تنطلق إشكالية البحث الرئيسة من معضلة عدم المعرفة أو الجهل بالآخر أو السلوك وفق المتخيل عنه، ولذلك فإن التعارف يمكنه أن يعد واحداً من مشروعات الخلاص في واقع العلاقات الدولية وبما يضمنه من مسميات الحضارة والهويات الكبرى، وبالضد تماماً مما جاء مع نظريات الصدام والصراع...
بقلم: د. علي عبود المحمداوي/في كلية العلوم السياسية - جامعة بغداد
(بحث مقدم الى (المؤتمر الوطني حول الاعتدال في الدين والسياسة) يومي 22 و23 اذار 2017، الذي عقد من قبل مؤسسة النبأ للثقافة والاعلام ومركز الدراسات الاستراتيجية في جامعة كربلاء ومركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية)
مدخل:
إنَّ مالا يدخل في حسبان حراس الحروب والإرهاب، أنَّ هنالك ما هو ماوراء الحاضر، وهو مستقبل "الجرحى المقدّر عليهم أن يظلوا مشوهين ومرضى وعاجزين، والأطفال المحكوم عليهم أنْ يكبروا دون آباء، المنذورون للحزن وللتمرد ولأحلام الانتقام. وفيما وراء الأرواح يوجد إطار العيش: أي المنازل بكل ما تراكم حولها مدة أعوام كإسقاطات للهوية خارج الذات. هناك الشوارع والطرقات التي تصلها، هناك البنايات والحقول والمشاهد الطبيعية وقد تحولت إلى أنقاض وإلى ارض بور، وفضاءات مكتسحة. كل ذلك وسواه الكثير من المكابدات التي يعيشها أفراد مجهولين، نقبل بأن نعدها أشياء بلا أهمية؛ عندما نختار بلوغ الهدف المرسوم بسرعة بواسطة الحرب بدلاً من بلوغه ببطء عن طريق المفاوضات والضغوط"(1).
إشكالية البحث:
تنطلق إشكالية البحث الرئيسة من معضلة عدم المعرفة أو الجهل بالآخر أو السلوك وفق المتخيل عنه، ولذلك فإن التعارف يمكنه أن يعد واحداً من مشروعات الخلاص في واقع العلاقات الدولية وبما يضمنه من مسميات الحضارة والهويات الكبرى، وبالضد تماماً مما جاء مع نظريات الصدام والصراع. فكل حضارة تشتكي من الحضارات الأخرى أنها لا تُعرف بالشكل الذي ينبغي، أولا تُعرف إلا من خلال بعض الظواهر العابرة والسطحية والمحدودة، الأمر الذي يؤكد أن هناك جهلاً متبادلاً بين الحضارات، هذا الجهل هو من أشد العوائق تأثيراً في عرقلة حوار الحضارات، ويكون سبباً في أي تصادم يحصل بين الحضارات، ورفع هذا الجهل بين الحضارات هو أحد أبعاد مقولة تعارف الحضارات، والذي ينبغي أنْ يشترك الجميع في رفعه، لمعرفة الآخر. (2)
المبحث الأول: في الحاجة إلى العقل التعارفيّ:
إنَّ مايقدمه العقل التعارفي الناقض لكل صلابة وقساوة التفكير الاقصائيّ الصِداميّ بإمكانه أن يصبح "مدخلاً في تطوير رؤيتنا إلى الغرب، وفي تصحيح العلاقة بين عالم الإسلام وعالم الغرب، وفي البعد الأول تقوم فكرة تعارف الحضارات على بناء المعرفة بالغرب، ونحن بأمس الحاجة لأن ننهض بحركة واسعة وشاملة ومعمقة للتعرف على الغرب، ولاسيما في أبعاده الفكرية والفلسفية والعلمية، وهي الأبعاد التي تمثل جوهر الحضارة الغربية، وفي البعد الثاني هناك مشكلة متبادلة بين العالمين من حيث تكوين الرؤية والصورة، بين عالم الإسلام الذي لا يقبل أن يصور بأنه عالم يسوده الجهل والتخلف، واضطهاد المرأة، ومعاداة العلم، وعدم التناغم مع الديمقراطية، وأنه لا يتقبل الحداثة، ولا يعترف بالآخر، كما هي الصورة المتشكلة عند الغرب، وبين عالم الغرب الذي لا يقبل أنْ يصور بأنه عالم يسوده تفشي الجريمة، والانحلال الأخلاقي، وتفكك العائلة، وأنه يعادي الدين، ولا يحترم الأخلاق، والخروج من هذا الجهل أو المأزق، أو من هذه الصورة النمطية، يمكن أن يتحقق عن طريق تعارف الحضارات من جديد بين عالم الإسلام وعالم الغرب، وهذا ما يدعو إليه الحكماء في العالمين الإسلاميّ والغربيّ"(3).
