ضعف الوعي وقلة الثقافة، قد تجعل الانسان يسير في طريق لا يعرف نتائجه، بل معظم من يصل الى نتائج خاطئة، يجهل الطريق الذي يتحرك فيه، والهدف الذي يسعى إليه، وهكذا هي الشعوب التي حُرمت لسبب أو آخر من الثقافة، وبقي وعيها محدودا بفعل فاعل، وهو الحاكم الطاغية الذي يقف عائقا ام تثقيف الشعب، وزيادة وعيه حتى يبقى تحت السيطرة، فلا نغالي اذا قلنا أن بعض الشعوب المحرومة من الثقافة تساهم في صناعة الطواغيت!.
علما أن الطغيان له أنواع عدة، ومصادره متنوعة، فلا ينحصر التحجيم وكبت الحريات، على أفعال الحكام وأعمالهم المختلفة، بل قد يكون هناك طغيان فكري، يقف الى جانب طغيان الحاكم، وهذا النوع من الفكر قد يأتي من جهل للعواقب، او انه يبحث عن الفائدة والمصلحة والامتيازات، على حساب مجموع الشعب.
لهذا يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الحرية في الاسلام) حول هذا الجانب: (يستعمل الطغيان في الفكر أيضاً، ويراد به عادةً المناهج المنحرفة عن سبيل الله تعالى، ومن هنا تُطلق كلمة الطاغوت على مَن كان في قمة الفكر المنحرف).
وعندما تكون الأولوية لمصالح الانسان الذاتية، بعيدا عن مصالح الكل، فهذا لا يحدث إلا عندما يكون الانسان الفرد غير واعي، ولا يعرف أن مصلحته تكمن في المصلحة العامة وليس في تحقيق المآرب الفردية، ومع ذلك يكون هناك اصرار على اللهاث وراء الفوائد الفردية، للحصول على المنافع الآنية، فيخسر الشعب كله في هذه الحالة عندما يفقد حالات التعاون فيما بينه.
إن مساوئ الحكام في بعض الدول التي تتخذ من الاسلام دينا لها، معروفة بل هي مكشوفة، فمع الاهمال الواضح للشعب، نلاحظ حرص على مصلحة الحاكم وذويه ومعاونيه، حتى تتشكل طبقة سياسية حاكمة، تلهو وتنعم بالامتيازات في الامة تعاني من الحرمان، فالتجارب تؤكد لنا أن الحكام الطغاة لا يعترفون بالدستور، ولا بالحريات الفردية او الجماعية، ودائما يعتقدون بأنهم على صواب، حتى لو أدت قراراتهم الفردية الى الخراب الشامل لحياة الشعوب.
وقد يساعد على هذا المنهج المتعسف والظالم، جهل الناس من دون أن يعرفوا بالنتائج الوخيمة التي يصنعونها بأنفسهم، وهذا ما حدث في الغرب والشرق على حد سواء، في حقب تاريخية ماضية، فمن طبيعة الحكام استغلال جهل العقول والمواقف الجماعية لصالحهم، وصالح بقائهم في السلطة وحماية عروشهم، ولا يهمهم بعد ذلك مصالح الامة او الشعب.
الاسلام يرفض الجهل
وطالما أن جهل الناس كان ولا يزال وسيلة لصناعة الحاكم الطاغية، فإن الاسلام يرفض الجهل، ويدعو الى تنوير العقل الفردي والجمعي معا، فالحل في مواجهة الحاكم المستبد هو الوعي، والاستعداد الدائم للدفاع عن الحريات، لذلك يحاول حكام العصر، توجيه عقول الناس في حدود مصالح الحاكم وليس مصالح الأمة.
وقد سعى هؤلاء الى كسب مساندة المجموع عبر التجهيل، وهو أن تسير الناس في طريقهم ومسارهم، من دون رأي أو صوت معارض، وإلا فإن القصاص سوف يطال حياتهم نفسها، وأرواحهم وأملاكهم وأبناءهم، وبهذا تنتهك الحريات أيما انتهاك، وتصادر الآراء أيما مصادرة، بينما في الفكر الاسلامي لا يوجد هتك للحريات والحقوق مطلقا، بل توجد مؤازرة تامة للحريات والفكر الانساني المتنور.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع تحديدا في كتابه المذكور: (ليكن معلوماً ـ قبل كلّ شيء ـ أنّ الإسلام وحده هو دين الحرّية. فحتّى المدارس والمبادئ الأخرى التي ظهرت منذ قرون وما زالت ترفع شعار الحرّية لا واقع للحرية فيها سوى الاسم. أمّا الإسلام فهو دين الحريات مبدأً وشعاراً، وقولاً وعملاً).
