للاعتدال السياسي علاقة قوية بالهوية الوطنية لأي دولة من الدول، فقد يكون عاملا مهما في بناءها وصيانتها، وفي الوقت نفسه قد يكون سببا من اسباب تمزيقها واضعافها. وبقدر تعلق الامر بالعراق الذي هو محور بحثنا فسيتم تناول جدلية العلاقة ما بين الاعتدال السياسي والهوية الوطنية العراقية...
بقلم: د. سعدي ابراهيم حسين/مركز الدراسات الاستراتيجية-جامعة كربلاء
(بحث مقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية)
المقدمة:
يعني الاعتدال السياسي من ضمن ما يعنيه عدم التطرف في تطبيق البرامج السياسية، اما الهوية الوطنية فلها معاني كثيرة لعل من اهمها، هو انها: العناصر المادية والمعنوية التي يتميز بها شعب من الشعوب عن الشعوب الاخرى، وتكون دالة عليه، وتعمل الدولة على رعايتها وتبنيها على انها علامة دالة عليها.
وللاعتدال السياسي علاقة قوية بالهوية الوطنية لأي دولة من الدول، فقد يكون عاملا مهما في بناءها وصيانتها، وفي الوقت نفسه قد يكون سببا من اسباب تمزيقها واضعافها.
وبقدر تعلق الامر بالعراق الذي هو محور بحثنا فسيتم تناول جدلية العلاقة ما بين الاعتدال السياسي والهوية الوطنية العراقية عبر التالي:
الاشكالية:
تتمحور الاشكالية الاساسية لهذا البحث حول الاجابة عن الاسئلة الاتية:
ما هي جدلية العلاقة ما بين الاعتدال السياسي والهوية الوطنية العراقية بعد عام 2003؟ هل هي علاقة طردية ام عكسية؟ بمعنى هل تزداد الهوية الوطنية العراقية قوة كلما كانت القوى السياسية العراقية معتدلة في توجهاتها السياسية وادائها السياسي، ام ان العكس هو الصحيح؟
وهذه الاشكالية تثير في ذهن الباحث تساؤلات بحثية اخرى، ومنها الاتي:
1- هل كانت القوى السياسية العراقية معتدلة في ادائها السياسي بعد عام 2003؟
2- كيف كانت اوضاع الهوية الوطنية العراقية بعد عام 2003؟
3- ما هي انعكاسات الاداء السياسي للقوى السياسية العراقية على الهوية الوطنية؟
الفرضية:
يفترض الباحث ان علاقة الاعتدال السياسي بالهوية الوطنية العراقية هي علاقة طردية، بمعنى كلما كان اداء القوى السياسية العراقية معتدلا كلما كانت انعكاسات ذلك الاعتدال عليها ايجابية، والعكس صحيح ايضا، اي كلما كان اداء القوى السياسية العراقية غير معتدل كلما كانت انعكاسات ذلك سلبية على الهوية الوطنية.
منهج البحث:
انجز هذا البحث بالاعتماد على منهج التحليل النظمي الذي يفترض وجود مدخلات معينة (الاعتدال او عدم الاعتدال السياسي) ادت الى مخرجات معينة (قوة الهوية الوطنية العراقية او ازمتها)، واذا لم يتم تغيير المدخلات فلن تتغير المخرجات.
اهداف البحث:
للبحث العديد من الاهداف التي يمكن ان نوضحها من خلال الاتي:
اولا: التعرف على طبيعة اداء القوى السياسية في العراق بعد عام 2003، هل كان معتدلا ام لا.
ثانيا: تشخيص بعض نقاط الخلل التي اعترت وتعتري عمل القوى السياسية في العراق.
ثالثا: التعرف على الانعكاسات الخطيرة التي يتركها اداء القوى السياسية العراقية على الهوية الوطنية العراقية.
رابعا: توجيه رسالة الى القوى السياسية العراقية والى جميع ابناء الشعب العراقي مفادها:
في حالة اثبت البحث بان اداء القوى السياسية غير معتدل، وفي حالة عدم تحسين تلك القوى لأدائها، فأن ذلك يعني بأن مستقبل العراق ووحدته الوطنية ستكون غير مضمونة لآن الاستمرار بأزمة الهوية الوطنية يعني في نهاية الامر تقسيم البلاد.
