تحمل المسؤولية تتحقق في نصرة الحق والوقوف ضد الظلم وعدم نصرة الفساد المستشري، كذلك النصرة تتحقق بالالتزام بالحلال وترك الحرام، وهذه أمور واضحة عند كل إنسان، فالذي يأكل الحرام ويدعي حب الإمام الحسين، فهو يعيش في تناقض وان كان يصدق ذلك فهو يعيش في مغالطة ذاتية لبسها عليه الوهم الشيطاني...

موقف كل إنسان في الحياة، هو سلوك يظهر من باطن الإنسان أي لا وعيه ليطفو على ساحل وعيه، فالإنسان الذي يختار القرار الصحيح ويستجيب للموقف المعين الذي يتعرض له هو الذي استطاع أن يبني وعيه من خلال بناء شخصيته واختزان الصالحات والايجابيات في أعماق قلبه أو لاوعيه. 

والفرق بين الإنسان الواعي والإنسان الذي ليس له وعي، هو الإنسان التكعيبي، بمواجهة ذو الأفق الواحد.

الإنسان التكعيبي هو الذي استطاع أن يبني التكامل بين أبعاده الثلاثة، البعد النفسي، البعد المادي، البعد الفكري. هذه الأبعاد الثلاثة عندما تتكامل فيما بينها تشكل شخصية الإنسان السليمة والصالحة فيتشكل وعيه، وعندما يتشكل وعيه يستطيع أن يستجيب في الأزمة والموقف المعين الاستجابة الصحيحة السليمة. 

فالموقف الأخلاقي هي لحظة وعي تأتي من التكامل التكعيبي في الانسان (مقابل السطحي)، فالإنسان يحتاج الى نمو متكامل في الجوانب المادية والنفسية والفكرية، يؤدي الى انتاج الذات (المعنوية) القادرة على الارتباط بالفطرة والضمير والمسيطرة على الجموح الغرائزي.

وهذه الذات الواعية تمتلك القوة المدركة والفاهمة في الاستجابة الناضجة للمواقف والأزمات، والاختلال في الابعاد يؤدي الى هيمنة الغرائزية وتسلطها ومن ثم تحصل الاستجابة السيئة في الازمات.

وذلك لأن هناك صراع بين الغريزة والعقل في الإنسان، والذي يستطيع أن يتحكم بغريزته ويكبح جماحها هو الذي يملك الوعي اللازم للتحكم بالغريزة واحتوائها وادارتها بحكمة.

فالغريزة هي هيجان يعصف بالإنسان، والإنسان ذو البعد الواحد الذي يعيش في الحالة المادية المطلقة، لا يستطيع أن يتحكم بغريزته، بل هي التي تقوده أينما هاجت او ماجت. لذلك فإن القليل جدا من الناس الذين يستجيبون إلى المواقف الأخلاقية السليمة في الحياة. لأن الوعي قد حجبته الغريزة، فيفكر في نفسه فحسب، وعندما تظهر غريزة الخوف عند هذا الإنسان، تجمح غرائز أخرى كغريزة الطمع والحرص على الدنيا التي تظهر عند هذا الإنسان الذي ينساق مع القطيع العام الغالب في المجتمع.

الأكثرية العمياء عن الحق

لذلك نرى أنه في يوم العاشر من محرم فإن الذين بقوا مع الامام الحسين (عليه السلام) ونصروه هم قلة قليلة جدا، وهم الثلة الواعية التي امتلكت تلك الأبعاد الثلاثة في الشخصية، فتكامل وعيها ونضج فهمها.

وقد قال الامام الحسين (عليه السلام): (النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ، يَحُوطُونَهُ مَا دَرَّتْ مَعَايِشُهُمْ، فَإِذَا مُحِّصُوا بِالْبَلَاءِ قَلَّ الدَّيَّانُون).

والأكثرية العمياء عن الحق هي التي تسير وراء العيش الغرائزي الذي حجب فيه العقل، فغاب الشعور بالمسؤولية والعواقب المترتبة على تركها، وهذا العيش الغرائزي ليس فيه موقف أخلاقي، فالموقف الأخلاقي هو الموقف الذي ينبع من لحظة وعي، هي ثمرة يأتي نتاجها من خلال سنين عديدة مرت على شخصية الإنسان، فتظهر في تلك اللحظة المعينة. 