التعارف كمرحلة وسيطة وانتقاليّة:
يرى البعض أن نظرية (تعارف الحضارات) أكثر من كونها مرحلة وسيطة أو انتقاليّة، فهي وسيطة بمعنى أن على أساسها تتحدد مستويات ودرجات واتجاهات العلاقات ونظام التواصلات بين الناس، وبين المجموعات البشرية، وبين الحضارات، وهكذا أنماط وأشكال وصور هذه العلاقات والتواصلات، كما أن التعارف له من الفاعلية ما بإمكانه أن يجنب الحضارات مصير الصدام، لأن الناس - كما قال الإمام علي عليه السلام - أعداء ما جهلوا، وفي هذا المجال نستحضر من التاريخ الإسلامي الوسيط تجربة التحول العظيم الذي حصل عند المغول الذين بدأوا بغزو كان من نتائجه تدمير الحضارة الإسلامية والإطاحة بها، وممارسة أعلى درجات البربرية وهو السلوك الذي كان يتصف بالقسوة والعنف والتخريب، ولكنهم وبعد زمن من السيطرة والتواجد في المنطقة الإسلامية وبين المسلمين، انتهوا إلى اعتناق الإسلام، والتعارف هو الذي أحدث هذا المستوى من التحول في ذهنيات المغول، فالجهل قادهم إلى الحرب والتدمير، والتعارف قادهم إلى السلم والإيمان.
وهناك أيضاً نموذج آخر هو التحول الذي حصل عند الأوروبيين بعد الحروب الصليبية التي قادتهم إلى قناعة جديدة، هي ضرورة التعرف على الحضارة الإسلامية وعلى الشرق عموماً، الذي كان أكثر تقدماً وتحضراً ومدنية من الغرب، والقناعة التي حرضت الغرب على أن ينهض بأكبر وأعظم جهد بحثي في دراسة الإسلام والحضارة والشرق، وهو الجهد الذي عرف بحركة الاستشراق، وكان من المفترض لهذا الجهد أن يقود أوروبا إلى نوع من التفاهم وبناء علاقات جديدة بينها وبين الإسلام والعالم الإسلامي، لكن الذي حصل هو عكس الاتجاه تماماً، لأنَّ المعرفة التي نهض بها الغرب ارتبطت بدوافع وخلفيات ومصالح استعماريّة غربيّة، وهذا يعني أنَّ التعارف لم يكن أخلاقياً، وإنَّما كان توظيفيّاً ويخدم مصالح استعماريّة(4).
والهدف من وراء أطروحة تعارف الحضارات أن تستكمل الحضارات (اللاغربية)، أولاً وقبل كل شيء إمكاناتها، ومقوماتها الحضارية، حتى تكون مؤهلة لخوض حوار مع الغرب. وهنا تحديداً تأتي محاولة (تعارف الحضارات)، كمرحلة وسيطة وانتقالية ما بين الوضع الراهن وحوار الحضارات، ويرى إدريس هاني أن هذا الطرح بقدر ما يحمل في طياته من مضامين واقعية، فإنه يضع الإشكالية كلها على كاهل الحضارات الأخرى، نعم، لعل وضع الثقافات الأخرى، التي تمثل صوراً باهتة عن حضاراتها، غير مؤهلة لكي تسعى إلى تحقيق حلمها في ظل وضع عالمي تتحكم فيه إرادة رشحت لكبح جماح أي تطور يجري خارج ميدان اللعبة الاحتكارية الغربية، وإن حوار الحضارات، هي أطروحة ترجح مسؤولية الغرب، بما هو رائد التقدم الحضاريّ على النزول (إنسياً) إلى (الثقافات) الأخرى، في حين أن تعارف الحضارات هو ترجيح لمسؤولية الحضارات الأخرى على مسؤوليّة الغرب في حقيقة تعثر هذا الحوار(5).
