منذ إستفتاء بريطانيا بشأن الخروج من الإتحاد الأوروبي، ومحاولات التفكير بالنهج الإستراتيجي لمستقبل دول الإتحاد الأوروبي تهيمن على الخيارات السياسية الأوروبية، خصوصاً تلك التي تتعلق بالعلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية من جهة، فضلاً عن الأخرى التي ترتبط بمستقبل التماسك والإندماج داخل الإتحاد الأوروبي. فخروج بريطانيا يعكس العديد من الآثار حول إحتمالات العلاقة بين دول الإتحاد، لاسيما في ضوء سياسة ترامب الشعبوية التي تثير قلق فرنسا وألمانيا بشكل أكثر من أي وقت مضى.
يبدو أن هذا القلق والتوجس من الإحتمالات المستقبلية قد دفع بأبرز قوتين في أوروبا وهي ألمانيا وفرنسا إلى التفكير بآسيا من جديد وهذا ما عكسته زيارة ماكرون لبكين والتوجه الأوروبي الجديد نحو آسيا الذي يساهم في إعادة تقييم العلاقة مع الولايات المتحدة، فالمشروع التجاري الأوراسي الذي أعلنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والرابط بين آسيا وأوروبا عبر روسيا هو مشروع تجاري مهم وذو أبعاد إستراتيجية ستساهم في إعادة رسم خارطة العلاقات الإقتصادية والتجارية بشكل كبير ومؤثر.
يرى بعض المختصين في الدراسات الدولية والإستراتيجية، إن الرؤية الفرنسية الجديدة بشأن التعاون مع الصين سوف تعمل على تغيير بنية العلاقات الأوروبية الأمريكية التقليدية التي كانت تحتكم دائماً إلى الشعور بالإرتباط والحاجة إلى الأمن عبر الولايات المتحدة الأمريكية، فمتغيرات التفاعلات الدولية الجديدة التي جاءت بعد إستفتاء بريطانيا بشأن الإنسحاب من الإتحاد فضلاً عن التعجرف في التفكير الإستراتيجي الأمريكي بعد وصول الرئيس ترامب إلى الإدارة والرؤية التي يتبناها تجاه التحالفات غير المنتجة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية والدور الروسي الجديد يدفع بقادة الإتحاد الأوروبي إلى التفكير بجدية بهذه المتغيرات ومحاولة بلورة إستراتيجية جديدة للتعامل مع البيئة الإستراتيجية المكتظة بالتبدلات والتوازنات المهلهلة.
أصبح التفكير بعالم اللاقطبية على حد تعبير ريتشارد هاس ذا منحى جديد للإستراتيجيات الدولية، فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد القوة الوحيدة القادرة على ضبط التفاعلات بعيداً عن المشاركة مع الحلفاء، فمعظم الأدوار الإستراتيجية تصاغ من خلال دعم الحلفاء ومشاركتهم، ومن ثم من غير الممكن القبول بعالم التفرد كتوصيف عن ذلك، بيد أن الإلتزامات التي تعهدت بها الولايات المتحدة قد لا تتوائم مع طبيعة البيئة الإستراتيجية العالمية، أو قد تكون غير كافية بالنسبة لأوروبا، الأمر الذي يعجل من التفكير بإستراتيجيات جديدة للأمن تضمن الدور الأوروبي في عالم اللاقطبية.
ومن زاوية أخرى، يبدو أن التوجه الذي تتبناه فرنسا يقترب إلى حد ما من مشروع الرئيس شارل ديغول الذي كان يعتقد أن الرقعة الجغرافية للمنطقة الأوراسية هي مهد للثقافة والحضارة الإنسانية وأنها تعد أنموذجاً مهماً للتاريخ البشري، ولعل هذا الإعتقاد القائم على المنظومة الفكرية يفسح المجال إلى أهمية الإقتراب من الصين التي تنسج ذاتها بشكل سريع وبطموحات تفوق ما كان يعتقده البعض من المختصين في العلاقات الدولية.
ووفقاً لذلك، يبدو أن الصين سوف تعمل على توظيف هذا التبدل في الرؤية الأوروبية وهذا الإندفاع بإتجاه آسيا، فعلى الرغم من أنها لا ترغب في المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً في ظل التوجهات التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب بشأن البيئة الإستراتيجية الدولية، إلا أنها لن تترك هذه الفرص ضائعة، فالصين لن تتخلى عن إعادة تقييم دورها في أوروبا بشكل يؤدي إلى شراكة تجارية وإقتصادية مع الدول الأوروبية مما يجعلها تؤثر بشكل كبير على التفاعلات الدولية خاصة إذا ما إمتدت الشراكة إلى منحى إستراتيجي يشمل بعض الجوانب العسكرية والسياسية ذات التفاهمات المشتركة.
ومن الناحية الإستراتيجية، يبدو أن الحسابات المنطقية للقوى الأوروبية والصين كذلك تتجه إلى نفس المداخل المشتركة للتفاهم والإنسجام، فالبيئة الإستراتيجية المحيطة بهما وعلاقاتهما مع الولايات المتحدة تسمح بأن ينسج كلا الطرفين نفوذهما بشكل جديد في مساحات تعاونية جديدة، علماً أن المنحى الإقتصادي والتجاري قد يكون المدخل الرئيسي لذلك. أما من حيث العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، فيبدو أن الأمور والقضايا قد تجبرها على إعادة التفكير من جديد، فالمشاريع الأوروبية بشأن الأمن والدفاع قد تساهم في إعادة تقييم المخاطر الأمنية الجديدة بعد خروج بريطانيا من الإتحاد والتفكير بجدية الإلتزامات الأمريكية بعد توجهات الرئيس دونالد ترامب، الأمر الذي يجعلها تقترب من التعاون مع الصين.
إن اللاقطبية قد تبدأ بنسج خيوطها في أوراسيا، ففي ضوء الفوضى وعدم التجانس في المصالح سيبلور توجهات جديدة للقوى الكبرى في النظام الدولي خصوصاً القوى التعديلية التي ستجد أن البيئة بحاجة إلى جهد جديد لإعادة ترتيب أولويات الأمن الدولي في العالم.
اضف تعليق