اهمية البحث:
للبحث اهمية كبيرة، كونه يأتي في الوقت الذي تمكن فيه العراق من ان يستعيد مساحة كبيرة من اراضيه من سيطرة الجماعات المسلحة، وامامه فرصة حقيقية لإعادة بناء الهوية الوطنية العراقية على اسس متينة قد يكون الاعتدال في الاداء السياسي من اهمها.
حدود البحث:
للبحث حدود زمانية ومكانية وموضوعية من الممكن التعرف عليها عبر الاتي:
1 - الحدود المكانية:
تنحصر الحدود المكانية لهذا البحث داخل حدود الدولة العراقية، والباحث غير معنى بالاعتدال السياسي او الهوية الوطنية في الدول الاخرى.
2 - الحدود الموضوعية:
يتناول البحث العلاقة ما بين متغيرين اساسين: الاعتدال السياسي والهوية الوطنية العراقية، وليس معنيا بتناول مواضيع اخرى.
3 - الحدود الزمانية:
تنحصر المدة الزمنية للبحث، بالسنوات الممتدة من 2003 وحتى 2017، والبحث غير معني بالسنوات التي سبقت هذا التاريخ او التي تليه، الا بقدر تعلق الامر بإعطاء توقعات مستقبلية.
الهيكلية:
يتكون البحث من ثلاثة مطالب، اذ خصص الاول منها للبحث في الاعتدال السياسي بعد عام 2003، بينما سيتم تناول واقع الهوية الوطنية العراقية بعد هذا التاريخ في المطلب الثاني منها، في حين ان المطلب الثالث سيكون مخصصا لمناقشة الانعكاسات التي يتركها الاعتدال السياسي من عدمه على الهوية الوطنية العراقية.
واخيرا، انتهى البحث بالاستنتاجات والخاتمة والتوصيات ثم قائمة المصادر.
المطلب الاول:
توجهات القوى السياسية في العراق بعد عام 2003
انهار النظام السياسي العراقي في اذار من عام 2003، بفعل التدخل الخارجي المتمثل بالاحتلال الامريكي المباشر للبلاد، وبانهيار ذلك النظام انهارت معه بقية المؤسسات السياسية وعلى رأسها حزب البعث الذي كان الحزب الاوحد في البلاد (1).
ان زوال النظام السياسي السابق وتشتت اركانه قد فتح المجال لظهور قوى سياسية عراقية جديدة جاءت كضرورة لسد الفراغ واشغاله، فظهرت الى السطح عشرات الاحزاب والتنظيمات السياسية الاخرى، تحت مسميات وعناوين مختلفة، هذه القوى اصبحت فيما بعد هي النخبة السياسية الحاكمة في البلاد (2).
وبالرغم من تعدديتها الظاهرية المبالغ فيها، الا انها من حيث التوجهات السياسية لا تخرج عن ثلاثة مسارات، من الممكن تقسيمها الى الاتي:
اولا - توجهات سياسية تستند الى الموروث الديني الاسلامي:
ومن القوى السياسية المهمة التي تستند الى الفكر الاسلامي: حزب الدعوة الاسلامية والمجلس الاعلى الاسلامي، والتيار الصدري والحزب الاسلامي، وتنظيمات سياسية اخرى.
وهذه القوى تشترك في كونها تنادي بنصرة المذاهب الاسلامية الشيعية والسنية، واسقاط الطروحات الفقهية والشرعية على النظام السياسي العراقي بعد عام 2003، بمعنى ان القوى الاسلامية الشيعية تسعى لأن يكون للفكر السياسي الشيعي شيء من الحظوة في النظام السياسي، والقوة السياسية السنية تسعى لفعل الشيء نفسه(3).
ثانيا - توجهات سياسية تستند الى الاصل القومي:
يأتي في طليعة القوى السياسية التي تستند في برنامجها السياسي الى الاصل القومي، التنظيمات السياسية العراقية الكردية، وكذلك بعض التنظيمات العربية القومية، مثل تنظيم الوفاق الوطني بقيادة اياد علاوي.
وهذه القوى تجعل من تحقيق اهدافها القومية المتمثلة بنصرة القومية الكردية بالنسبة للقوى السياسية الكردية، وبنصرة القومية العربية بالنسبة للقوى السياسية العربية، وبنصرة القوميات الاخرى بالنسبة لبقية القوى السياسية(4).
