في ظل الأوضاع المرتبكة في العالم، يندر أن نجد حكومة نموذجية تقوم على العدل وتحقق الإصلاح التدريجي، وذلك بسبب تداخل المصالح مع بعضها، ونعني بها مصالح الدول كافة، وما ينعكس من العلاقات المتبادلة، من تأثير متبادل بين الدول، فطالما أن العالم يعيش في شبكة متداخلة من العلاقات، وفي خط واحد من التأثير المتبادل بي الدول والمجتمعات، فلا يمكن أن يتحقق نموذج دولة العدالة لاسيما أن الانعزال عن العالم بات مستحيلا.
ولا شك أن الدولة حتى تقترب من النموذج الأفضل تكون بحاجة الى التخطيط الجيد، وهذا التخطيط ينبغي أن يُستمَد من فكر خلاق وتعاليم باهرة ذاك عمق إنساني متميز، وهذا ما تحقق بصورة فعلية إبان حكومة الرسول الكريم (ص) والدولة النموذجية التي بناها على أساس العدل والإصلاح القائم على التدرّج والقبول والاستعداد التام للتطبيق.
وما نراه من خلل في الدول الإسلامية يعود الى أنها عاجزة عن تطبيق الإصلاح الإسلامي، وغير قادرة على تطبيق تعاليم الإسلام، على الرغم من أن دينها الرسمي هو الإسلام، لكنها تنتمي له بالاسم فقط.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) الذي يرد في الكتاب القيم الموسوم (من عبق المرجعية) حيث يقول سماحته: إن (السبب فيما نراه في البلاد الإسلامية اليوم من نواقص، ومشاكل، يعود إلى أنها إسلامية بالاسم فقط، والشعار فحسب، وليس أكثر من ذلك).
علما أن الدولة تعرف ما هي واجباتها تجاه شعبها، فلا توجد حكومة لا تعرف ما هو المطلوب منها، ولكن يبقى مدى استعداد الدولة والسلطة التنفيذية على وجه التحديد مرتبطا بمدى قدرة الدولة على تحقيق العدل ومواصلة الإصلاح التدريجي من خلال بث التعليم وتقليص فجوة الوعي بين شرائح المجتمع كافة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب في الكتاب القيم الذي سبق ذكره: إن (وظيفة الحكومة الإسلامية تجاه الأمة هي حفظ العدل بين الناس، داخلاً وخارجاً، والدفاع بالحياة إلى الأمام، وتوفير الفيء، من الرزق والمال عليهم، وتعليمهم وتثقيفهم، وحفظ أمنهم واستقرارهم).
الإصلاح التدريجي وتكافؤ الفرص
إن فرصة بناء الدولة في ظل الإصلاح التدريجي موجودة، في حال تمسكت الطبقة السياسية بمنهج الإسلام الصحيح الذي يعلن صراحة أن تطبيق الإصلاح أمر مهم وينبغي أن يكون ذا طابع مستدام وتدريجي، لا أن يُفرض بطريقة إجبارية مرتجلة، بل ينبغي أن يخضع ذلك للتدرج والنمو الطبيعي، بعيدا عن التسرّع والابتعاد عن الحكمة والحنكة في التخطيط أو في التطبيق.
لذلك ينبغي مد يد العون لمن يحتاجه، ولابد أن تقوم دولة العدل بدورها الصحيح في هذا المجال، حيث توفر فرص متكافئة لجميع المواطنين، وتقدم لكل فرد ما يناسبه من عمل وفقا لمؤهلاته ومواهبه وقدراته، ولابد أن يكون هناك تدرّج مدروس في هذا الشأن، مع أهمية توافر الدعم المالي وفي مجال الخبرات أيضا، فالانسان اذا وجد الاهتمام والرعاية من الدولة، ولاحظ أنها تمد له يد العون، بحسب مؤهلاته، فإنه لا شك سوف يبذلك قصارى جهوده في العمل الذي يختاره بنفسه وتوفره له الدولة.
نقرأ في هذا المجال قول سماحة المرجع الشيرازي: إن (الإسلام لا يفاجئ الأمة بإصلاحاته، وإنما يتدرّج معهم في تطبيق الإصلاحات، فأولاً يهيئ لمن يعترف بأعمالهم ما يناسبهم من أعمال، ثم يدرّ عليهم من خزينة الدولة ما يساعدهم في شؤونهم، حتى يتم لهم العمل الذي يريدون مزاولته).