وأرى أن التعارف هي حلقة وسيطة من جهة ومن جهة أخرى فهي منهج متكامل لنظرية في العلاقات الحضاريّة، فمن جهة الوساطة فهو (التعارف) يؤدي إلى نزع الجهل بالآخر ورسم صورة حقيقية مصاحبة للاعتراف به، تقود إلى مرحلة نجاح العلاقة معه والتعايش السلميّ Peaceful Coexistence وقبوله على أسس التسامح معه، ومن جهة المنهج فهي نظرية متكاملة - على الأساس الدينيّ الإسلامي القرآنيّ، تسعى إلى تأسيس أسلوب للتعامل مع الآخر اللاإسلامي عموماً ومن خلال منطلقات الاعتراف به والتعرف عليه وقبول التعايش معه والتعامل السلمي ونبذ الصدامات والصراعات التي من شأنها العنف والدماء والحروب، لكي يسود بذلك الأمن العالميّ.
المبحث الثاني: أهداف تعارف الحضارات:
من اجل دقة التنظير لأطروحة جديدة تقتضي تحديد المنطلقات والأهداف لها ومن حيث إنَّنا بيّنا أهم مرتكزات النظرية في سبيل تحقيقها يجدر بنا الإشارة إلى الأهداف المتوخاة من النظرية (تعارف الحضارات) وضبطاً لمسار التعارف يجب تحديد أهم تلك الأهداف والغايات التي يسعى لتحقيقها على وفق الرؤية الإسلامية القرآنية:
1- التقارب والتسامح Tolerance
"فالتعارف الإيجابي هو الذي يبذل فيه كل طرف أقصى جهوده للتعرف على ما يقربه من الطرف أو الأطراف الأخرى التي تشاركه التطلع نفسه، فيبحث القائمون بالتعارف والتحاور في ثقافاتهم وحضاراتهم عما يقرب بينهم من الأشواق والآمال، والانجذاب نحو كل ما هو إنساني معبر عن جوهر الإنسان وفطرته، فمن شأن البحث المخلص عن هذه الأسباب أن تمتد أرض الوفاق بين الحضارات، وتتشبع الإرادات بقابلية التجاوز والتسامح، وقد ضرب الإسلام - عبر تواصل حضارته مع الحضارات الكبرى في العالم - المثل الرائع في تجسيد هذا الهدف النبيل، وبفضل الروح العالية من التسامح تجاوز عتبة التقارب إلى احتضان أكثر ما هو مفيد في الثقافات الأخرى، وتمثله بعدئذ حضارة خالدة أنارت العالم في قرون ظلامه"(6).
2- التعايش السلمي Peaceful Coexistence
من شأن الهدف السابق توفير الأجواء المناسبة لتعايش الحضارات في سلام وأمن. والحقيقة أن هذا الهدف يتطلب تعميقاً بالغاً لفلسفة وأفكار السلام، وتفكيراً جاداً للخروج بالمسألة من حسابات ومصالح السياسيين والعسكريين، وأصحاب المنفعة من صناعة التسليح، وخدام نظريات الحرب وتفجير بؤر التوتر في العالم، إلى ساحات التوعية العامة واصطناع جماعات الضغط من دعاة السلام العالميّ العادل في كل حضارة بل في كل مجتمع، فتسود المجتمع الدولي ثقافة حضارية تمنح فكرة السلام صورتها الحقيقيّة، بأن تضمن وضعها في ذمة المبادئ، لا المصالح وحسابات مروجي الدمار ليثروا ويطغوا(7)، ولما سبق فإنَّ "الاعتراف بالآخر هو شرط قاعدة التعايش والتفاهم السلميّ، فالذي لا تعترف به، هو أيضاً ليس مستعداً أن يعترف بك، والمحصلة هو الخصام والتصادم والتنابذ"(8).