ثالثا - توجهات سياسية مدنية علمانية:
وهذه القوى انما تتمثل بالتنظيمات السياسية العلمانية، مثل الحزب الشيوعي والمؤتمر الوطني العراقي، واحزاب علمانية وليبرالية اخرى (5).
اما عن التوجهات السياسية للقوى المدنية العلمانية، فهي تقوم على اسس ديمقراطية حديثة مستمدة من التجربة السياسية الغربية في الحكم، وتستبعد الفكر الديني، بل تنظر الى الحكم على انه مستغل ومتحرر من الدين (6).
هذا بالنسبة لأهم القوى السياسية العراقية بعد عام 2003، واهم توجهاتها، ولكي تجد هذه القوى فرصة لتطبيق تلك التوجهات فقد حاولت تفصيل النظام السياسي بحسب توجهاتها من خلال الديمقراطية التوافقية التي اخذت تعرف بالمحاصصة السياسية، التي تقتضي بأن يكون لكل مكون مجتمعي موطئ قدم في النظام السياسي عبر القوى السياسية التي تمثله (7).
وبما ان الشعب العراقي فيه تعددية دينية ومذهبية فقد جعلت هذه القوى نفسها ممثلة عن تلك التعددية، القوى السياسية الشيعية تمثل الشيعة، والقوى السياسية السنية تمثل السنة، والقوى السياسية الكردية تمثل الاكراد، ولا يختلف الحال مع بقية المكونات، ونجد هذا الكلام كما في تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي الذي يعتبر المؤسسة السياسية الاولى التي تتشكل في العراق بعد عام 2003، كما في الجدول ادناه: (8)
جدول رقم (1) تشكيلة مجلس الحكم الانتقالي:
القومية |
العدد |
الاسماء |
الشيعة العرب |
13 |
ابراهيم الجعفري، احمد شياع ابراك، احمد الجلبي، اياد علاوي، حميد مجيد موسى، عبد الكريم المحمداوي، عقيلة الهاشمي، موفق الربيعي، وائل عبد اللطيف، رجاء حبيب الخزاعي، عز الدين سليم، محمد بحر العلوم، عبد العزيز الحكيم. |
السنة العرب |
5 |
عدنان الباججي، غازي عجيل الياور، محسن عبد الحميد، نصير كامل الجادرجي، سمير الصميدعي. |
الاكراد |
5 |
جلال الطلباني، مسعود البرزاني، محمود عثمان، صلاح الدين بهاء الدين، دار انور الدين. |
التركمان |
1 |
صن كول جاجوك |
المسيحيون |
1 |
يونادم يوسف كنه |
ولم تنحصر مسالة المحاصصة، وتمثيل الهويات الفرعية على هذه المؤسسة فحسب بل انها انسحبت الى بقية المؤسسات الاخرى، الاقتصادية والتربوية والامنية والاجتماعية، وتحت مسميات متعددة مثل التوازن السياسي، او المشاركة السياسية، او منع التهميش والاقصاء (9).
اذن، ان توجهات القوى السياسية العراقية بعد عام 2003، من الممكن ان نصفها بالتقليدية، باستثناء القوى غير السياسية المدنية، وهذه القوى التقليدية تستمد برامجها السياسية من الموروث الديني، ومن الانتماء العراقي لقومية من القوميات، على الاخص الكردية منها.
المطلب الثاني
الهوية الوطنية العراقية بعد عام 2003
تتكون اغلب دول العالم من تعدديات مجتمعية مختلفة: قومية ودينية ومذهبية، ولا توجد دولة تقوم على اساس وجود مكون واحد، وينطبق هذا الكلام على الدول المتقدمة وغير المتقدمة على حد سواء، الا ان الاختلاف بينها هو ان الدول المتقدمة قد قطعت مراحل طويلة في سبيل دمج هذه التعدديات وتوحيدها تحت خيمة هوية وطنية واحدة عبر سلسلة من الاليات: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، فأصبح لديها هوية وطنية واضحة ومستقرة ويوجد اتفاق كبير حولها من قبل كل المكونات التي تعيش فيها (10).
اما في الدول غير المتقدمة فأن الوضع يختلف بشكل كبير، اذ ما زالت هذه الدول تعيش حالة من عدم وضوح هويتها الوطنية، اذا ما قلنا بأنها غير موجودة اصلا، وهذا الخلل ادى الى ان تعاني بقية القطاعات فيها من ظاهرة عدم الاستقرار ايضا، سواء الناحية السياسية او الاقتصادية او المجتمعية (11).
