q
آراء وافكار - دراسات

التعايش السلمي عند رسول الله محمد (ص)

والاقتداء به في الوقت الحاضر

عرف دين الإسلام التعايش السلمي والاعتدال مع الآخر منذ انطلاقته الأولى في مكة المكرمة عندما كان المسلمون أقلية، وعرفه في المدينة المنورة عندما أصبحوا أكثرية، ولهم كيان مستقل، وبعبارة أخرى فإن تجربة الإسلام في التعايش السلمي تمتد منذ أن جاء الإسلام إلى يومنا هذا، ولهذا...
بقلم: م.د. ميثاق موسى عيسى، كلية الاثار-جامعة ذي قار

(بحث مقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية)

المقدمة

لقد عرف دين الإسلام التعايش السلمي والاعتدال مع الآخر منذ انطلاقته الأولى في مكة المكرمة عندما كان المسلمون أقلية، وعرفه في المدينة المنورة عندما أصبحوا أكثرية، ولهم كيان مستقل، وبعبارة أخرى فإن تجربة الإسلام في التعايش السلمي تمتد منذ أن جاء الإسلام إلى يومنا هذا، ولهذا فهي طويلة ومتنوعة.

وهذه التجربة تتعدد وتتنوع بحسب طبيعة الآخر، وبحسب طبيعة البيئة التي ترعرعت فيها مثل أن تكون بيئة أغلبية إسلامية أو أقلية إسلامية او بيئة من اهل الكتاب او من غيرهم أو بيئة دينية او غير دينية.

فقد بين البحث الوضع السياسي والأمني المتعلق بتشكيل الدولة الإسلامية على يد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)، مدخلا واضحا في تحديد حجم العلاقات بين المسلمين وغيرهم سواء اليهود الذين يشكلون الخطر الاساس كونهم يعيشون بين ظهراني المسلمين، وطالما تربصوا بالإسلام وبالرسول (صلى الله عليه واله وسلم) الدوائر، اما الخطر الاخر هو مشركو قريش العدو الأول للإسلام، ومن هنا كان التفكير الجدي للتعايش السلمي اذ صرح الخطاب القرآني بعالمية الإسلام، وأن الرحــــمة المتمثلة بشخص الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) المهداة الى العالم أجمع، وليس للعرب فحسب، قــــــال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (سورة الانبياء، الآية 107).

لذا فقد جاءت طائفة من الآيات التي تُعّبر عن البعد الإنساني لتلك الشريعة السمحاء، والتي تدفع اعلاء مبدأ التعايش السلمي كأسلوب يخطه الإسلام ويعتمده في التعامل مع الذين لا يعتنقون أو يعتقدون بالإسلام، قال سبحانه وتعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه) (سورة التوبة، الآية 6)، وفي نص آخر قال جل جلاله: (وقولوا للناس حسنا) (سورة البقرة، الآية 83)، وغيرها من الآيات التي تكشف عن طبيعة العلاقة مع غير المسلمين.

ان النموذج الامثل للتعايش السلمي والاعتدال للرسول الكريم (صلى الله عليه واله وسلم) وجب الاقتداء به في وقتنا الحاضر والتركيز على المبادئ التي خطها في الامور الدينية والسياسية على حد سواء.

نظام التعايش السلمي عند رسول الله (ص)

قبل البحث بنظام التعايش السلمي لدى رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) يجب علينا ان نُعرف التسامح والتعايش السلمي ومعرفة معناه اللغوي والاصطلاحي وكذلك لبيان اهميته لدى الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم).

التسامح لغة: هو مصدر مزيد فيه من السمح والسماح والسموح والسماحة والسموحة، فسمَحَ يسمُحُ أي صار من أهل الجود والسماحة، فهو سمح وسميح ومِسمَحٌ ومِسماحٌ، وأسمحَ الرجل بمعنى سمُحَ وسامحه في الأمر وبالأمر: سأهله ولاينه ووافقه على مطلوبة وكذا سامحه: عفا عنه. وتسمَّح وتسامح في كذا: تساهل فيه، وبيع السماح في الفقه ما كان فيه تساهل في بخس الثمن. أمّا التسامح فكما يبدو من دلالة صيغته فهو المساهلة والجود من الطرفين اذ يتبادلان الجود والسهولة بعضهما البعض، ولا يكون التسامح تسامحاّ إلا إذا صارت الملاينة من الطرفين سجيةً.

