منذ سقوط نظام القذافي والصراع في ليبيا يتجه نحو نهايات غير معروفة يصعب التعامل معها، لتداخل معطياتها وعدم إستقرارها، فبعد أن كان للناتو والإرادة الدولية الدور الحاسم في إنهاء نظام القذافي لم تكن هنالك رؤية حقيقية لمرحلة مابعد الحسم كالحال مع العراق أو أفغانستان، فضلاً عن الإتجاه الذي سوف تكون عليه إدارة الدولة بعد نهاية القذافي. إذ ترك الأمر لتقدير الجماعات الإجتماعية في المجتمع الليبي لتقرره الأطراف المتخاصمة والأكثر تناقضاً في هذا الجانب.
شرعية مرفوضة مقابل شرعية بديلة
ترتبط بداية الصراع في ليبيا بانتخابات أعضاء المؤتمر الوطني العام الذي تشكل لإدارة البلاد بعد سقوط القذافي، إذ تمحور الصراع بين أكبر كتلتين سياسيتين في البلاد، الأولى: جماعة الإخوان المسلمين وما إرتبط بها من قبائل وجماعات، أما الثانية فهي تحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل والتي ضمت الليبراليين والفدراليين.
لم تحقق نتائج إنتخابات 2014م قبول اجتماعي حقيقي من قبل جميع الأطراف المشاركة فيها وخصوصاً الإسلاميين الأمر الذي دعاهم الى عدم الإعتراف بنتائج الإنتخابات والحكومة المنبثقة عنه برئاسة عبد الله الثني المنبثقة عن مجلس النواب في طبرق، مما جعل الحكومة تتشكل في طبرق بعيداً عن إعتراف الاسلاميين فيها، في حين نجح التيار الليبرالي والتيار الفيدرالي بأغلبية كبيرة في مجلس النواب الجديد والذي بعث على خلفية تفاهمات بين مختلف الفرقاء بعد أزمة فيفري 2014 التي أسست لهذه الإنتخابات.
ومع ذلك، لم يكتفي الإسلاميون بطعن شرعية الإنتخابات بل دفعوا نحو تشكيل حكومة أخرى سميت بالانقاذ تمسكت بموجبها بسلطة المؤتمر الوطني العام الذي سيطر عليه الإسلاميون قبل الإنتخابات، فضلاً عن تأسيسهم حكومة موازية في طرابلس، وطالبوا بضرورة عدم الاعتراف بحكومة عبد الله الثني.
بنيوية الصراع: أطراف متناقضة وشرعية مفقودة
ليس من السهل التعامل مع أطراف الصراع في ليبيا بنظرية التقسيم النوعي وفقاً للمدركات أو التوجهات السياسية، من دون الأخذ بعين الإعتبار طبيعة البنى الإجتماعية التي تتحكم بهذه الأطراف. فضعف الدولة من حيث المؤسسات ونمطية الإدارة جعلها تضيع في تجربة فرض الذات. وبرغم ذلك يمكن التعامل مع الوضع في ليبيا من خلال مجموعتين أساسيتين:
• الليبراليون والفدراليون
ترتبط هذه المجموعة بقيادة عسكرية الى حد ما مرتبطة ببعض قادة النظام السابق المنشقين عنه أو المؤيدين له، إذ يقود هذه المجموعة شخصية سياسية وعسكرية تدعى " خليفة بلقاسم حفتر" وهو عسكري ليبي سابق شارك في حرب أكتوبر 1973 وحصل على نجمة سيناء، وقد قاد القوات الليبية خلال الحرب الليبية التشادية في الثمانينات وحقق انتصارات سريعة في بداية الحرب، غير أنها انتهت بهزيمة أدت لوقوعه في أسر دولة تشاد بعد أن رفض القذافي تزويده بالدعم اللوجستي خوفاً أن يكرر إنتصاره في ليبيا، وبعد تخلى القذافي عنه تدخلت مصر للوساطة عنه مع حكومة تشاد، وخرج بعدها إلى المنفي في الولايات المتحدة، وعاد إلى ليبيا في عام 2011 بعد اندلاع الثورة الليبية.
تتشكل كتلة حفتر بالأساس من عسكريين سابقين من بقايا جيش القذافي وإنضمت إليه مليشيات مختلفة تعمل تحت إمرته، ويصف حفتر قواته بأنها هي الجيش الليبي الوطني، وإن كان هذا غير صحيح، فبالرغم من أنها تضم عسكريين سابقين، لكنها لا تتعدى كونها ميليشا خاصة مثلها مثل غيرها من المليشيات على الساحة الليبية وهذا ما يمثل رؤية معظم المختصين في الشأن الليبي. وإكتسب حفتر شرعية سياسية أكبر بعد سيطرته على البرلمان الليبي المنتخب حديثا،ً والذي منحه بعض الشرعية بسلاحه، حتى أن البرلمان انتقل إلى مدينة طبرق التي تقع تحت سيطرته.