العراق بما انه من الدول غير المتقدمة، فهو الاخر لا زال يعاني من عدم وضوح هويته الوطنية، فبالرغم من محاولات الانظمة العراقية التي سبقت عام 2003، من ترصين هذه الهوية وجمع التعددية المجتمعية تحت لوائها، الا ان الكثير من الاعمدة التي اقامتها فوقها قد انهارت على عجل بعد عام 2003، وبالتحديد فور سقوط النظام السياسي السابق، وسرعان ما عاد المجتمع العراقي الى مرحلة ما قبل تشكيل الدولة، اي مرحلة ما قبل عام 1921، عبارة عن مجموعة قوميات واديان ومذاهب تعيش في اقليم جغرافي معين. يشعر اغلبها بالانتماء للتاريخ والدين واللغة والعادات والتقاليد، اي الانتماء للهويات الفرعية أكثر من الانتماء للهوية الوطنية العراقية (12).
لقد كانت الهوية الوطنية العراقية في مرحلة ما قبل عام 2003، تقوم على اساس الرابطة العربية القومية، دون التركيز على الدين الاسلامي، وان العراق ما هو الا جزء بسيط من محيط اوسع هو المحيط العربي، الذي تطمح كل دولة عربية ان يأت اليوم الذي تذوب فيه مع الدول الاخرى في دولة عربية كبرى (13).
ولكن هذه الهوية كانت مرتبطة بشكل اساس بالنظام السياسي القائم وبالتالي انهارت بانهياره، كونها لم تكن مبنية على اسس علمية حقيقية، او انها قد تعرضت لضغط خارجي يفوق مقدرتها على الصمود (14).
واصبح النظام السياسي الجديد امام محنة الاجابة عن عدة اسئلة، ومنها:
1- هل العراق دولة عربية، هويتها الوطنية القومية العربية، كما كان عليه الحال منذ عام 1963 وحتى عام 2003؟
2- هل العراق دولة الامة العراقية، كما كان النظام الملكي يسعى لتحقيقها؟ هل ان العراق دولة اسلامية، هويته الوطنية مستمدة من الاسلام؟ واذا كان كذلك فهل هي سنية ام شيعية؟
3- هل ان العراق دولة علمانية، مثل تركيا والولايات المتحدة الامريكية وغيرها من الدول؟
ان الاجابة على الاسئلة اعلاه لم يكن بالأمر السهل، خاصة بعد ان اعطى الدستور العراقي الدائم ومن قبله قانون ادارة الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية اجابات متعددة حولها، ففي المادة (1) من الدستور الدائم جاء ما نصه بأن "جمهورية العراق دولة مستقلة ذات سيادة، نظام الحكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي اتحادي" (15) وفي المادة رقم (3) منه، جاء بان "العراق بلد متعدد القوميات والاديان والمذاهب، وهو عضو مؤسس وفعال في جامعة الدول العربية، وملتزم بميثاقها، وهو جزء من العالم الاسلامي" (16).
ان اية قراءة تحليلية لهذه المواد الدستورية وغيرها، تؤكد لنا من ان العراق لا يوجد اتفاق ولا تحديد لهويته الوطنية، فلا هو بالدولة العربية، ولا هو بالدولة الاسلامية، ولا هو بالدولة العلمانية بل هو خليط من كل هذه الاشياء.
يضاف الى ذلك ان الظروف غير المستقرة التي عاشها العراق بعد عام 2003، وعلى الاخص عدم الاستقرار السياسي والامني، قد اثرت سلبا على الهوية العراقية الوطنية، وجعلتها تضعف امام الهويات الفرعية التي وجدت الدعم والتأييد من جهات داخلية، وخارجية: اقليمية ودولية، فإقليما أصبح العراق ساحة للصراع الاقليمي الطائفي، ودوليا صار العراق ساحة لتصفية الحسابات مع الولايات المتحدة الامريكية وافشال مشروعها في المنطقة (17).
وعلى هذا الاساس نستطيع القول من ان الهوية الوطنية العراقية بعد عام 2003، اصبحت تعيش في حالة ازمة حقيقية، وعدم وضوح في تحديد ماهيتها وفحواها، والاسباب التي وقفت وراء ذلك كثيرة ذكرنا البعض منها في هذا المطلب وسنذكر البعض الاخر في المطلب التالي.