وهذا معنى الإنسان التكعيبي في مقابل الإنسان ذو الأفق الواحد، وعلى سبيل المثال، فالذي ينظر إلى شيء معين أفقيا تكون رؤيته مسطحة او سطحية في بعد واحد على خط مستقيم يستطيع ان يرى من هو امامه فقط، أما الذي ينظر من فوق مبنى عال إلى تحت، تكون نظرته تكعيبية في أبعاد متعددة فتكون نظرته شاملة لاتجاهات مختلفة، فيرى الصورة بشكل أعمق، والنظرة إلى الحياة والموت هكذا عند الإنسان الواعي.

أغلب الناس وهم الذين سجنوا أنفسهم في الأفق الواحد يذهبون وراء معيشتهم المادية فحسب، ويتصورون أن معنى وجوده يتحقق عندما يستجيب لحياته الغرائزية يعيش يومه الطبيعي، آمنا في منطقة راحته وهي المنطقة التي يتوهم انه سيكون في أمان عندما يكون محايدا في مواقفه، ولايهمه ان يكون في موقف الحق في مقابل الباطل.

وعدم العمل على بناء التكامل في الشخصية هو الذي يؤدي الى ضياع الفرد، بل ضياع امة في لحظات مفصلية تاريخية، عندما تهيمن الغرائزية عليها وتحرف مسار الوعي عن إدراك مفهوم الحق، فالمجتمعات الغرائزية تتحكم فيها الحالة الغرائزية المادية ذو البعد الواحد، هي نتاج للفرد الغرائزي، كما ان الفرد الغرائزي هو نتاج لمجتمع او أمة غرقت في مستنقع غرائزها وشهواتها فأصبحت مجرد متفرج على الاحداث.

 لذلك نقرأ في زيارة الامام الحسين (عليه السلام): (فلعن الله أمة قتلتك ولعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة سمعت بذلك فرضيت به...)، وهذا يعني ان أمة كاملة قد غاب وعيها واضاعت لحظتها الحاسمة.

لحظة الوعي بين زمنين

وهنا يتبادر السؤال التاريخي، ما الفرق بين زمن كان فيه الإمام الحسين (عليه السلام) حاضرا وهو يخاطبهم بشكل مباشر ولم يتأثروا، فكيف نتوقع في الزمن الحاضر ان تتحقق لحظة الوعي من اجل الإصلاح والتغيير؟

ولكن من قال أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان لحاضرهم فحسب، بل أن الإمام الحسين (عليه السلام) كان لحاضرنا ومستقبل الأجيال المتلاحقة، فالإمام الحسين (عليه السلام) رسالة مستمرة ممتدة إلى الأبد لأنها إحياء، إحياء لوعي الإنسان، إحياء لعقله، بل هو بناء وعي عميق لمفهوم الحياة والموت، فقد أراد أن يثبت لنا الفرق في المعنى بين الموت والحياة، فهناك إنسان يعيش مئة سنة من حياته وعمره ولم يفعل شيئا مثمرا ومفيدا في حياته بحيث يكون مؤثرا، بل كان يعيش حياة عادية وروتينية فقد كان محايدا في كل شيء يتصور انه سيعيش في أمان دائم، فهل هناك قيمة لعمره، ولكن نرى أن هناك شخصيات خالدة بأعمار قصيرة جدا يستمر تأثيرها بشكل واسع على الأجيال المتلاحقة مثل علي الأصغر بن الحسين والقاسم بن الحسن (عليهم السلام).

فالحياة والموت هي حالة نسبية لاتقدّر حيثياتها بالكم والوجود المادي، بل بالوجود المعنوي والكيف، وإدراك هذا المفهوم هو الذي يجعل الإنسان يتخذ قرارات ذكية صالحة، عندما يتحول الى فكرة، راسخة في ذهن الإنسان، 

وقد قال الإمام علي عليه السلام في معركة الصفين: (فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ وَالْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ).

فالإنسان الذي يكون عنده موقف أخلاقي مسؤول فهو منتصر حتى وإن كان ميتا، والإنسان الذي ليس عند موقف يكون ميتا حتى وإن كان حيا، لأنه مهزوم في ذاته ومنكسر في نفسه، وهذا معنى هزيمة أمة كاملة بسبب عقلية الحياد، فقد كانوا يبكون على الإمام الحسين (عليه السلام) ويحبونه مثل ما نحبه ونبكي عليه الآن، لكنهم خذلوه ولم يستجيبوا لنصرته في لحظة الاستجابة للموقف المسؤول.

لذلك نقرأ في زيارات الامام الحسين (عليه السلام):

(فَلَعَنَ الله اُمَّةً قَتَلَتْكَ وَلَعَنَ الله اُمَّةً ظَلَمَتْكَ وَلَعَنَ الله اُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرِضِيَتْ بِهِ... لَعَنَ الله اُمَّةً خَذَلَتْكَ وَتَرَكَتْ نُصْرَتَكَ وَمَعُونَتَكَ..).