التسامح اصطلاحا: مفردة لها صلة واضحة بعلوم التربية والأخلاق والسياسة ويكثر استعمالها في المؤتمرات الاقليمية والدولية وعلى المنابر. (1)

التعايش السلمي لغة: تعبير مركب واضح المعنى، إذ التعايش يعني الاشتراك في العيش وبهذا يكون التعايش السلمي بمعنى العيش المشترك بين شخصين فأكثر على اساس الود والحب والوئام وسيراً على المعنى اللغوي تكون كلمة السلمي وصفاً مؤكداً لطبيعة التعايش ومثله: أمس الدابر. وعلى فرض وجود نوع من التعايش غير السلمي يكون الوصف مقيّدا يخرج به نوع التعايش غير السلمي.

اما اصطلاحا: فهو نبذ الحرب كوسيلة لتسوية الخلافات الدولية واعتماد المفاوضات والتفاهم المتبادل واحترام السيادة للدول الأخرى والإقرار بالتكافؤ والمنفعة المتبادلة كأساس في العلاقات الدولية. (2)

لقد كانت المؤاخاة التي نادى بها الإسلام على لسان الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) تمثيلا حيا وميدانيا لأسمى معاني التعايش في الدين الإسلامي، وذلك حين قدم رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) مدينة يثرب التي كان يسكنها الاقوام اليهودية الى جنب القبائل العربية التي كانت من أشهرها قبيلة الأوس وقبيلة الــــخزرج اللتان كانتا تتقاسمان صراعاً مريراً وحروب طويلة دامت لسنوات منها يوم بعاث ويوم الــــــــدرك وغيرها، واذا وقعت الحرب بينهما كان اليهود ينقسمون الى فريقين كل فريق يذهب مع قبيلة ((خرجت بنو قينقاع مع الخزرج، وخرجت بنو النضير وقريظة مــــع الأوس يظاهر كل فريق حلفاءه على إخوانه حتى يتسافكوا دمائهم بينهم وبأيديهم))، فألف بينــــــهما نبي الله نبي الرحمة محمد (صلى الله عليه واله وسلم)، وانصهرا معا وشكّلا حيين من الأنصار الذين استقبلوا المهاجرين القادمين من مكة المكرمة هربا من بطش عتاتها.

والحق لقد نقل لنا التأريخ صورا من التسامح والتآخي والاعتدال والتقارب بين المهاجرين والأنصار في المدينة المنورة وما بعدها مما قلّ إن لم يكن انعدم نظيره في تاريخ البشرية، إذ كانوا يتوارثون بالإسلام دون النسب، اذ رُوي عن الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) آخى بين المهاجرين والأنصار عندما وصل الى المدينة المنورة فكان يرث المهاجري من الأنصاري، والأنصاري من المهاجري ولا يرث وارثه الذي كان بمكة وإن كان مسلما لقول رب العباد: بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱلَّذِينَ ءَاوَواْ وَّنَصَرُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ وَإِنِ ٱسْتَنصَرُوكُمْ فِي ٱلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ ٱلنَّصْرُ إِلاَّ عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) صدق الله العظيم(3).

لقد تعددت ألوان التعايش السلمي الذي كان يتمتع به الناس في ظل النظام الالهي نظام الإسلام العادل الذي كان يطبقه رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ليشمل النصارى واليهود وغيرهم ممن كان يجمعهم المكان والزمان الواحد هؤلاء العناصر من القبائل والطوائف والمذاهب والأديان والأحرار والعبيد والموالي والأعراب. يعملون بالتجارة والصناعة والزراعة والرعي والصيد والاحتطاب، وكانوا يسكنون على هيأة قرى أو حصون تحيط بها البساتين والأراضي المزروعة يدخلون حصونهم بعد حلول الظلام يحصنون منازلهم خوفاً من الغزو او غارة بعض القبائل، هذا المجتمع النبوي الذي حكمه رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) هو مجتمع متنوع بين الدين الإسلامي وبين دين أهل الكتاب وبين المشركين وبين القبائل المتعصبة، مجتمع ألف رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بينهم، وضع لهم نظاماً تحت شرعية الله.