المطلب الثالث
انعكاسات الاعتدال / عدم الاعتدال السياسي على الهوية الوطنية العراقية
ظهرت في العراق بعد عام 2003 كما أشرنا سابقا مجموعة كبيرة من القوى السياسية، ذات توجهات متعددة، تمكن اغلبها من ان يكون جزء من العمل السياسي العراقي، واختلفت مراكز كل تنظيم سياسي في الهيكل الهرمي للنظام ومؤسساته الرسمية، بحسب نتائج الانتخابات التي جرت لعدة مرات (18).
اما عن اداء هذه القوى بعد ان وصلت الى السلطة (19)، فقد حاول كل طرف ان يطبق توجهاته اثناء العمل، بمعنى ان القوى السياسية التي تستند الى الدين او بالأحرى الى المذاهب تمسكت بمعتقداتها الدينية على الصعيد السياسي، والقوى السياسية القومية تمسكت هي الاخرى بتوجهاتها المستمدة من اصلها العرقي، وكذلك الحال مع بقية القوى السياسية، بل ان البعض منها قد تطرف في مسألة تطبيق هذه التوجهات، وحولها من التطرف الديني او القومي الى التطرف في العمل السياسي، فوقعت البلاد في ازمات سياسية متتالية، على الاخص مسألة شل حركة السلطة التشريعية بسبب المناكفات السياسية التي اخرت وعطلت الكثير من المشاريع، باستثناء التنظيمات العلمانية والمدنية كونها لم تستطع احتلال مكانة متميزة في النظام السياسي عقب عام 2003، وبقيت مشاركتها ضعيفة، مقارنة بالقوى السياسية الدينية والقومية (20).
اما من حيث الانعكاسات التي تركها اداء القوى السياسية على الهوية الوطنية العراقية، فمن الممكن القول من ان التوجهات التي انطلقت منها تلك القوى وتطرف بعضها وعدم اعتداله في تطبيقها، قد جعلها تنحصر في اطار الهويات العراقية الفرعية: المذهبية والقومية، وليس الهوية الوطنية العراقية، وهذا التركيز ادى بالنتيجة الى ان ينقسم المجتمع العراقي الى هو الاخر بحسب قواه السياسية، فأصبح الشيعي العراقي لا ينتخب الا السياسي الشيعي، والسني العراقي لا ينتخب الا السياسي السني، والعراقي الكردي هو الاخر يفعل الشيء نفسه، وكذلك الحال مع بقية المكونات المجتمعية (21).
ان تمسك القوى السياسية بالهويات الفرعية على الصعيد السياسي وعدم الاعتدال في تطبيق التوجهات السياسية المستمدة منها، قد انعكس سلبا على الهوية الوطنية العراقية، وهذا التشتت في التوجهات السياسية وليس الاختلاف في البرامج السياسية قد شتت الهوية الوطنية العراقية وعمق من الفرقة المجتمعية في حين كان المفترض من هذه القوى ان تعمل على رصها والوقوف على المشتركات بين التي يتميز بها المجتمع العراقي.
الاستنتاجات
خرج هذا البحث بالاستنتاجات الاتية:
اولا - شهد العراق بعد عام 2003، ظهور قوى سياسية متعددة، دينية وقومية ومدنية، وبالرغم من ان جميعها قد تنافس بغية الوصول الى السلطة السياسية في البلاد، الا ان الغلبة في النهاية كانت من حصة التيار الديني ومن ثم القومي ممثلا بالأحزاب الكردية، في حين ان التيار المدني لم يحصد النتائج التي كان ينتظرها وبقي صوته منخفضا مقارنة مع الاصوات الاخرى.
ثانيا - ان التعددية السياسية لم يصحبها تعددية في البرامج السياسية، بل ان هناك ثلاثة تيارات احدها لم يكن له دور مؤثر كما اشرنا اعلاه وهو التيار المدني، والبقية هما التيار الديني والتيار القومي الكردي.
ثالثا - بالنسبة للهوية الوطنية العراقية، اصبحت تعاني من غياب الرؤية، فبعد ان كان العراق بلد عربي قومي قبل عام 2003، اختلفت بوصلته بعده، ولكن دون ان يحدد الاتجاه، فلا هو دولة اسلامية ولا هو دولة عربية قومية ولا هو دولة الامة العراقية، هذه الضبابية تضافرت مع ظروف اخرى داخلية وخارجية تسببت في النهاية في ازمة هوية حادة داخل البلاد.