نجح حفتر في السيطرة هو وحلفاؤه على أغلب المنطقة الشرقية من ليبيا، بعد أن كانت هناك بعض المناطق في مدينة بنغازي وماحولها خارج سيطرته، وكذلك مدينة درنة معقل الجهاديين. ومن أبرز أنصار حفتر الفدراليون الذين يتزعمهم قائد جيش برقة الجضران (قوات حرس المنشآت النفطية) والذي يطالب بأن تكون برقة إقليم فيدرالي، وقد قامت قواته بالسيطرة على حقول النفط وموانئ التصدير لإجبار المؤتمر الوطني على قبول الفيدرالية. بالإضافة الى جماعة محمود جبريل ومعظم الأجهزة الأمنية إذ أعلنت قوات الصاعقة الليبية وقوات الدفاع الجوي انضمامها لحفتر وقواته.
• مصراتة
وهى أكثر الكتائب انضباطاً وتنسيقاً في المنطقة الغربية نظراً لوجود عناصر عسكرية بها لها حنكة سياسية مثل رئيس مجلس عسكري مصراته "سالم جحا" (قوات درع ليبيا- المنطقة الوسطى- هي قوات مصراتة بالأساس) بالإضافة إلى طبيعة تكوين تلك الكتائب على يد تجار مصراته الأثرياء الذين ساهموا في تمويل شراء السلاح لتلك الكتائب، مما جعلها خاضعة لمجلس أعيان مصراته، ويقدر عدد المنتسبين للمجلس العسكري لمصراته بـ (35) ألف في مدينة عدد سكانها 300 ألف نسمة. كما يرتبط بها كذلك قوات فجر ليبيا وهي قوات من الثوار تتكون من (23) مدينة ليبية تسعى لجعل ليبيا دولة موحدة تحت قيادة حكومة الانقاذ الوطني التي يترأسها "عمر الحاسي" والتي توازي حكومة طبرق. فضلاً عن عملية شروق ليبيا التي تمثل امتداداً لعملية فجر ليبيا يقودها ثوار من مدينة مصراته موالين لحكومة الانقاذ الوطني. وغاية هذه العملية تحرير الموانئ النفطية من قوات ابراهيم الجضران الذي تحالف مع حفتر.
داعش والخيارات الجيوسياسية في ليبيا
هناك جدل كبير ليس حول وجود تنظيم "داعش" في ليبيا، بل حول زعامته فيها، إذ تمثل حركة أنصار الشريعة مجالاً مهماً لتنظيم داعش في ليبيا، وحركة أنصار الشريعة التي يقودها الشيخ محمد الزهاوي هو جزء من مجلس شورى ثوار بنغازي وهذا التنظيم لا يحمل فكرا تكفيرياً بل انه تنظيم يؤمن بالدولة، وقد أعطيت فرصة القيادة له شرط إعلان البيعة لأبي بكر البغدادي، على أساس أن الليبيين هم أصحاب الأرض هناك وأن التنظيمين لهما هدف "إرساء شرع الله في الأرض"، نفس الهدف كان محل نقاش من قادة آخرين وخاصة من الأجانب الذين وافقوا على إلتحاق أنصار الشريعة بداعش وامتدادها لدرنة، إذ بايعت مجموعات منشقة تنظيم البغدادي لتعلن عن وجودها في 31 أكتوبر الماضي ولتكون ولاية لداعش هناك.
ويبدو أن هذا السبب الذي كان وراء زيادة ضعف تنظيم أنصار الشريعة وخروج أكثر منتسبيه الأجانب منه وإعلان البيعة للبغدادي على أساس أن "الخلافة" هي خلافة الهدف الكبير لكلا التنظيمين، وكذلك ان الإندماج بينهما مصدر قوة للمجاهدين" وللحركة العالمية لـ"الجهاد الإسلامي" على قاعدة امتداد دولة الخلافة خارج مربع سوريا والعراق الذي يتعرض لضغط دولي كبير وهو ما يفرض فتح جبهات جديدة خارج هذا المربع، الأمر الذي يتضح جيداً في فتح جبهتي سيناء وليبيا، على اعتبار ليبيا مرتكز جيوساسي كبير ويتيح للتنظيم التمدد وانشاء مناطق إدارة التوحش والتحول لاحتلال مناطق أخرى.
وقد رشحت الولايات المتحدة الأمريكية هذا السيناريو كذلك، حيث يعتقد بعض الخبراء في البيت الأبيض ومراكز الفكر أن التحول في الحرب ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا سوف يساهم في نقل التنظيم مركزه الى ليبيا ليستجمع هناك قوته من جديد حيث لا أنظمة متصارعة ولا مجال حيوي للقوى الإقليمية الرئيسة في المنطقة.