ولقد دلت آيات قرآنية عديدة عن الموقف العقائدي والسياسي لهذه الطوائف اتجاه دين الإسلام، قال عز وجل في كتابه الحكيم: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ)(4)، بيْد أنه سبحانه وتعالى يؤكد في آية أخرى أن النصارى أقرب الى المسلمين من اليهود والمشركين، قال تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ)(5)، من هنا نستدل أن المناوئين للدين الاسلامي على قسمين، قسم معلن للحرب والعداء اتجاه الوجـــــــود الإسلامي وهم اليهود والمشركون والآخر أقرب مودة وهم النصارى، لكن مبدأ التعايش والاعتدال السلمي الذي أقره الشرع الحنيف وعمل ببنوده الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) ساعد علـــــى كبح جماح دعاة الحرب والعداء والتخفيف من عدائهم.

ففي الجانب الاجتماعي اكد النبي (صلى الله عليه واله وسلم) في الوقت الذي عقد فيه مواثيق وعهود الأخوة بين المسلمـين سعى الى عقْد مواثيق المعاهدة بين المسلمين وغير المسلمين، وذلك حين وضع الصحيفة التي تضمنت الخطوات الأولى لدستور المدينة المنورة الذي سعى من ورائه تنظيم الشؤون الاجتماعية لساكن المدينة المنورة من المسلمين وغير المسلمين مـــــن خلال إبرام عقود المؤاخاة بين المسلمين أنفسهم (الانصار والمهاجرين)، وعقود الموادعة بين المسلمين واليهود (6)، إذ أن من جملة ما ورد في تلك الصحيفة: ((وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف، وأن ليهود بني الحارث ما ليهود بني عوف.......... الخ))(7)، ولا يخفي ما في ذلك من المسالمة الجلية التي توضح الجانب الإنساني للدين الاسلامي الحنيف.

وقد كانت السيرة النبوية لسيد الكائنات محمد (صلى الله عليه واله وسلم) زاخرة بأنواع التــــعامل السلمي مع اليهود وغيرهم، حيث يذكر الطبراني(ت360هـ) أن الرسول الكريم محمد (صلى الله عليه واله وسلم): ((كان إذا عاد يهوديا أو نصرانيا قال: كيف أنت؟ فيقول: صالح، فيقول النبي (صلى الله عليه واله وسلم): جعلك صالحا))، وربما دفع هذا الامر الذي دأب عليه الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) بعض اليهود لأن يُسلموا ويدخلون في دين الله دين الاسلام علي يده الكريمة، كما حصل مع ذلك الغلام الذي عاده (صلى الله عليه واله وسلم) ((فقعد عند رأسه فقال له: أسلم، فنظر الى أبيه وهو عند رأسه، فقال: أطع أبا القاسم فأسلم، فقام النبي صلى الله عليه واله وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار))، واذا كان حاله مع جاره اليهودي بهذه الصورة فلم تكن حاله (صلى الله عليه واله وسلم) بأقل سوء مع جاره عقبة بن أبي معيط الذي كان يأتي بالفرث فيطرحه على باب الرسول(صلى الله عليه واله وسلم)، ولم يكن يقابله الرسول الاعظم محمد (صلى الله عليه واله وسلم) إلا بأكرم خلق.(8)

ان القاعدة العامة الاسلامية عند رسول الله محمد (صلى الله عليه واله وسلم) والعلاقة مع الآخر من الثوابت التشريعية قاعدة أن أصل العلاقة مع الآخر هو السلم ودعوة الند للند إلى الإسلام(9) أي تقتصر الدعوة الى الاسلام على أسلوب الإقناع والتفاهم دون إكراه او غصب حيث يقول تعالى في كتابه الكريم: (لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).(10) فالدين الإسلامي يدعو إلى المحبة والخير الشامل في الدنيا والآخرة لجميع المخلوقات المكلفة من الإنس والجن على حد سواء، وحتى من يرفض دين الإسلام طريقا للنجاة في الآخرة دون أن يعادي دين الإسلام أو يظلم المسلمين ولا يساند من يظلمهم فإن دين الإسلام يجعل حسن المعاملة هي القاعدة في التعامل معه.(11) قال رب العالمين في كتابه الكريم:(لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (12).