وبالنسبة لنا الآن فهذه لحظة الوعي بالحياة فهل نستجيب لنداء نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) بالعمل بالحق والخير والصلاح، أم نبقى نعيش محايدين في حياتنا.

(ألا وان الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين بين الذلة والسلة، هيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك لنا ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبيه من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام).

الحياد هو القرار الآمن الذي تحبذه النفس الخائفة او اللامبالاة المستحكمة، وهي نتيجة لجو اجتماعي يفتقد الى الإحساس بالكرامة والحاجة اليها، بالتالي تصبح سلوكا اجتماعيا راسخا، وهو مايؤدي الى نتائج كارثية، فالحياد هو من أكثر المواقف كارثية في التاريخ.

والعجيب ان المحايدين هم الذين يؤدي سلوكهم الى اختلال الميزان لصالح الباطل. فالإنسان الذي يسكت عن الباطل ولم ينصر الحق فهو مع الباطل.. أولئك الذين لم ينصروا الامام الحسين (عليه السلام) وبقوا على الحياد، نصروا الباطل لأنهم فسحوا الطريق أمام جريمة قتله.

اما غياب الرؤية او ضبابيتها وعدم القدرة على تحديد اتجاه البوصلة بين الحق والباطل بعدم القدرة على التمييز بينهما، بحيث يكون مبرر لهم للوقوف على التل، فقد اجابهم الامام الحسين (عليه السلام): (ألا ترون الحقّ لا يُعمل به، والباطل لا يُتناهى عنه؛ ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً).

وكل إنسان في اعماقه عنده يقين ويعرف ما هو الحق وما هو الباطل، ولكن حالة اللامبالاة والحياة وعدم تحمل المسؤولية تجاه نفسه واسرته ومجتمعه باتخاذه الحياد يقوده الى الضياع والحيرة والتيه.

الضياع هو نتيجة للحياد وعدم الوقوف مع الحق، وبالتالي هو تراكم للمواقف السيئة التي اتخذها في عدم نصرة الحق، مما يؤدي الى مزيد من التيه. والتيه يزداد مع الانغماس العميق وعدم الرجوع الى طريق الحق بالتوبة والاستغفار الى سبحانه وتعالى.

ان تحمل المسؤولية تتحقق في نصرة الحق والوقوف ضد الظلم وعدم نصرة الفساد المستشري، كذلك النصرة تتحقق بالالتزام بالحلال وترك الحرام، وهذه أمور واضحة عند كل إنسان، فالذي يأكل الحرام ويدعي حب الإمام الحسين (عليه السلام)، فهو يعيش في تناقض وان كان يصدق ذلك فهو يعيش في مغالطة ذاتية لبسها عليه الوهم الشيطاني، الذي تتفرع المبررات السيئة، ومنها العيش بالحياد وبلا موقف.

وهذا ينطبق عليه (النَّاسُ عَبِيدُ الدُّنْيَا، وَالدِّينُ لَعِقٌ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ...)، (والباطل لا يُتناهى عنه...).

التحولات الذاتية والكمون العميق

لحظة الوعي ومعرفة مفهوم الحق هي نقطة التحول في عملية الاستجابة للحق، وعندما تحين اللحظة الأساسية مثل موقف أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، فهؤلاء وفي لحظة ذلك الموقف برز الوعي العميق من ذواتهم، وعرفوا أنه اليوم الذي معناه الانتصار والكرامة والوقوف مع الحق، وعند ذلك ليس مهما الحياة بمعنى الوجود المادي.

ونرى هذا التحول السريع في موقف الحر وموقف زهير ابن القين، فهاتان الشخصيتان حصل لهما التحول في الاستجابة للموقف الاخلاقي مباشرة بمجرد لقاء بسيط حصل مع الامام الحسين (عليه السلام)، فما هي مقومات هاتين الشخصيتين ومقومات من كان مع الامام الحسين (عليه السلام) حتى يهبوا لنصرته دون أمة كاملة؟ 

ان التحولات الذاتية تحصل من خلال وجود العناصر الكامنة في الشخصية، وعند المواقف والانعطافات يظهر ذلك الكمون الإيجابي او السلبي.