تحالفات هشة
إن التمعن بالنظر في خارطة التحالفات السياسية في ليبيا بالوقت الراهن نجد أن جزءاً منها هي تحالفات بين أطراف متصارعة بالأساس، وأن أي تحالف حالي لايتعدى إلا أن يكون تحالف تكتيكي لحين ترتيب النفوذ السياسي في السلطة. فالجماعة التي يتألف منها محور حفتر يتكون أبرز حلفائه من الفيدراليين الذين يسعون لتحقيق نظام فيدرالي مستقل في المنطقة الشرقية (برقة) لضمان السيطرة على حقول النفط وإيراداتها الضخمة، وهذا ما يتعارض مع طموحات حفتر الهادفة لخلق دولة مركزية تسيطر على كافة حقول النفط، الأمر الذي قد يهدد بتفجر الصراع في المستقبل بين الجانبين في حال نجح حفتر بفرض سيطرته على أغلب البلاد.
إذ أن التحالف بين الفيدراليين وحفتر قائم على أساس وقتي بهدف القضاء على خصم مشترك وهو الإسلاميون وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين، وكذلك مواجهة قوات مصراتة القوية التي لايستطيع أي طرف منهم مواجهتها منفرداً، بالإضافة إلي احتياج "حفتر" للبترول الذي يسيطر عليه الفيدراليون، لكن إذا انتهت الأزمة الراهنة بنصر حفتر سيكون في وضع يفرض عليه الحرب مع الفيدراليين أو محاولة احتواءهم والرضوخ لبعض مطالبهم. وبالتالي فإن جميع المشاهد لاتزال قيد التشكل في هذا الجانب.
وكذلك التحالف بين مصراته والمليشيات المتكونة في طرابلس فضلاً عن طبقة التجار، فهي من حيث التوصيف تحالفات هشة نظراً لعدم وجود الرغبة من قبل المليشيات أو التجار في سيطرة مصراته على السلطة وحكم ليبيا.
الإرادة الدولية: إنسحاب إستراتيجي أم تكتيك نوعي
لم تكن حركات الإحتجاجات المطالبة بتنحي القذافي قادرة أن تحقق مرادها من دون دعم التحالف الدولي بضرباته الجوية وخصوصاً مايتعلق بالناتو، بيد إن هذه الإرادة لم تخطط لمرحلة مابعد سقوط القذافي ولم تحدد ملامح التشكل الجديد للنظام السياسي. ولعل الإنشغال بتطور الأوضاع في مصر وسوريا كان له الأثر الأبرز في ذهنية صانع القرار في الدول الغربية خصوصاً بعد تراجع مكانة الاخوان المسلمين في النظام الإقليمي الجديد.
ومن زاوية أخرى فإن طبيعة التعقيد المستحكم الذي تمر به منطقة الشرق الأوسط يزيد من إحتمالات الفوضى على الإستقرار والتشكل، فوجود تنظيم داعش وإحتواء الاخوان المسلمين كلها مدركات تبلورت بعد تطورات الربيع العربي، وهيمنت جميعها على التفكير السياسي للقادة في المنطقة وخصوصاً المملكة العربية السعودية ومصر التي لاترغب بزيادة جبهات الحرب المفتوحة في المنطقة ولاسيما بعد عاصفة الحزم، والتي تحاول ترتيب أوراقها في الجوار مع الإحتفاظ بأوراق لها في ليبيا كالحالة مع حفتر الأقرب لها فكرياً من الاخوان المسلمين.
أما المجتمع الدولي وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو فأنها غير قادرة على حسم خياراتها إستراتيجياً حيال ليبيا بسبب الحرب التي تخوضها ضد تنظيم داعش في العراق وسوريا، فضلاً عن طبيعة التداخل في التحالفات السياسية والتي لاتمكنها على تفضيل أحدها على الآخر بسبب التناقضات المتداخلة لكل تحالف منها.
مستقبل غامض
من الصعب التنبؤ بمستقبل ليبيا في ظل الفوضى التي تجتاح البلاد في الوقت الراهن، إذ يبدو أن هناك حالة من التوازن العسكري بين طرفي الصراع، ففي حين تطغى لحفتر الميزة النسبية في سيطرته على سلاح الجو، يعاني من نقص في القوات البرية، في مقابل مصراتة التي لديها قوة برية ضخمة ومحترفة لكنها لاتمتلك قوة جوية وهو ما خلق حالة من حالات التوازن الإستراتيجي بين الطرفين وفقاً لمبدأ الأرض مقابل الجو أو العكس، لكن قد ينقلب التوازن إذا تدخلت القوى الإقليمية أو الدولية لدعم طرف على حساب آخر، ومن الصعب حدوث تدخل دولي بقوات برية على الأرض نتيجة تعقيد الوضع ميدانياً، وكلفة هذا التدخل عسكرياً وسياسياً في الوقت الراهن.
اضف تعليق