q
صحيحٌ أن هذه الإنجازات استرعَتْ اهتمام وسائل الإعلام والمستثمرين، إلا أن المجال لم يزل قاصرًا عن بلوغ غايته المنشودة: تحسين الحياة اليومية للأشخاص الذين فقدوا القدرة على الحركة أو النطق. في الوقت الحاليّ، يشغّل المشاركون في الدراسة الواجهات الدماغية الحاسوبية في جلسات موجزة ومكثّفة...
بقلم: ليام درو

يعيش جيمس جونسون على أمل استعادة قدرته على قيادة سيارة يومًا ما. والآن، مستعينًا بأفكاره فحسب، لم يعُد أملُه مستحيلًا على التحقق، تعرَّض جونسون في شهر مارس من عام 2017 لكسرٍ في رقبته إثر حادث بأحد سباقات السيارات الصغيرة (go-carting)، أسفر عن إصابته بشلل تام تقريبًا، بدايةً من أسفل الكتفين. أظهر جونسون قدرةً في التعايُش مع واقعه الجديد أكبر من كثيرين غيره؛ ولا عجب، فقد كان يتولَّى رعاية أشخاص مصابين بالشَّلل على مدى عقود. ومع ذلك يقول: "أصابني اكتئاب حاد"، مضيفًا: "عندما حدث ما حدث، استقر في نفسي أنه لم يَعُد في مقدوري ما أستطيع فعله أو تقديمه".

ولكن سرعان ما تكفَّل فريق إعادة التأهيل المتابع لحالة جونسون بتقديمه إلى باحثين من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا (كالتِك) المجاور له في مدينة باسادينا. وبدورهم، دَعَوه للانضمام إلى تجربة إكلينيكية لدراسة واجهة دماغية حاسوبية (BCI). تقتضي المشاركة في هذه التجربة إجراء جراحة عصبية أولًا لزراعة شبكتين من الأقطاب الكهربية (الإلكترودات) في قشرته الدماغية. هذه الأقطاب الكهربية من شأنها تسجيل نشاط الخلايا العصبية في دماغه عند إطلاقها للإشارات، ثم يستعين الباحثون بخوارزميات لفك رموز أفكاره ومقاصده. بعدئذٍ، يستعين النظام بنشاط دماغ جونسون لتشغيل تطبيقات الحاسوب، أو لتحريك جهاز تعويضي. خلاصة القول أنَّ التجربة كان مقررًا لها أن تستغرق سنوات، وتتطلَّب مئاتٍ من جلسات التدريب المكثفة. ورغم ذلك، وافق جونسون على الفور. يقول: "صِدقًا، لم أتردد".

في المرة الأولى التي استخدم جونسون فيها الواجهة الدماغية الحاسوبية، التي زُرِعَت في دماغه في نوفمبر 2018، استطاع تحريك مؤشر عبر أنحاء شاشة الحاسوب. قال متذكِّرًا: "شعرت كما لو أنني داخل فيلم «ذا ماتريكس» The Matrix"، وأردف قائلًا: "ما إن تمَّ التَّوصيل بالحاسوب، حتى أصبح في إمكاني – ويا للعجب! – تحريكُ المؤشر بمجرد التفكير في ذلك".

ومنذ ذلك الحين، يعتمد جونسون على هذه الواجهة الدماغية الحاسوبية في التحكم في ذراع آلية (روبوتية)، واستخدام برنامج تعديل الصور «فوتوشوب» Photoshop، ولعب ألعاب الفيديو التي تتضمَّن إطلاق النار (shoot’em-up). وفي الوقت الحاليّ، يستخدمها كذلك في محاكاة قيادة سيارة في بيئة افتراضية؛ إذ يتولَّى تغيير سرعة السيارة وتوجيهها والتفاعل مع المخاطر. ويقول: "أنظر بدهشة إلى الأشياء التي أصبح في إمكاننا فعلها.. شيءٌ مذهل بحق".