ولا شك أن النجاح في الاصلاح المتدرج وتوفير العمل المناسب يحتاج الى قاعدة علمية ووعي جيد وثقافة انسانية تسود الأمة، لهذا لابد أن تتحرك الدولة بقوة في هذا الاتجاه، ونعني به دعم الثقافة الشعبية المتطورة، والنهوض بالوعي المجتمعي على الأصعدة كافة، ومن المهم جدا أن يتم تعميم الثقافة الانسانية بين شرائح المجتمع من دون استثناء.
ولعل تحقيق هذا الهدف يتطلب القضاء على ما يفسد الوعي والثقافة والفكر، كون هذا الثلاثي المعرفي يسهم بصورة حاسمة في زرع روح الابتكار والإبداع في روح الأمة، وهو أمر متاح بطبيعة الحال، في ما لو تم التخطيط له بصورة جيدة، وتم العمل على تحقيقه بصورة فعلية، تستمد أسس النجاح من التخطيط المسبق والسليم، لاسيما أن الاسلام في تعاليمه يشجع على هذا الجانب.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في المصدر نفسه: (يشجّع الإسلام كل ما يؤدّي لنشر الوعي بين الناس ويعمّم الثقافة الإنسانية في الأمة، ويحرّم المفاسد والمغريات في هذه الوسائل، فإذا خلصت منها كان الإسلام من أشدّ المستقبلين لها).
لا قيود ولا أغلال ولا فقر
لهذا عندما تكون الدولة عادلة، والإصلاح مستمر وفعال بصورة متدرجة، سوف تظهر نتائج ذلك في حياة الناس بما لا يقبل التمويه أو الإلغاء، فالشمس لا يمكن أن تُحجَب بغربال، لذلك فإن علامات ازدهار الحياة سوف تكون أحد الأدلة الحاسمة على تحقيق الاصلاح لأهدافه المعمول بها على نحو مستمر، علما أن مبدأ العدالة سوف يساعد على نمو المظاهر الراقية المزدهرة لحياة الناس.
فعدالة الدولة، تعني توافر عناصر التحرر، وغياب الطغيان، وحضور التعدد في أنماط الرأي والتفكير والرؤية، بالإضافة الى تجفيف بؤر الاستبداد بصورة حاسمة في دولة العدالة، ونتيجة لذلك سوف تزدهر الحياة برمّتها، وتتقدم الصناعة والتجارة والزراعة وتتضاعف موارد الدولة، ما ينعكس على الأمن والتعايش ودحر الارهاب بصورة حاسمة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (تزدهر الحياة، بجميع أبعادها وجوانبها، في ظل النظام الإسلامي العادل، فتُعمر الديار، وتُبنى الدور، وتزرع الأرض، وتتقدّم الصناعة، وتتوسع التجارة، وتتراكم الثروة، ويستقرّ الناس في جوٍّ لا ظلم فيه ولا جور، ولا عنف ولا إرهاب).
وعندما يستقر الناس، ويندحر الظلم، ويسود العدل، ويبقى الإصلاح مرابطا على الدول في حضوره وفعاليته، فهذا يعني حضور الحريات بأعلى درجاتها، مع غياب فعلي للقيود بأشكالها كافة، لاسيما تلك التي تؤثر سلبا على تطور الدولة واستقرارها وتقدمها، وقد تحقق كل هذا في النموذج الفعلي لدولة المسلمين عندما كانت القيادة نموذجية بكل ما تعني هذه الكلمة من معنى.
فقد كان الرسول الأكرم (ص) نموذجا قياديا فذّا، سعى لتحقيق دولة العدل في المجالات كافة، مع الحرص على الحضور المستدام لمنهج الإصلاح التدريجي، وهذا أدى الى منح الحريات قوة متعاظمة، فغابت القيود عن الابداع في المجالات كافة، وانعدم الاستبداد بصورة كليّة، واضمحلّت مشكلات الفقر بأنواعها كافة، وساد الدولة طراز فذ من العمران والارتقاء في نمط الحياة، حيث تم استبدال القيم البالية بأخرى مستحدثة، أدت دورها بصورة فعالة في تحديث المجتمع، وانتشرت المحبة بين جموع الناس بغض النظر عن طبيعة الانتماء وسادت الثقة في التعامل، وهي مؤشرات توحي بانتشار العدل في دولة عادلة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: في دولة العدل (لا قيود ولا أغلال، ولا سجن ولا تعذيب، ولا مشاكل ولا فقر، ولذا كان العمران والرقي، والمحبّة والثّقة، إبّان تطبيق الإسلام أمراً عادياً لم يجده العالم في هذا اليوم وإن كثرت فيه الوسائل).
اضف تعليق