة ومتجذرة فهي تحتاج الى معالجات واليات على مستويات مختلفة وخطط انية ومستقبلية واعتمادا على اداء مؤسسي متناسق وأبرز تلك المؤسسات التي يمكن ان تكون ارتكاز لأي استراتيجية او برنامج مطبق هي:

1- المؤسسة التربوية: المقصود بالمؤسسة التربوية مجموعة القواعد والاسس والانظمة التربوية وفلسفة المناهج ملحقا بها البناء التنظيمي للهيكل من مدارس ومعاهد وجامعات، والتربية هي ما تقوم به المؤسسة لطفل او شاب لإكسابه صفات وعادات فكرية ويدوية وخلق الميول.

2- المؤسسة القانونية: هي منظومة القواعد القانونية والقضائية لأجل ضبط المجتمع والحفاظ على تطبيق القانون ولكن غالبا ما تكون هذه المؤسسة اداة قمع وقهر للمجتمع مما يؤدي الى حالة من التمرد ضد الانظمة والقوانين بسبب حالات الاجحاف التي ممكن ان تحصل لذا عدالة الاجهزة القضائية والتنفيذية للجيش والشرطة لخلق وتنشئة جيل مؤمن بعدالة القوانين المشرعة والمنفذة.

3- المؤسسة الدينية: يقصد بالمؤسسة الدينية الاسس والقواعد القدسية واساليب العبادة واسس السلوك الديني والتي تنظم حياة الافراد بين بعضهم البعض وبين الفرد والسلطة وبين الانسان والخالق سبحانه وتعالى وتمارس السلطة الدينية عبر هياكل مؤسسية مختلفة مثل دور العبادة والمراجع الدينية والكتب والمؤلفات التي تساهم في خلق وعي للأفراد على المستويات كافة.

4- المؤسسات الاقتصادية: هي المتمثلة بوسائل الانتاج والتوزيع والاستهلاك والملكية وان اساس رقي الشعوب يكون باستقرار النظام الاقتصادي وتحقيق نسب عالية من متوسط الدخل القومي للفرد حيث مع تزايد نصيب دخل الفرد من الدخل القومي تتزايد روح الانتماء والاخلاص للوطن، ومع تبني الدول لاقتصاد السوق والانفتاح ودخول الشركات المتعددة الجنسية يؤدي الى غياب منظومة اقتصادية وطنية تضمن للمواطن متطلبات الحد الادنى للحياة لذا وحسب ما اخذت به الكثير من الدول اتباعه هو تدخل الحكومة في فرض سياسات حماية الافراد.

5- مؤسسات المجتمع المدني: اخذت تمارس متزايدةً بعد نيسان /2003، لكن للأسف فان هذا الدور هو مسيس لصالح احزاب وجهات واجندة سياسية اكثر من كونها مؤسسات قطاعية تعنى بالموضوع الذي انشأت من اجله خدمة لتطلعات مجتمع موحد.

6- المؤسسات الاعلامية

الخاتمة

ان الانسحاب العسكري الامريكي من العراق وتراجع النفوذ الاقليمي يسهمان بالضرورة الى تراجع عناصر عدم الاستقرار الداخلي وتعزيز حالة التلاحم والتوحد وتجاوز التجربة الماضية لكن كل هذا مرهون بالإرادة السياسية والوعي الجماهيري في إنضاج نموذج ثقافي عراقي متفرد.

ان استنهاض قيم التسامح والتعايش وقبول الاخر بتجاوز الانتماءات الفرعية هي انماط يجب ان تشيع في المجتمع العراقي وعلى مستوى النخب السياسية المتصدية للعمل السياسي.

ان ما يحتاجه العراق اليوم قبل اعادة بناء المؤسسات والبنى التحتية هو اعادة بناء المواطن لأنه هو جوهر العملية التنموية واساسها ولا يمكن تصور نتيجة صحيحة لاستقرار الوضع الامني او تراجع معدلات الفساد او اداء مؤسساتياً حكومياً متوازنا ما لم يكن هناك مواطن له اهلية التعاطي والتفاعل مع المنظومات والقيم الاقتصادية والتعليمية والسياسية وبعكس ذلك ستكون الديمقراطية في العراق ما هي الا آلية روتينية لأسلوب تقاسم السلطة وسط مجتمع مفكك مجزء متناحر سرعان ما يفضي الى انشطاره الى فئات وجماعات ينقصها الولاء والاخلاص ولعل ما يذكر ذلك ان رموز البلد الوطنية والثقافية هي مؤقتة فالعلم العراقي مؤقت، والنشيد الوطني مؤقت وهما سرعان ما سيتغيران عاجلاً أم اجلاً مما يعني حدوث توقفات في الادراك الجماعي لتلك الرموز وتعطل الولاء العام لمرحلة وغيرها من آليات تدمير الشواخص الوطنية وهي تؤدي بالضرورة الى تفكيك اواصر التلاحم الوطني وثقافة اللامنتمي.

.............................................
(1) راجع: عواد أحمد صالح: التعايش في مجتمعات الاختلاف ليس ممكناً بل ضرورياً، الحوار المتمدن في كتاب عراق الصراع والمصالحة، دار الشروق للطباعة، بغداد، 2007. ص57.
(2) انظر: مجموعة باحثين: ديناميكيات النزاع في العراق، معهد الدراسات الاستراتيجية العراق. 2007. ص ص (100- 101).
(3) سعد سلوم: ((المواطنة والتعايش افاق بناء السلام وحدود التأثير المتبادل))، من تناسب مفهوم المواطنة محاولة التحول من... الى المواطنة الشخصاتية الى المواطنة، مؤسسة مدارك/ بغداد/ 258 ص.. (23- 28)
(4) د. عامر حسن فياض: سرديات العقل وشقاء التحول الديمقراطي في العراق المعاصر، مطابع جريدة المصباح، بغداد، 2007.

اضف تعليق