جونسون واحد من نحو 35 شخصًا خضعوا لعملية زراعة واجهة دماغية وحاسوبية في أدمغتهم لفترات ممتدة. ولا يُجرِي هذا النوع من الأبحاث غير 12 مُختَبَرًا تقريبًا، لكن هذا العدد آخذٌ في الزيادة. وفي السنوات الخمس الماضية، اتَّسع نطاق القدرات التي يُمكِن لهذه الأجهزة أن تستعيدها اتساعًا هائلًا. ففي السنة الماضية وحدها، أورد العلماء حالة مشارك في إحدى الدراسات يستخدم ذراعًا آلية (روبوتية) بإمكانها إرسال ردود فعل حسيّة إلى دماغه مباشرةً1؛ وجهاز تحدُّث تعويضي لشخص أُصيب بسكتة دماغية أفقدته القدرة على النطق2؛ وحالة شخص قادر على التواصل بسرعات قياسية عن طريق تخيُّل نفسه يكتب بخط يده3.

شركةٌ واحدة هي التي تتولى، حتى الآن، تصنيع الغالبية العظمى من الأجهزة المُخَصَّصة للزراعة في الدماغ من أجل التَّسجيل طويل المدى من الخلايا العصبية المفردة، هي شركة تطوير الأجهزة الطبية «بلاك روك نيورو تِك» Blackroc Neurotech، التي يقع مقرّها في مدينة سولت ليك سيتي بولاية يوتا الأمريكية. إلا أنه خلال السنوات السبع الماضية، تصاعد الاهتمام التجاري بالواجهات الدماغية الحاسوبية تصاعدًا مفاجئًا. في عام 2016، على وجه الخصوص، دشَّن رجل الأعمال إيلون ماسك شركة «نيورالينك» Neuralink في مقاطعة سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا، بهدف الربط بين البشر والحواسيب. وقد جمعت الشركة مبلغ 363 مليون دولار أمريكي. وفي العام الماضي، اجتذبت أيضًا شركة «بلاك روك نيورو تِك»، وعددٌ من الشركات الأخرى الأحدث العاملة في مجال تطوير الواجهات الدماغية الحاسوبية، دعمًا ماليًا كبيرًا.

غير أن طرح واجهة دماغية حاسوبية في السوق يستلزم تحويل تقنية مُصَمَمّة لأغراض خاصة، ولم تُختَبَر ميدانيًّا سوى على عدد قليل من الأشخاص، إلى مُنتَج يُمكِن تصنيعه وزراعته واستخدامه على نطاق واسع. يُنتظر من التجارب الكبيرة إثبات أن الواجهات الدماغية الحاسوبية يُمكِن أن تعمل خارج السياقات البحثية، وأنها تُحَسِّن حياة المستخدمين اليومية تحسينًا واضحًا، وبأسعارٍ تناسب الطرح التجاري في الأسواق. وعلى الرغم من أنه لا يوجد إطار زمني محدَّد لتحقيق تلك الأهداف كلها، فلا مراء في أنَّ المجال آخذٌ في الصعود. يقول مات أنجل، الرئيس التنفيذي لشركة «بارادروميكس» Paradromics والمؤسّس لها، وهي شركة تكنولوجيا عصبية مقرّها مدينة أوستن بولاية تكساس: "البشر يبحثون عن طريقة ما لمداواة الأشخاص المصابين بالشَّلل منذ آلاف السنين. ها نحن الآن على أعتاب امتلاك تقنيات بمقدورنا الاستفادة منها لبلوغ تلك الغاية".

تطوُّر الواجهة

في يونيو 2004، زرع الباحثون شبكةً من الأقطاب الكهربية في القشرة الحركية لدماغ رجل أُصيب بالشَّلل إثر تعرُّضه لحادث طعن. كان أول شخص يخضع لعملية زراعة واجهة دماغية حاسوبية طويلة الأمد. ومثل معظم الأشخاص الذين خضعوا للعملية نفسها، كان إدراكه سليمًا. فكان بإمكانه تخيُّل أنه يتحرك، لكنه فقد المسارات العصبية التي تصل قشرته الحركية بعضلاته. كان الباحثون قد تمكنوا من فك رموز حركات الحيوانات من واقع التسجيلات المأخوذة خلال الوقت الفعلي للنشاط العصبي في القشرة الحركية، بعد عقود من العمل في عديد من المُختَبَرات وإجراء تجارب على القِرَدة. ومن ثمَّ، تطَّلعوا وقتها إلى استنباط الحركات التي يتخيَّلها الشخص من خلال نشاط الدماغ في المنطقة نفسها.