ويحث دين الإسلام على التعاون والمودة مع غير المسلمين لتحقيق المصالح المشتركة في الحياة الدنيا ما لم يكن لهذا التعاون أثر سلبي على سعادة المسلم في الحياة الأخرة فخالق الكون سبحانه وتعالى جعل المودة والتعاون بين الناس ميلا فطريا، كما في الآية القرآنية (يَأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُواْ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (13) وبعبارة أخرى فإن دين الإسلام يحث جميع المخلوقات المكلفة من الإنس والجن على التعاون لتحقيق السلام في الدنيا والآخرة، والسلام كما هو معروف لدينا معناه إتاحة الفرصة لكل فرد راشد ليعمل على إسعاد نفسه من دون تدخل من الآخرين إلا أن يحاولوا مساعدته من دون إكراه للوصول الى السعادة التي ينشدها أو التي هي أفضل منها.

وقد اعترف الدين الإسلامي بتمام حرية الإنسان في الإيمان بالله، وفى تقدير الرسالة التي يؤمن بها، وضمن له من جهة ثانية حريته في التعامل مع أقرانه فحكم ببطلان او عدم صحة كل عقد بين طرفين شاب الإكراه أحدهما أو عقد على الخديعة لواحد منهما أو كليهما كما نرى ذلك في عقد الزواج الذي هو عقد شخصي بحت، إلا أننا نرى ما وصل إليه الدين الإسلامي في تدبير الحرية الشخصية للإنسان فله أن يعايش الناس بأخلاقهم، ويضمر في جنحه الإيمان بالله، فروى عن وهب بن منبه أنه قال له رجل: ”إني هممت بالعزلة، فما ترى؟ قال: لا تفعل، بك إلى الناس حاجة، وبالناس إليك حاجة، ولكن كن صموتاً نطوقاً، أصم سميعاً، أعمى بصيراً فإنه لابد للناس منك، ولابد لك منهم." (14) لذا فان البعد التربوي للدين الإسلامي ما يكفل للفرد ذاته وللمجتمع توازنه ويشيع روح المودة والتسامح والتراحم والتعاون كما في قول رب الجلالة: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ * أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ).(15)

وهذا يعني أن التعامل الأمثل والافضل في حالات التعدد والتنوع هو إما بالصبر على الشدة والبلاء حين يكون المؤمنون في مستوى الأقلية العددية وإما بالمرحمة والمودة بمن هو دونهم في مستوى الحياة والسلطة لا أن يضيقوا ويسدّوا عليه ابواب الحياة والحرية (16)، بل عليهم المعاملة بالحسنى وبالإحسان وبالمودة قال رب العباد في كتابه الكريم (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ ۖ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ)(17)، وهذا مجال رحب وواسع لمن يريد أن يتحلّى بحلل الإيمان والتقوى ويجسّد في حياته أخلاق القرآن الكريم فالمطلوب منه أن يحسن الى كل يتيم وكل مسكين وابن السبيل والفقراء دون أن يدخل في تشخيص هويته وعقيدته الدينية أو يفتش عن انتمائه السياسي أو المذهبي. (18)

كما ويوجد عدد من الروايات للتعايش السلمي والتسامح لأهل بيت النبي محمد (صلى الله عليه واله وسلم) فهناك رواية جميلة جداً نقلت عن معاوية بن أبي وهب أحد أصحاب الإمام الصادق عليه السلام: "عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن علي بن الحكم، عن معاوية بن وهب قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ فقال تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فو الله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم" (19)، في بعض الروايات يأتي أصحاب الأئمة عليهم السلام يسألونهم وقد تكون بعض هذه الأسئلة شخصية، ولكن في كثيرٍ من الحالات الأسئلة تلمّح إلى مسألة أو أرضية اجتماعية خاصة ابتلوا بها وهم يسترشدون أئمة أهل البيت من خلالها أو المسألة طرحت في فقه أهل السنة وأرادوا من الأئمة أن يبنوا لهم تكليفهم تجاهها، وتحديد رأي أهل البيت في المسألة.