3- فك عقدة الهيمنة وتجاوز عقيدة الصراع
إذ انه"من العناصر المكينة التي بنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة، الصراع والهيمنة، فأنتجا كل أشكال الإذلال والاستعباد والحركة الاستعمارية، وترسنة الأرض والبحر والفضاء بالأسلحة المهلكة للحياة والأحياء، والجشع، وخلق أسوأ معادلة في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية الدولية، معادلة العالم الغني غنياً فاحشاً والعالم الفقير المتخلف"(9)، و ما يزال الصراع هو المحرك الأساس لسياسة الغرب وكبرى اتجاهاته ومؤسساته في العلاقات الدولية والنظرة إلى الآخر، وأفضل نموذج له السياسة الأمريكية القائمة على ضرورة خلق العدو - وإن لم يوجد - لشحذ الوجدان الجماعي المستمر، الذي يسمح للفرد بنعمة الحرية الشخصية والحركة الاقتصادية، والرفاه والعدل، مهدد دائماً بعدو ما يريد أن يقضي على ما يسمى (بنوعية حياتنا) Our Way Of Life أو أحياناً The American Way، والتهديدات الخارجية ومالها في دعم الهوية القومية الأمريكية وتوجيهها ضد الآخر العدو المفترض، هذا هو الثابت في سياسة الغرب (كما بيناه في بحثنا انفاً)، وكثير من أسس اتجاهاته الفلسفية والفكرية، يتطلب لتجاوزه - على المستوى الفكري ابتداء - لقاءات ومحاورات مستمرة بين النخب المفكرة لشتى الحضارات والمجتمعات المعاصرة، تراجع فيها الكثير من المفاهيم التي أصبحت من المسلمات في المنظومات الفكرية الغربية، والتخلي عن نزعة الاستئثار بتحديد المفاهيم، كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية والتطور والتنمية وغيرها(10).
4- معرفة الآخر على حقيقته وتصحيح الصورة المسبقة عنه
فكثيراً ما رسمت الحضارات صوراً نمطية لغيرها من الحضارات، فلا تنظر إليها إلا من خلال تلك الصور، وتخضع حسابات التعامل معها لمقتضاها، صحيح أن البحوث الجادة المنصفة والحيادية كثيراً - أيضاً - ما تكشف عن حقيقة الصورة الحضارية الصحيحة لحضارة ما، لكن تبقى سلطة تأثير وتوجيه الصور النمطية ومن ثمة تحديد السلوكيات مسبقاً هي المهيمنة.
لذلك فإن "إقبالاً مخلصاً على الدفع بمشروع تعارف الحضارات سيؤدي خدمة جليلة للإنسانية فيتعرف كل على صورة الآخر كما هي. وهذا التوجه تعليم رباني كريم لنا نحن المسلمين، إذ نحب أن يتعرف علينا الناس ونتعرف على الناس، فلدينا الكثير الذي نحب أن نقوله، وعلى هذا النحو يحمل الأمر بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، والالتقاء بيننا وبينهم على كلمة سواء، وقولنا للناس حسناً، وغيرها من التوجيهات الربانية الحكيمة، ويجدر بنا ملاحظة أن ديننا الذي أذن لنا بهذا الحوار والتعارف والجدل في مسائل الاعتقاد وفي غيرها من القضايا أولى بمثل هذا التناول والمقاربة، لاسيما وأن مصائر الناس في العاجلة تشترك في قضايا كثيرة تلح أكثر من أي وقت مضى على فك الاشتباك حولها"(11).
كما وانه ومن "النتائج المنتظرة لهذا السلوك الحضاريّ، أن يدفع إلى الأمام وبشكل إيجابيّ معالجة عقد الاستعلاء والحقد والتخلف واللاإنسانيّة، فمن مهام وأهداف التعارف الحضاريّ - إذن - ينبغي أنْ تكون محل عناية شديدة من جانب النخب المتعارفة والمتحاورة؛ الارتفاع بمستوى مجتمعات ما بعد الاستعمار المتخلفة إلى مستوى الحضارة، والارتفاع بمستوى الرجل المتحضر الملطخ بإثم الاستعمار إلى مستوى الإنسانية"(12)، ويقول المفكر الغربي هارللد موللر: "ينبغي أنْ نزيد من معرفتنا بثقافات = حضارات أخرى، فالمعرفة حول الإسلام أو الهندوسيّة أو البوذيّة تساوي صفراً من ناحية عمليّة... فالآخر الذي يعرف المرء عنه شيئاً يصبح أقل غرابة"(13)، ومثل هذا النص ينفعنا في دعم الاستجابة لنظرية التعارف على مستوى الفكر الغربيّ وقبوله لهكذا مقولات.