وفي عام 2006، بيَّنت ورقة بحثية بالغة الأهمية4 كيف تَعَلَّم الرجل تحريك مؤشر عبر أنحاء شاشة الحاسوب، والتحكم في جهاز التلفاز، واستخدام ذراعين ويدين آليتين بمجرد التفكير. شارك في قيادة الدراسة لي هوشبيرج، اختصاصي علم الأعصاب وطبيب أعصاب مختص بالرعاية الحرجة في جامعة براون بمدينة بروفيدانس، بولاية رود آيلاند، وفي مستشفى ماساتشوستس العام في مدينة بوسطن. كانت هذه التجربة هي الأولى ضمن مجموعة من التجارب التي أُجريت في مراكز متعددة، وسُميَّت باسم «براين جيت» BrainGate، ولا تزال مستمرة إلى الآن.

يقول هوشبيرج: "كان عرضًا عمليًّا وبسيطًا وبدائيًّا للغاية"، موضحًا: "كانت الحركات بطيئة أو غير دقيقة، أو اتسمت بالصفتين معًا. لكنها أظهرت أنه قد يكون من المُمكِن إجراء التسجيل من القشرة الدماغية لشخص لم يكن قادرًا على الحركة، والسماح له بالتحكم في جهاز خارجي".

يتمتَّع مستخدمو الواجهات الدماغية الحاسوبية حاليًا بتحكّم أفضل بكثير، وبإمكانية الحصول على طائفة أوسع من القدرات. جانبٌ من ذلك يرجع إلى أن الباحثين قد بدأوا زراعة عدّة واجهات في مناطق مختلفة من دماغ المُستَخدِم، كما ابتكروا طرقًا جديدةً للتعرُّف على الإشارات المفيدة. لكن هوشبيرج يقول إن الدَّفْعة الأهم جاءت من تقنيات تعلُّم الآلة (machine learning)، التي أدَّت إلى تحسين القدرة على فك رموز النشاط العصبي. فبدلًا من محاولة فهم ما تعنيه أنماط النشاط، تحدد هذه التقنيات الأنماط بكل بساطة، وتربطها بمقصد المُستَخدِم.

وأضاف هوشبيرج: "نمتلك المعلومات المتعلقة بالنشاط العصبي، ونعرف ما يحاول ذلك الشخص الذي يُوَلِّد البيانات العصبية فعله، ونطلب من الخوارزميات رسم خريطة تربط الشيئين. وكان واضحًا أن هذه التقنية قوية إلى حدٍّ بعيد".

التحرُّك دون مساعدة

عند سؤال الأشخاص المُصابين بالشلل عما يبتغونه من التقنية العصبية المُساعِدَة، تكون إجابتهم في أغلب الأحيان: "الاستقلال"، أو التحرُّك دون مساعدة. أما الأشخاص غير القادرين على تحريك أطرافهم، فتكون استعادة الحركة هي جُل ما يريدون.

يتمثل أحد النُهُج المستخدمة في زرع أقطاب كهربية تحفّز عضلات أطراف الشخص مباشرةً، ثم السماح لواجهة دماغية حاسوبية بالتحكم فيها بشكل مباشر. وفي هذا الإطار، يقول بولو أجيبوي، اختصاصي علم الأعصاب في جامعة كيس وسترن ريزيرف، بمدينة كليفلاند في ولاية أوهايو: "إذا استطعنا التقاط الإشارات القشرية الأصلية المتعلّقة بالتحكّم في حركات اليد، فسوف يكون بإمكاننا تجاوز إصابة الحبل الشوكي والتوجّه من الدماغ إلى النهايات العصبيّة مباشرةً".