إن السؤال الذي طرحه معاوية بن وهب هو نفس المشكلة التي نواجهها اليوم أيضاً، وهي كيفية التعامل والعلاقات مع الأخوة من المذاهب الأخرى في كثير من المجتمعات الإسلامية التي يعيش فيها السنة والشيعة جنباً إلى جنب. هذا العيش المشترك واقعٌ لا يمكن غض الطرف عنه في كثيرٍ من البلدان كسورية ولبنان ومنطقة الشام عامةً الغنية بالتنوع الطائفي والديني والمذهبي منذ القدم.(20) لقد أوضح لنا الإمام الحسن العسكري عليه السلام في وصيته وظيفتنا نحن الشيعة وبينها لنا بشكل واضح ذلك بقوله:" إِتَّقُوا اللّهَ وَكُونُوا زَيْنًا وَلا تَكُونُوا شَيْنًا، جُرُّوا إِلَيْنا كُلَّ مَوَدَّة وَادْفَعُوا عَنّا كُلَّ قَبيح، فَإِنَّهُ ما قيلَ فينا مِنْ حَسَن فَنَحْنُ أَهْلُهُ وَما قيلَ فينا مِنْ سُوء فَما نَحْنُ كَذلِكَ " (21).

اما بعض الآيات القرآنية التي نزلت على الحبيب محمد (صلى الله عليه واله وسلم) التي تخص التعايش السلمي ومن الآيات التي تجسد هذا النوع قوله تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)(22) فلما أنزلت هذا الآية قال رسول الله محمد(صلى الله عليه واله وسلم): ما هذا يا جبريل؟ قال إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك وتصل من قطعك كما ان الله اوجب التسامح بين الزوجين في الأسرة الواحدة وهذا النوع من التسامح من الأمور الواجبة شرعاً للوفاء بما التزمه الزوجان من المعاشرة الطيبة والألفة والمودة والتراحم والتودد، ويدل عليه قوله عز وجل: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (23)، أي طيِّبوا أقوالكم لهن وحسِّنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم كما تحب ذلك منها.

ومن أهم المرتكزات التعايش والتسامح طهارة النفس في قوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا*فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)(24)، وقوله تعالى: (يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)(25)، ولا ننسى في هذا المجال دعوة رب العالمين لكظم الغيظ (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(26)، وكظم الغيظ كما جاء في الكشاف هو أن يمسك على ما في نفسه منه بالصبر ولا يظهر له اثراَ (27).

وفي الختام ان رأي الرسول عليه الصلاة والسلام كان نابعا من شعوره بالمسؤولية تجاه الإسلام ومستقبله والمسلمين جميعاً وسلامتهم فجاء دين الإسلام عموما ليس لقطع الروابط الوراثية والمكتسبة أو أن يفت في عضدها بل جاء ليعزز حقوق الروابط البشرية الوراثية منها والمكتسبة مثل رابطة الإنسانية، ورابطة الرحم، ورابطة الأبوة، ورابطة الوطن الواحد، ورابطة الجوار، وحقوق الضيف.

الاستنتاجات:

1. إن سنة وسيرة النبي واله الاطهار (صلى الله عليهم) كانت مثالا حيا وانعكاسا جليا، لمفاهيم التواصل الإنساني ومبادئه الذي يتعدى حدود الدين، ويتـــجاوز أسوار العقيدة، لتشكل قدوة يُحتذى بها وأسوة يُقتدى بها.