رابعا - فيما يخص انعكاسات الاداء السياسي للقوى السياسية على الهوية الوطنية العراقية، فإن تمسك (تطرف) البعض من القوى السياسية بتوجهاتها المستندة الى الهويات الفرعية قد اثر سلبا على الهوية الوطنية العراقية، كونه قد حول التعددية المجتمعية من الحالة الاعتيادية الى الحالة السلبية، اذ انقسم الرأي العام العراقي بحسب توجهات قواه السياسية بمعنى اخر انقادت هذه القوى للهويات الفرعية ولم تفعل العكس، اي لم تقد الهويات الفرعية نحو الهوية الوطنية.
على الاخص بعد ان لجأت هذه القوى الى قاعدة المحاصصة السياسية، على اعتبار ان كل مكون سياسي يمثل مكون مجتمعي وبما ان لكل مكون مجتمعي حصة في النظام السياسي، فبالتالي لابد من ان يكون هناك تنظيمات سياسية تدافع عن حقوقه، هذه القوى لا تتوانى عن التطرف احيانا وتبتعد عن الاعتدال في سبيل تحقيق مصالح الهوية الفرعية التي تمثلها.
الخاتمة
واضح مما تقدم من ان القوى السياسية العراقية لم تكن معتدلة في ادائها السياسي، وذلك لانطلاقها من توجهات سياسية تستند الى الهويات الفرعية: المذهبية والقومية، الامر الذي اثر سلبا على عملها وجعلها تتحول من الدفاع عن وطن، الى الدفاع عن مصالح المذهب المعين والقومية المعينة، وهذه الحالة ادت في النهاية الى تشجيع الانقسام المجتمعي الذي بات هو الاخر مفصلا بحسب تقسيمات قواه السياسية، وفي النتيجة كانت الهوية الوطنية العراقية هي المتضرر الاكبر من ذلك.
التوصيات
من التوصيات التي يحاول البحث ان يضعها بين يدي المهتمين بالشأن العراقي، وفي مقدمتهم صناع القرار، الاتي:
اولا - من الضروري ان يدرك الرأي العام العراق ان هناك خلل كبير يعتري هويته الوطنية، وانه مسؤول عن هذا الخلل كونه قد اضاع العديد من الفرص التي اتاحتها العملية الانتخابية، كان من المفترض ان يختار الاشخاص الذي يأخذوه بتجاه الهوية الوطنية وليس باتجاه الهويات الفرعية، ولازالت هذه الفرصة متاحة امامه، وبمعنى ادق لا يمكن تغيير احوله الا اذا انتخب على اساس البرنامج السياسي وليس على اساس التوجه المذهبي او القومي للمرشحين، خاصة وان الانتخابات على الابواب.
ثانيا - من المهم جدا، ان تدرك النخبة السياسية الحاكمة حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، وبالتالي فإن استمرار ادائها السياسي بنفس الطريقة التي درجت عليها بعد عام 2003، سيكون له اثار سلبية على العراق ومستقبله، كون التمسك بالبرامج السياسية المعتمدة على الهويات الفرعية سيزيد من الهوة ما بين العراقيين وسيجعل البلاد تواجه خطر التقسيم والشرذمة.
ثالثا - هناك عدة اليات من الممكن اتباعها لتحقيق الاعتدال السياسي، واصلاح الضرر الذي مس الهوية الوطنية العراقية بعد عام 2003، ومنها الآتي:
1- ان تظهر قوى سياسية جديدة تتبنى برامج سياسية بعيدة عن الهويات الفرعية، بل تهدف لبناء دولة عراقية قوية في المستقبل.
2- ان تعيد القوى السياسية الحالية النظر في توجهاتها، بحيث تكون عامة، مثل توجهات القوى السياسية في الدول المتقدمة لا تنظر الى المجتمع عبر تقسيماته التقليدية، بل تنظر اليه على انه كتلة واحدة يجب نقليها من واقع سيء الى افضل.
3- ان لا تتطرف القوى السياسية العراقية، في مسألة تطبيق توجهاتها، بل ان يكون المقياس هو المصلحة الوطنية العليا، وعندما تتعارض المصالح الحزبية مع المصلحة الوطنية، يتم التراجع عن المصالح الحزبية لصالح المصلحة الوطنية.
اضف تعليق