وفي عام 2017، أوضح أجيبوي وزملاؤه أن أحد المشاركين في دراسة يجرونها استخدم هذا النظام لأداء حركات معقَّدة بالذراع، من بينها شرب فنجان من القهوة وإطعام نفسه5. يقول أجيبوي: "عندما بدأ مشاركته في الدراسة لأول مرة، كان عليه أن يفكر بجهد شديد بشأن تحريك ذراعه من النقطة «أ» إلى النقطة «ب». ولكن مع تلقيه مزيدًا من التدريب، لم يكن تحريك ذراعه يتطلَّب أكثر من مجرد التفكير في ذلك". استعاد المشارك كذلك الشعور بأن الذراع تخصه.

ويحرص أجيبوي في الوقت الحاليّ على إثراء مخزون إشارات الأوامر التي يستطيع نظامه فك رموزها، عبر إضافة الإشارات المتعلّقة بقوة القبضة على سبيل المثال. ويرغب أيضًا في أن يمنح مستخدمي الواجهات الدماغية الحاسوبية إحساسًا باللمس، وهو هدف تسعى إليه مُختَبَرات عدة.

عام 2015، أفاد فريق من الباحثين بقيادة روبرت جاونت، اختصاصي علم الأعصاب في جامعة بيتسبرج في ولاية بنسيلفانيا، بزراعة مصفوفة أقطاب كهربية في المنطقة المرتبطة باليد في القشرة الحسّية الجسدية للشخص، حيث تجري معالجة معلومات اللمس6. وعندما استخدموا الأقطاب الكهربية لتحفيز الخلايا العصبية، شعر الشخص بشيء يشبه اللمس.

انضم جاونت بعد ذلك إلى زميلته في جامعة بيتسبرج، جينيفر كولينجر، اختصاصية علم الأعصاب التي تعمل على تطوير التحكّم في الأذرع الآلية (الروبوتية) من خلال الواجهات الدماغية الحاسوبية. ابتكر العالِمان معًا ذراعًا آلية مزوَّدة بمستشعرات ضغط مُدمَجة في أطراف أصابعها، تبعث إشارات إلى الأقطاب الكهربية المزروعة في القشرة الحسية الجسدية لاستثارة حاسة لمس اصطناعية1. يوضِّح جاونت أن شعور اللمس لم يكن شعورًا طبيعيًا تمامًا، بل كان في بعض الأحيان شعورًا أشبه بالضغط أو النكز، وفي أحيان أخرى كان أقرب إلى الأزيز. ومع ذلك، فإن ردّ الفعل اللمسي جعل استخدام الطرف التعويضي يمنح شعورًا أكثر طبيعية، مع انخفاض الوقت المُستَغرَق لالتقاط الأشياء إلى النصف، من نحو 20 ثانية إلى 10 ثوان.

زراعة المصفوفات في مناطق الدماغ التي تؤدي مهامَّ مختلفة يُمكِن أن تضيف تفصيلًا وتميّزًا إلى الحركة بطرقٍ أخرى. على سبيل المثال، يحاول ريتشارد أندرسن، اختصاصي علم الأعصاب الذي يقود التجربة في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، والتي يشارك فيها جونسون فكَ رموز الأهداف الأميَل إلى الطابع التجريدي لدى مستخدمي الواجهة، بالاستعانة بالقشرة الجدارية الخلفية (PPC)، والتي تصُوغ نية الحركة أو التخطيط للتحرُّك7؛ أي إنها قد تُرَمِّز فكرة "أريد مشروبًا"، في الوقت الذي توجّه فيه القشرةُ الحركية اليدَ إلى القهوة لالتقاطها، ثم تجلب القهوة إلى الفم لتناوُلها.