2. ان رسول الرحمة محمد (صلى الله عليه واله وسلم) إفساح المجال للآخرين لبيان معتقداتهم وأفكارهم ولو كانت هذه المعتقدات والأفكار على الضد والنقيض من معتقداتنا وأفكارنا.

3. النظر بعين الاحترام والتقدير لآراء الآخرين على أساس أن الحقيقة اعظم وأوسع بكثير من أن يحيط بها شخص أو أشخاص معيّنون.

4. ان النصارى والمسلمون واليهود والوثنيون كلهم يؤمنون بسلامة أديانهم ولهذا لا بد من التسامح الشامل مادام هذا الخلاف بين الناس في الأديان والمذاهب قائماً. ولهذا ينبغي ان تكفل حرية العقيدة لكل إنسان، ولا يحد هذه الحرية شيء غير الإضرار بالآخرين.

5. ما أكثر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية التي تدعو الى ترسيخ روح التسامح والأريحية بين بني الإنسان والتي إن تمت تربية الأجيال عليها في المدارس والمعاهد وعبر القنوات الإعلامية المختلفة وعلى وفق خطط علمية وتربوية مدروسة ستحقق للشعوب والأمم ما تريد لنفسها من رخاء وسؤدد في أوطانها ومجتمعاتها الحافلة بالتعدد والتنوع والتي جاءت الشريعة الإسلامية السمحة من أجل إعمارها والرقي بها في مدارج الفلاح والنجاح.

..............................
(1) ابراهيم مصطفى وآخرون، المعجم الوسيط، قام بإخراجه:،(اسطنبول دار الدعوة، 1989).ص 33
(2) فؤاد أفرام البستاني، منجد الطلاب،، ط4 (بيروت، المكتبة الشرقية، 1986)، 47.
(3) القران الكريم، سورة الانفال، الآية 72.
(4) القران الكريم، سورة البقرة، الآية 120.
(5) القران الكريم، سورة المائدة، الآية 82.
(6) عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر الطبعة الأولى بيروت لبنان 1984، ص 59
(7) http://www.ssrcaw.org/ar/print.art.asp?aid=511647&ac=1
(8) الشيخ راشد الغنوشي، الحريات العامة في الدولة الإسلامية،، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 1 بيروت 1993
(9) صيني، حقيقة العلاقة ص 6- 54.
(10) القران الكريم، سورة البقرة:الآية 256.
(11) عباس الجزاري، مفهوم التعايش في الإسلام، مطبوعات الإيسيكو 1996م ؛ صيني، حقيقة العلاقة ص 55-88.
(12) القران الكريم، سورة الممتحنة: الآية 8- 9.
(13) القران الكريم، سورة الحجرات: الآية 13.
(14) الفروق ومنع الترادف الحكيم الترمذي، تحقيق د / محمد إبراهيم الجيوشي، مطبعة النهار للطبع والنشر القاهرة 1998م، وينظر موسوعة المصطلحات الإسلامية، ص393.
(15) القران الكريم، سورة البلد، الآية 17 - 18.
(16) أحمد أبو الوفا، أصول القانون الدولي والعلاقات الدولية عند الإمام الشيباني،، دار النهضة العربية، القاهرة،1998، ص 85.
(17) القران الكريم، سورة البقرة، الآية 215.
(18) عبد الكريم زيدان، اصول الدعوة، طبعة بغداد العراق، 1975، ص 38.
(19) أصول الكافي: كتاب العشرة.. باب ما يجب من المعاشرة. صفحة 636
(20) سورحمن هدايات، التعايش السلمي بين المسلمين وغيرهم داخل دولة واحدة:، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى 2001.
(21) تحف العقول: 487 ـ 488
(22) القران الكريم، سورة الاعراف، الآية 199.
(23) القران الكريم، سورة النساء، الآية 19.
(24) القران الكريم، سورة الشمس، الآية 7 ــ 10.
(25) القران الكريم، سورة الشعراء، الآية 88 ـــ 89.
(26) القران الكريم، سورة ال عمران، الآية 133 ــ 134.
(27) صبحي الصالح، النظم الإسلامية، دار العلم للملايين بيروت الطبعة الرابعة 1978، ص 78.

اضف تعليق