وهذا لا يتم إلا من خلال تثوير الوعي لدى عامة الناس، والتمسك برؤية بعيدة المدى لاصلاح الاوضاع الحياتية والفكرية، وعدم الاستسلام للجهل، والتنبّه لكل ما يدخل في صناعة الطغيان، من افكار وافعال.
وهذا بالضبط ما حدا بالفكر الاسلامي أن يبتعد كليا عن كل مظاهر التجاوز على الحقوق، ولا يعترف بها ويحذر منها، ويدعو الى أهمية تحصين العقل بالفكر الخلاق، من هنا لا يعترف الاسلام، بالحكام الذين يتجاوزون على الحريات، إذ يرى الاسلام، أن الوضع الطبيعي لحركة الناس، والاشياء، والحياة برمتها، ينبغي أن تحكمه الحرية، بحدود عدم التسبب بالضرر للآخرين، ففي الاسلام أنت حر ما لم تضر بحقوق ومصالح الآخر.
وهذا ما أكد عليه سماحة المرجع الشيرازي عندما قال في كتاب (الحرية في الاسلام): (يقول الإسلام: اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة أن لا تضرّ غيرك)، ولعل الهدف من ذلك اطلاق العقول من اسرها، ومضاعفة الوعي والتمسك بالمنهج الثقافي الذي يحد من سلوك الاستبداد الحكومي او سواه، ومن الممكن أن تنتظم الحياة، وفقا لهذا القانون الاسلامي، لتصبح حاضنة ملائمة للفرد والجماعة، بل لشعوب العالم أجمع، لتعيش في اجواء الحرية، التي لا يتحكم بها حاكم مستبد او حكومة لا شرعية وصلت الى سدة الحكم بالقوة الغاشمة.
لا للحكومات الظالمة
ان الأمم الحية هي التي تسمح للحكام ان تقودها بالعدل والاحسان، وليس بالظلم والطغيان، فإذا لم يكن الحاكم عادلا تحاربه، ولا تسانده او تسايره خوفا من القمع والتعذيب وما شابه، لذلك لا خير في امة تصنع الطغاة، من جانب آخر، نحن أمة لها تاريخ حافل في الحلقات المشرقة للاسلام، وينبغي على ساسة اليوم أن يتعلموا من قادتنا العظام، ففي حكومة الامام علي (ع) يتجسد النموذج الامثل للحكم الذي يرعى الأمة، ويساعد على معرفة الحقوق، بعيدا عن القسر والظلم والاجبار.
وهذا في الحقيقة هو دور الحاكم، لا ان يذهب لتحقيق مآربه ومصالحه ومنافعه وذويه، وعندما تطالبه الامة بالاصلاح يوغل بالظلم، وطالما أننا نعرف بأن قلة الوعي والثقافة تكون سببا في دعم الحاكم الطاغية، لاسيما اذا كان الحاكم يميل الى التعسف والقسر، اما اذا كان متسامحا وحريصا على مصالح الامة ومصطفا الى جانبها، فهذا يستدعي المؤازرة من الامة، والوقوف الى جانب الحق، خصوصا اذا كان الحاكم عادلا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الصدد: (كان أمير المؤمنين سلام الله عليه مبتلى بأشخاص ذوي نفسيات وضيعة، تردّ عليه وتقطع كلامه وتجادله بالباطل، بل حتى تتطاول عليه، وهو مع ذلك لا يأمر بقتلهم وسجنهم ونحو ذلك).
وفي الخلاصة، مطلوب من الأمة والشعب، أن يكون واعيا ومسلحا بالثقافة، ورافضا لمنهج الطغيان، وليس داعما له او مشاركا في صناعة الظلم، عبر محاباة السلطة، او الصمت على اخطائها، فمثل هذا الصمت يشجع الحكومات على الانحرف، وينسي طغاة العصر، مصيرهم الذي ينتظرهم، فهم مهددون بالسقوط في الدنيا، ومحاسَبون على جرائمهم في الآخرة، وفي كل الاحول لا ينبغي المساهمة في تشجيع الحاكم على الظلم بل المطلوب هو العكس تماما، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي: (إنّ من عرف الحقّ ولم يترك الباطل فإنّ مصيره يوم القيامة إلى جهنّم وبئس المصير).
اضف تعليق