وهذا الامر في الأساس قضية تربوية تبدأ منذ الصغر حيث هناك كمون في الشخصية، وعناصر كامنة في شخصية الإنسان تظهر عند المنعطفات الحاسمة، فهذا الشخص مثل زهير ابن القين أو الحر الرياحي أو أصحاب الإمام الحسين عندما اتخذوا هذا الموقف لم يكن يتصور أنه سيصل إلى تلك اللحظة، ولكن عندما وصل إلى تلك اللحظة الزمنية الهامة في حياته وكان يجب أن لا يكون محايداً وتكون عنده انعطافة مصيرية في حياته، ظهرت كوامن الشخصية الإيجابية في نفس هذا الإنسان، فما هي المقومات التي كانت كامنة في هذه الشخصية؟

ان الموقف الأخلاقي الحاسم لا يُنتزع، بل يُصنع على مدى سنوات من التربية المتكاملة الدينية التي ترفع وعي الفرد، والاجتماعية التي تُعزز قدرته على التحرك، والممارسة تثبت ذلك في داخله حتى يتحول إلى سلوك لا يتزلزل.

 التربية السليمة منذ الصغر: التربية على التقوى والورع، والتربية على حساب العواقب المترتبة على افعاله، وكذلك التربية على الالتزام بالحلال وعدم ارتكاب الحرام، وهذه الامور تؤثر على شخصية الإنسان لأنها تكون معجونة بذات الانسان، وفي اللحظة الحاسمة يظهر ما تغذى به طول حياته، والعكس كذلك فالإنسان الشرير هو شخص عادي تكون حياته عادية طبيعية، ولكن في لحظة حاسمة مثل ان يصل إلى منصب أو يغتني بالأموال أو يصبح مشهور جداً في تلك اللحظة يتفجر فيه الطغيان، لأنه رجع إلى تلك الأسس الاولى عليها شخصيته.

وقد قال الامام الحسين (عليه السلام) عن هؤلاء:

(فقد ملئت بطونكم من الحرام، وطبع على قلوبكم، ويلكم ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟)

وهنا لابد أن نلتزم بتربية أطفالنا منذ الصغر ويكون لدينا وعي بالتربية السليمة حتى يصبحوا صالحين، وتكون استجابتهم استجابة سليمة في الانعطافات الحاسمة في الحياة.

الرغبوية والتضليل الذاتي

حتى لو كان الانسان في ظاهره شخصية صالحة ومؤمنة لكنه انخدع بالخطاب التضليلي مع انه قد سمع نداء الامام الحسين (عليه السلام)، فلم يستجب لذلك النداء للظروف التي أحاطت بالأحداث في ذلك الوقت، فإن هذا في أحيان كثيرة يعبر عن ان هناك خلل في تكامل الشخصية وتكعيبها وعمقها في إدراك وفهم الاحداث وامتلاك في اللحظات الحاسمة.

فالخداع والتضليل هي مغالطات تنشأ من ذات الإنسان وهي حالة رغبوية، بأن اشتهي ما اريد ان اسمعه، فأنا أستمع للأخبار اللي أرغب بالاستماع لها وليس ما اطلبه من حقيقة، حيث لا ارغب الا بالواقع المصطنع الذي يتلائم مع تركيبة نفسي ومشتهياتها ولا ارغب بفهم وإدراك الواقع الحقيقي.

وهذه العملية تسمى التضليل الذاتي، حيث يؤدي الى تمكين التضليل الخارجي الذي دخل عليه اذ لايستطيع هذه التضليل الخارجي ان يتحكم بالإنسان ويتلاعب ما لم يسمح هو بذلك.

(يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ، فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ) البقرة9/12.

فهذا الإنسان هو الذي يخدع نفسه ويبني مملكة الأوهام في داخل نفسه حتى وإن كان يعتقد في نفسه انه عارف عالم، حيث يحاول ان يحرف الواقع بما يتناسب مع رغباته، وينقل وعيه الى دائرة اوهامه.

ويتبين ذلك في المنعطفات الحادة حيث يظهر امام الانسان في لحظة خياران، المسئولية الشرعية والموقف الأخلاقي من جهة أم الحالة الرغبوية وتمييع الموقف الأخلاقي من جهة اخرى، فالذي يعي معنى المسئولية الشرعية والوظيفة الإنسانية يقف مع هذه المسئولية ولا يقف عند رغباته.

وبشكل عام فإن معظم الناس يعملون وفق رغباتهم وليس وفق مسئولياتهم، لذلك عندما تغيب المواقف المسؤولة تستفحل المشكلات والأزمات في المجتمعات، في حين ان تحمل المسئولية والالتزام بالموقف الأخلاقي هو الذي يحقق النهضة في الأمة ويستوعب المشكلات والأزمات.