5- تشجيع فكرة الانتفاع المتبادل
من خيرات الأرض من خلال فكرة التعاون، فالرؤية الإسلامية لهذا الهدف تنطلق من عقيدة أن الله لم يخلق الأرض لنتنازع عليها ونسفك الدماء، بل خلقها لنعرف خيره ونشكره عليه، قال تعالى:(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (15: سورة الملك) وقد عبّر الفقه الإسلامي المعاصر عن هذه الغاية وهو يعرض أسس مبادئه وقيمه الإنسانية المقربة من أخيه الإنسان، فالتعارف؛ يجعل كل فريق ينتفع بخير ما عند الفريق الآخر، وتكون خيرات الأرض كلها لابن هذه الأرض وهو الإنسان، فإذا كانت الأرض مختلفة فيما تنتجه فالإنتاج كله للإنسانية كلها، ولا سبيل لذلك إلا بالتعاون والتعارف الإنسانيّ، وإنَّ مهام النخب المؤمنة بتعارف الحضارات أنْ تصب جهودها الفكريّة والعلميّة والإعلاميّة - وهي مجالات تحركاتها - إلى كشف هذه التزييفات للرأي العام الغربيّ الواقع تحت طائلة التضليل الإعلاميّ خاصة، واستغلال الأحداث التي تصنع الأوقات العالميّة كحادث 11 سبتمبر 2001 لتمرير خطابها، مع جهود أخرى موازية تتيحها مثل هذه الظروف النادرة والحرجة في تاريخ الغرب المعاصر، لضخ دم القيم الإنسانيّة الحقيقيّة في جسم العلاقات الدوليّة وعلاقات الحضارات فيما بينها.(14)
6- احترام الخصوصيات الحضاريّة
إنَّ الفرق بين حضارة وأخرى هو ما تمتلكه من خصوصيات ومميزات فكريّة وانتمائيّة، وهذه الخصوصيات يجب أن يستهدفها تعارف الحضارات بصورة إيجابية؛ فتحتل في جدول أعمال المتعارفين مكانة متميزة، يعرض كل فريق بدقة وعمق خصائص ومميزات حضارته وفلسفتها في الحياة ورؤيتها للقضايا الكبرى، سواء ما شغل منها الإنسان منذ القدم أو ما تبع تعقيدات الحضارة المعاصرة، كقضايا حقوق الإنسان، والحرية والديمقراطيّة وحماية البيئة، والسلم العالميّ، وقضايا العلاقات الاجتماعية، الأسرة ومشكلاتها، واستغلال الأرض بما يعود على الإنسانيّة كلها بالمنفعة.. الخ.
ويتبين الوزن الثقافيّ والحضاريّ لكل ثقافة وحضارة من زاوية إنسانيّة، مما يمكن لقيمة أساسية في تعارف الحضارات وهي احترام الثقافات المختلفة، والتعامل معها على أساس اعتبارها اجتهاداً إنسانياً لتطوير الإنسان، وتبقى مسألة الأخذ والترك منها محل اختيارات إنسانيّة - أيضاً - تقديرية تكيفها كل حضارة مع ما تراه متناسباً مع أوضاعها وقيمها ومرحلتها الحضاريّة، فتستنفر قواها الإبداعيّة في هذا الجو المتفاعل حضارياً لتطوير نفسها داخل نسقها الحضاريّ، وبعيداً عن مضار العزلة والتقوقع، فتخرج الحضارة الإنسانيّة من الأحاديّة الحضارية وهيمنة - النموذج الأرقى) و(النمط المتطور الوحيد) للتحضر والتقدم، ويعرف العالم تجربة التعددية الحضارية التي تزدهر فيها قوى الإنسان وقدراته الإبداعية، وتتخاطب الحضارات والثقافات بلغة المنافسة الشريفة، يطوى معها منطق الصراع والصدام والغلبة المبيدة والتبعية الذليلة.(15)
المبحث الثالث: تعارف الحضارات من النظرية إلى التطبيق:
في مقابل مجموعة من التساؤلات التي منها: أين يمكن أن تجد النظرية (تعارف الحضارات) نصيبها من التفعيل العمليّ و التطبيقيّ على أرض الواقع وفي صياغة أسس التعامل الحضاري والإنساني؟ وكيف يمكن لها أن تعالج ما تهدف إليه بفكرة التعارف؟ وما أدواتها للاتصال بالواقع الحقيقيّ للعالم والعلاقات التي تحكمه؟ وكيف يمكن أن نجعل من تعارف الحضارات منهجاً عمليّاً في فكر وأسلوب ومنطلقات الحضارات، والدول والهويات وتعاملها مع الآخر؟ يجب أنْ نبلي حسناً في تأسيس عماد متين لهذه الأطروحة؛ ولذلك سنسرد مجموعة إمكانات ومقترحات تسهم في الانتقال بفكرة التعارف من الإمكان إلى الفعل، آخذين بعين الاعتبار أنَّنا جميعاً في حاجة إلى عمل دؤوب متواصل متطلع إلى المستقبل:
1- التربية والتعليم مطالبان- عالميّاً - بأداء دور كبير ومستقبليّ في إنشاء أجيال المستقبل متشبعة بروح التعارف والتسامح والتآلف بين الحضارات، ولهذا على النخب المتعارفة والمتحاورة النزول إلى ساحات التربية والتعليم - بمختلف مستوياتها وأنواعها - والاتصال بالمسئولين عنها لإشعار الجميع بهذا الطرح الحضاريّ، ومحاولة إقناعهم بضرورة إدراج برامج ومواد تعرف الأجيال بمختلف القيم الإيجابيّة والإنجازات المفيدة لدى الحضارات، بعيداً - طبعاً - عن أي بادرة استمالة ودعاية مغرضة لدين ما على حساب براءة الأطفال خاصة.
2- تفعيل المؤسسات الثقافيّة العالميّة والإقليميّة لتؤدي دورها في تنشيط وتطوير التعارف بين الحضارات، وهذا من خلال برامجها الثقافية ومنشوراتها وهيئاتها.
3- إنشاء منتدى فكريّ عالميّ لتعارف الحضارات، مكون من النخب المؤمنة بالتعارف والداعية والممارسة لفعالياته، بعيداً عن تقلبات السياسة وأهوائها ومصالحها الضيقة، ينضم إليه - إلى جانب النخبة - المؤمنون بالمشروع من عامة الناس الذين يلتزمون بالتأييد العالميّ له، كالإسهام في تمويل مؤتمرات المنتدى، وإحياء يوم عالمي (لتعارف الحضارات) بأنشطة إيجابية على المستوى العالميّ.
4- ويمكن عقد ملتقى يعقد دوليّ للمنتدى الفكريّ لتعارف الحضارات ويكون دوريّاً و ينتقل من قارة إلى أخرى تعبيراً عن التنوع الحضاريّ.
5- إنشاء وتصميم ورفد وتشجيع ودعم إقامة موقع عبر شبكة الإنترنيت يحمل عنواناً يعبِّر عن تعارف الحضارات وبمختلف لغات العالم، لكي يتواصل عبره أبناء الحضارات المختلفة حول القضايا الكبرى التي تشغل بال الإنسان المعاصر.
6- تخصيص جوائز عالمية علمية وفكرية وأدبية وفنية وإعلامية، لأحسن الأعمال التي تعبر عن التعارف الحضاري في سبيل دعم الفكرة والمفهوم وترسيخه نظرياً و عملياً.
7- الإفادة من التجارب السابقة في الميدان كتجربة المعهد الدولي لحوار الحضارات الذي أنشأه روجيه غارودي صاحب الدعوة الشجاعة لحوار الحضارات ومراكز الحوار بين الحضارات وعموم مراكز الدراسات المستقبلية لغرض التأسيس لرؤية مستقبلية تنقل التعارف الحضاري من النظرية إلى التطبيق.(16)
8- وأُضيف أنَّه يمكن تشكيل مجموعات أو لجان من المثقفين والعارفين والمختصين بشؤون الأديان والحضارات والدول والأمم والمجتمعات، ومن خلال تثقيفهم على مجمل المحاور التي يحتاجونها من اجل التعريف بالآخر والاعتراف به من مكنونات الحضارات وثقافاتها وأديانها، لتأخذ هذه اللجان على عاتقها مهمة تشكيل وفود أو اختيار لشرائح من المجتمعات المختلفة ومن الأفضل أن تكون من عامة الشعوب وليس من الأشخاص المميزين منصباً سياسيّاً أو دينيّاً لأنَّ الغرض المبتغى منها هو تعريف المجتمعات والشعوب ببعضها وهي التي ستكوِّن الصورة المطلوبة للمثل السياسيّ أو الدينيّ.
