الحديث عن الدبلوماسية الشعبية أو البرلمانية قد لايكون كافياً في إدارة مستويات التفاعل المختلفة، فقد ينتقل الأمر إلى مشاركة الدبلوماسيين المظاهر الاجتماعية التي تحدث في الدول المضيفة للبعثة الدبلوماسية، إذ قد أخذت هذه الفعاليات الدبلوماسية توجهاً كبيراً وحققت مستويات مهمة من التقارب، أجبرت فيما بعد...
لم تعد الدبلوماسية تتخذ نفس الوسائل التي كانت تعتمد عليها في مراحل مختلفة من الزمن لتنفيذ السياسة الخارجية للدولة، فالمتغيرات الدولية والتبدلات في حركة التفاعلات الدولية ساهمت في إذكاء الرغبة في تسوية الصراعات وتقليص حدود الصراعات المستحكمة إلى مستويات مقبولة من خلال الإقتراب غير المباشر في الفعل الدبلوماسي، والذي يمكن أن ينتج عن طريق وسائل شعبية في بعض الأحيان أو اللجوء إلى توظيف الرموز الثقافية التي يتم إختيارها بعناية من قبل دوائر التخطيط السياسي في وزارة الخارجية المكلفة بإنتاج وسائل جديدة قادرة على نقل الأداء الدبلوماسي من الأنماط الاعتيادية إلى الأنماط الفعالة.
ولأن الصراعات والأزمات الدولية تطفو بشكل مستمر في العلاقات بين الدول فإن الحديث عن الدبلوماسية الشعبية أو البرلمانية قد لايكون كافياً في إدارة مستويات التفاعل المختلفة، فقد ينتقل الأمر إلى مشاركة الدبلوماسيين المظاهر الاجتماعية التي تحدث في الدول المضيفة للبعثة الدبلوماسية، إذ قد أخذت هذه الفعاليات الدبلوماسية توجهاً كبيراً وحققت مستويات مهمة من التقارب، أجبرت فيما بعد صناع القرار على تغيير المسارات التي يتم إتباعها في سلوكهم السياسي تجاه هذه الدول.
على المستوى الفكري، فإنه لا يمكن تصنيف هذه الدبلوماسية إلى أي مسار من مسارات الدبلوماسية الحديثة، فهي تختلف عن دبلوماسية المسار الثاني ذات الإتصال بدبلوماسية المواطن أو الدبلوماسية الشعبية، فهي من حيث الإطار العام تعد دبلوماسية رسمية يتم تنفيذها من قبل موظفي البعثة الدبلوماسية، إلا أنها في نطاق الوظيفة فهي ذات مستوى جديد، إذ ينتقل النشاط الدبلوماسي إلى المجتمع بدلاً من مؤسساتها الرسمية، وهذا ما يجعلها ذات ميزة مختلفة عن الدبلوماسية التقليدية. إذ ستتبدل قواعد البروتكول والأتكيت الخاصة بنشاط البعثة الدبلوماسية من القواعد النظامية الواردة في إتفاقية فينا إلى العادات والتقاليد التي يعيها المجتمع من أجل أن تكون صورة الأداء الدبلوماسي أكثر تأثيراً في ذهنية المتلقي.
ترتبط الدبلوماسية الاجتماعية بجملة من القواعد الخاصة بحدود وإمكانية تنفيذها، إذ ليس من الممكن إعتماد هذه الدبلوماسية كوسيلة للتأثير على القضايا المشتركة بين الطرفين دون موافقة الدولة المضيفة للبعثة الدبلوماسية؛ لأنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية إذا ماكانت المشاركة ذات فهم يناقض فهم البعثة نفسها، فالتقاليد والعادات الاجتماعية لها عناصر إدراك خاصة في ذهنية الفرد يصعب تقدير فهمها لدى المتلقي.
فضلاً عن ذلك، هنالك توقيتات معينة ينبغي على موظفي البعثة الدبلوماسية إتقانها، فالسفير الياباني في العراق (فوميو ايواي) وبعد نشره لمقطع يوضح الإحتفال بعيد الفطر، وكيفية تناول وجبة تشبه طقوس مايقوم به العراقيون في هذه الأيام، إلى جانب قيام السفير التركي (فاتح يلدز) بعدة نشاطات إجتماعية من أهمها: مشاركة الزائرين في زيارة عاشوراء، وإقامة موكب يشاركون فيه الزائرين.
تتطلب الدبلوماسية الاجتماعية وفقاً لهذه القواعد إدراك معادلة التأثير، فعلى الرغم من أن البرنامجين هما يستهدفان المجتمع العراقي إلا أن حدود التأثير مختلفة على مستوى الأداء من ناحية، وعلى مستوى السياسة الخارجية من ناحية أخرى، فالتقارب الجغرافي والمشتركات التاريخية تؤدي دوراً مهماً في هذا المجال وتعمل على نقل نطاق التأثير إلى حدود أبعد، فضلاً عن أن الإتزان في الخطاب الدبلوماسي الموجه للمجتمع المستهدف له فاعلية أكبر.
المستوى الدبلوماسي الأول الذي يخص الدبلوماسية الاجتماعية اليابانية كان لها تأثير كبير من حيث البعد الموضوعي إلا أنه محدود من حيث البعد الزماني، ولعل سبب ذلك، هو طبيعة المصالح المشتركة بين الشعبين الياباني والتركي من جهة والعراقي من جهة أخرى. فالمشتركات الجغرافية والتاريخية بين العراق وتركيا أكبر بكثير منها بالمقارنة مع اليابان، مما جعل حجم التأثير مختلف رغم أن فاعلية الموضوع كانت أكبر في المستوى الأول.
من جهة أخرى، فإنه لا يمكن تجاهل تأثير المصالح في سياسة الدولتين، فإنعكاس الفعل الدبلوماسي التركي على السياسة الخارجية التركية والعراقية كان أكبر بالمقارنة مع السياسة الخارجية اليابانية، فهنالك تبادل تجاري عالي المستوى بين تركيا والعراق فضلاً عن السياحة التي تترك في كثير من الأحيان تأثيرها على المواقف السياسية بين البلدين. فكلما كانت المشتركات أكبر في مستوى المصالح والقرب الجغرافي والتاريخي كانت نتائج الدبلوماسية الاجتماعية أكثر فاعلية وتأثيراً على السلوك السياسي الخارجي للدول التي تتبنى هذا النمط من الدبلوماسية في تقليص مستويات التوتر والصراع بينهما.
إن هذه التقنيات قد ساعدت موظفي البعثات الدبلوماسية في إدارة قضايا التعاون والصراع الخاصة بدولهم فضلاً عن أنها ضاعفت من فرص النجاح في الإنتقال بالعلاقات من مستوى إلى مستوى آخر أكثر قرباً من تحقيق المصالح المشتركة لدولهم. وهنا يتطلب من الدبلوماسيين في وزارة الخارجية العراقية مقاربة نشاطهم الدبلوماسي بهذه التقنيات والتفكير بجدية في كيفية بناء أنماط جديدة من الفعل الدبلوماسي للتأثير على سياسات الدول التي نشترك معهم في مستويات من التوتر أو الصراع لاسيما تلك التي نشترك معها بالثقافة أو التاريخ ضمن دائرة الجوار الجغرافي أو الإقليمي بهذا الشأن، من أجل مواجهة التحديات التي تواجه الدولة في تنفيذ السياسة الخارجية.
اضف تعليق