 لذلك في عاشوراء ظهرت معنى المسئولية الشرعية والموقف الأخلاقي، فهناك من تخلى عن تلك المسؤوليات خوفا على امواله وأبنائه وارزاقهم، وهناك من انساق وراء المطامع تأمينا لمستقبله، فهؤلاء الذين اجتمعوا حول مسلم بن عقيل بالآلاف كانوا يرغبون بالنصر وما يأتي به من مغانم، ولم يفكروا بأداء المسئولية وهو نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) ونصرة العدالة الإلهية والوقوف أمام الظلم والطغيان، وقفوا مع المكاسب والمغانم فهنا وفي اللحظة الحاسمة للوعي حضورا وغيابا يتبين من يعمل وفق رغباته أم وفق المسئولية الشرعية الذي يفرضه الموقف الأخلاقي.

التغييب الذاتي للوعي

ان غياب الوعي في معركة كربلاء هو الذي تسبب بحضور الرغبة، فالرغبة هي نتاج للانسياق المادي وراء هيمنة الغرائز، فالانغماس في الشهوات هو ممارسة استمرت في تغييب العقل عن الحضور فغاب الوعي في اللحظة الحاسمة، وهو تغييب ذاتي يتكرر في كل الازمان للفرار من الموقف الأخلاقي، وعلى سبيل المثال كم من الناس يرغب في المعرفة والتعلم للوصول إلى الحقيقة؟ لأن التعلم والمعرفة ينبثق منها معنى الوظيفة الشرعية وما ينتج منها من مسئوليات.

ولكن من التعلم المعرفي نرى معظم الناس مندفعين نحو التوافه، فعالم التوافه سيطر على العقول وحجبها عن الوعي، لأن التوافه عالم يبعد الانسان عن العمل الجدي والسعي والحركة والتفكير والمسئولية والاهتمام، بحيث أصبح اليوم هو عصر الراحة والتمتع بالتكنولوجيا.

وقد كان موقف الإمام الحسين (عليه السلام) واضح مثل وضوح الشمس وهو حجة علينا ولذلك لابد أن نذهب وراء ما يطلبه حتى نصلح واقعنا، وهو الآن يخاطبنا (عليه السلام) مثل ما خاطبهم (كونوا أحرارا في دنياكم)، وكذلك: (وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ برماً)، وكلمة (برما): تعني الضجر والسأم والملل الذي يصيب الإنسان.

وهنا الإمام الحسين (عليه السلام) يعطي لهذا المعنى بعدا أساسيا، فالأمة الفاشلة هي الأمة التي تعيش الكسل والضجر والملل في حياتها وهي الحياة مع المتقاعسين والمحايدين والظالمين، وحينئذ فلا معنى لهذه الحياة العدمية العبثية، بل السعادة في الوعي بمعنى الموقف الأخلاقي الذي يعبر عن المعنى الوجودي لكل انسان.

لذلك معظم الناس يبحثون عن مناطق راحة تبعدهم عن الشعور بالآلام، ولكن الحياة الصحيحة السليمة هي التي فيها نمو وتطور وتقدم ونهضة وهي تحتاج الى جد واجتهاد وهذه الجهود تقوم على آلام إيجابية، فالبقاء في منطقة الراحة والحياد بعيدا عن آلام المسئولية يأتي بكوارث وأزمات، فالمجتمعات المتخلفة والمتحطمة هي التي تنغمس في مشروع إصلاحي بسيط يقوم على الشعارات المضللة، مشروع ليس فيه مؤونة وجهد وعمل وصبر، بل مشروع متعجل يحقق لها مغانم سريعة ولذات عاجلة، لذلك يتم تغييب الوعي الإصلاحي العميق.

ولكن الإصلاح الجوهري الذي يخلق النهضة والتغيير هو مشروع ممتد يطول عشرات السنين يقوم على أسس تربوية صحيحة سليمة، وقد نتنازل فيه عن رفاهيتنا ولذاتنا ومتعنا العاجلة، من اجل تحقيق نتائج آجلة، فالإصلاح يقوم على البناء التراكمي المستدام.

لذلك فإن الأمة التي تنهزم في الإصلاح هي الأمة التي تبحث عن اللذة والمتعة، وهكذا فعلوا مع الإمام الحسين (عليه السلام) حيث كانوا يبحثون عن مكاسب ومغانم ومصالح، فالذين يرفعون شعارات الاصلاح تفشل مشاريعهم الإصلاحية لأنه عندما يصلون إلى السلطة ينغمسون في حصد المكاسب والمغانم، معللين ذلك انه لدعم المشروع الإصلاحي، لكن تلك الانتهازية تدمر المشروع الإصلاحي، وهكذا يضمحل الافراد وتموت المجتمعات وتنهزم الأمم.

* حوار بتصرف مع قناة العراقية بمناسبة عاشوراء 1447

اضف تعليق