وإنْ كان التعارف على المستوى السياسي والديني مطلوب لكنه من الأفضل أن يتشكل على أساس رسمي لا شعبي، والعمل على توفير فرصة لزيارة ومعايشة الحضارات الأخرى على أرض الواقع مع الشرح لهم وتعريفهم (أي للشرائح المختلفة) بالحضارة التي ينوون زيارتها أو التي زاروها، والهدف من هذه الزيارة والتعايش هو لغرض التعارف والمعرفة بالآخر، وكذلك سيؤدي هذا الأمر إلى تشكيل رؤية مخالفة لما كانت مشكلة على أساس الجهل وردود الفعل بالآخر، وتكرار هذه المعايشات الواقعية ومن كلا الطرفين ومن مختلف الحضارات ولاسيما الطرفين الإسلاميّ والغربيّ، فضلا عن حضارات الشرق عموما ًسيؤدي بالنتيجة إلى تغيير الرؤية والأسلوب والمنهج التعاملي بالنسبة لكل طرف من الأطراف وهذا الأمر وان بدا ذو مسافة زمنية طويلة إلّا أنَّه هدف جدير بالسعي والعمل.
9- كما وإنَّ تأسيس مؤسسة للترجمة والطباعة والنشر تختص بمجال المعرفة الحضارية والتعارف بين الحضارات من خلال ترجمة الكتب التي تعرف وتبين وتفهم ماهية حضارة ما للحضارات الأخرى ومن مختلفها إلى الآخر، على شرط أن يؤخذ المعنى وتؤخذ المعرفة من أصحاب الحضارة وليس ممن كتبوا عنها لكي يوضحوا للآخر ماهي حضارتهم ويحددوا معالمها ومرتكزاتها الأساسيّة وأسس تعاملها مع الآخر، ومنه سيتبن مدى اللبس والغموض والخطأ القائم على أساس المعرفة المغلوطة بالآخر الحضاريّ عموماً وبالإسلام خصوصاً.
10- وتأسيس منتدى أو هيأة أو مركز يقوم بعملية التنسيق والدعم والتوجيه لفكرة التعارف يأخذ على عاتقه التخطيط والبحث والدراسة والتنفيذ لمشاريع من شأنها أن تصب في مصلحة تعارف الحضارات.
المبحث الرابع تعارف الحضارات وما يواجهه من عوائق أو دوافع:
ونعتقد بأن هنالك عوائق وعقبات أخذت بالتمركز والتمحور في الجانب المقابل لنظريات الحوار والتعارف عموماً (وما يهمنا هو التعارف)، والعقبة الرئيسة المعاصرة اليوم(فضلاً عن عقبات عدم التعارف والاعتراف والمعرفة التي سبق وان ذكرناها آنفاً)، عقبة العولمة والتي هي قضية مهمة جداً لا يمكن التغاضي عنها مثلت بجزء منها أو بأسلوب من منهجها تلك الوسيلة المدنية الإنسانية التي قدمت خدمة في تقريب بني البشر وخلق التواصل فما بينهم وتطويره عبر وسائل الاتصال وثورة المعلومات وهي من هذا الجانب تمثل الداعم الأساس لقضية تعارف الحضارات لأنها سهلت المهمة من خلال تطبيع سرعة الاتصال وسهولته وربطه للعالم واختراع اللغة الوسيطة الناقلة للمعلومة والتواصل لكنها من جانب آخر حينما مست الجانب الهوياتيّ أو جانب الانتماء الحضاري فإنها انقلبت (أي العولمة) إلى كونها أضخم وأقوى المعوقات والعقبات في سبيل وطريق التعارف الحضاري لأنها تهدده من الداخل (التركيب الحضاري = الهوية) وليس من الخارج كما في مكملات التعامل الحضاري عموما من معرفة واحترام واعتراف وتبادل، فإنها تعمد إلى البنية الداخلية للحضارات وأساس تنوعها وتعدد ثقافاتها، وهي إن هدفت إلى تعميم مبدأ حضاري أو ثقافي واحد، فهي بذلك تهدف إلى طمس الهويات الحضارية، وهي بذلك تسعى إلى القضاء على التنوع الإنساني، وعليه تجعل الحديث عن حضارات شيء ليس في محله، فالتعارف بين تلك الحضارات مبتني على أساس العلاقات بين الحضارات المتنوعة، ومع العولمة (بجانبها الأخير) لا وجود لهذا التنوع والتعددية الحضارية وسنتناول في مبحثنا الآتي، معنى العولمة وآثارها السلبية والايجابية، وما يهمنا من العولمة الحضارية أو المدنية، هو مكامن التهديد الذي تتعرض له نظريات التعامل الحضاري (المتسامح) من قبلها.
العنف بوصفه العقبة الأبرز في طريق الاعتدال مع العقل التعارفي:
علاوة على ما تقدم هنالك عقبة أساس في طريق التعارف والتعايش وهي عقبة العنف المتفشي والمستشري في عوالمنا، ولذلك يجب الوقوف عند مسوغاته ومعانيه وتفسيراته ومن ثم الحث باتجاه المعالجة التي نراها صالحة وهي تحويله إلى الداخل وجعله ينبجس*.
وانطلاقاً من فهم أنَّ "الحرب هي إقرار فشل والعلامة بأنَّه لم يبق سوى اللجوء إلى مرد القوة، بعد أنْ استُنفدت كل الطرق السياسية. عندما ينطق السلاح، تصمت الخطابات، في حين أنَّ أمر السياسة يتعلق أساساً بالخطابات والمحادثات والبحث عن الحل الوسط وعن الإجماع."(17) يتم أن مشروع الاعتدال رهين بمدى قدرتنا على البحث عن الوسط الناجع للتعايش وذلك يقتضي التفاوض لا العنف= الحرب.
وللبحث في معنى هذا الأخير لابد من حركة استقصائية في جذوره؛ ولذلك سأقف عند التصورات المثبتة مؤخراً في جذور العنف وأصوله وهي تتوزع على:
1- اعتبار العنف جذرياً أو تأسيسيّاً وأصليّاً: يريد أصحاب هذه الرؤية تبيان أن العنف راسخ في داخل الإنسان وغريزته في التدمير وصنع الشر.
2- اعتبار العنف نتيجة لثقافات مجتمعية: هذا الاتجاه يرى أنَّ العنف وضده إنَّما هو نتيجة تظهر نسبة لثقافة مجتمع دون غيره، فما يلحظ لدى بعض الثقافات الابتعاد عن العنف في طبيعة ثقافتهم وسلوكهم الأخلاقي، على الضد من غيرها.
3- العنف أثراً للوسط أو المؤسسة: هي نظرية يتبناها علم النفس الاجتماعي الذي يؤكد على دور الوسط في تحفيز أو ضبط أو نفي العنف.(18)
إذ إن هذه التصورات تضعنا في مقابل فهم العنف بوصفه تارة متجذراً في الذات الإنسانية وذلك ما عالجه كانط في كتابه الدين في حدود مجرد العقل، وكذلك ماقدمته حنه آرنت في كتابها ايخمان في القدس، والتي توصلت يما بعد لنقد هذه الفكرة في مقولتها عن الشر التافه. وتارة نجدنا مقابل الفهم الثاني وهو أن العنف إنما ينتج عن الثقافات المجتمعية التي ينشأ فيها الفرد، فهنالك ثقافات واديان وحتى أساليب عيش لاتزال إلى اليوم تحث باتجاه العنف وتفاقمه، مسوغة ذلك بنص هنا أو موروث هناك وشرعنة للبقاء، ويبقى الفهم الثالث الذي يركن إلى ان المؤسسات الوسيطة التي تصطنع من قبل الإنسان نفسه إنما هي من تسهم في إشعال جذوة العنف أو إخمادها.
الخاتمة
لابد لمشروع إنساني كتعارف الحضارات، والذي يهدف إلى إعادة التوازن إلى جنون العالم والعنف المستشري فيه، من أن يكون مؤازراً من كل الشعوب التي لاتزال تتذوق ويلات الموت والخراب، ولذلك فهذا المشروع ليس إلا زفرة الإنسان المكبوت من الإرهاب حقاً باستعارة من مفردات ماركس، وتعارف الحضارات وانجاز العقل التعارفي الإنساني لايمكنه ان يرى النور ان لم تكن هنالك مؤسسات كبيرة ودولية داعمة له علاوة على الإحساس المجتمعي بضرورته، وكذلك كل المؤسسات العابرة للوطنية والتي تحمل هم الإنسانية والسلام. انه مشروع لأجل ان يكون السلام ناجزاً.
اضف تعليق