تعكف مجموعة أندرسن البحثية على دراسة كيف لهذا الإدخال المزدوج أن يدعم أداءَ الواجهة الدماغية الحاسوبية. يقارن الباحثون بين المنطقتين القشريتين، عند استخدامهما معًا أو كلًّا على حِدة. وتُبيِّن النتائج، التي لم تكن نُشرَت حتى تاريخ نشر هذه المقال في نسخته الإنجليزية، أن نوايا جونسون يُمكن فكّ رموزها على نحوٍ أسرع في القشرة الجدارية الخلفية، "وهي المنطقة نفسها التي تختص بترميز الهدف من الحركة"، حسب قول تايسون أفلالو، وهو باحث أول في مُختَبَر أندرسن. وفي المقابل، يستمر نشاط القشرة الحركية طيلة الحركة بأكملها، ويقول أفلالو: "هذا يقلل اضطراب المسار".

هذا النمط الجديد من الإدخال العصبي يساعد جونسون وغيره على توسيع نطاق ما يمكنهم فعله. وهكذا يكون في مقدور جونسون أن يستخدم جهاز محاكاة القيادة، ويكون في مقدور مشارِكة أخرى أن تعزفَ على بيانو افتراضي.

ترجمة الحركة إلى معنى

يقول إدوارد تشانج، جرَّاح الأعصاب واختصاصي علم الأعصاب في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو: "إحدى أكثر العواقب المُدَمِّرة الناجمة عن إصابات الدماغ هي فقدان القدرة على التواصل". في المراحل الأولى من العمل على الواجهة الدماغية الحاسوبية، تَمَكَّن المشاركون من تحريك مؤشر عبر أنحاء شاشة حاسوب عن طريق تخيُّل تحريك أياديهم، ثم تخيَّلوا أنهم يُمسكون شيئًا كي "ينقروا" على الحروف، ما أتاح وسيلة لتحقيق التواصل. غير أنه في الآونة الأخيرة، أحرز تشانج وفريقه تقدّمًا سريعًا من خلال استهداف الحركات التي يستخدمها الناس بشكل طبيعي للتعبير عن أنفسهم.

في عام 2017، وضع فريق بقيادة كريشنا شينوي، اختصاصي علم الأعصاب في جامعة ستانفورد بولاية كاليفورنيا، معيارًا لقياس التواصل عن طريق التحكم بالمؤشر، يُقدَّر بنحو 40 حرفًا في الدقيقة8.

وفي الدراسة التي نشرتها هذه المجموعة العام الماضي3، قدَّمت نهجًا مكَّن دينيس ديجراي، وهو مشارك في الدراسة يستطيع التكلُّم ولكنه مُصاب بالشلل بداية من الرقبة إلى أسفل، من مضاعفة عدد الحروف في الدقيقة.

اقترح فرانك ويليت، زميل شينوي، على ديجراي أن يتخيّل ممارسة الكتابة اليدوية في أثناء إجراء الباحثين عملية تسجيل الإشارات من قشرته الحركية (انظر الشكل المُعنوَن: ترجمة الأفكار إلى كلمات). لاقى النظام بعض الصعوبات أحيانًا في تحليل الإشارات المتعلِّقة بالحروف التي تُكتَب بخط اليد بطريقة مشابهة، مثل الحروف الإنجليزية «r» و«n» و«h»، ولكن يمكن القول إنه، بشكل عام، تمكَّن من تمييز الحروف بسهولة. بلغتْ نسبة دقة خوارزميات فك الرموز 95% عند بدء الدراسة، ولكن عندما خضعت للتصحيح التلقائي باستخدام نماذج اللغة الإحصائية المشابهة لبرنامج النص التنبُّئي في الهواتف الذكية، قفزت النسبة إلى 99%.

يقول شينوي: "أصبح في الإمكان فك رموز حركات دقيقة للغاية على نحوٍ سريعٍ بحق، بمعدل 90 حرفًا في الدقيقة".

زُرعَت في دماغ ديجراي واجهة دماغية حاسوبية، تعمل بشكل جيّد منذ ما يقرب من ست سنوات، ويمكن القول إن له باعًا في تلك التجارب، بالنظر إلى أنه شارك في 18 دراسة أجرتها مجموعة شينوي البحثية. ذكر ديجراي أنَّ أداء المهام أصبح سهلًا إلى حدٍّ مذهل، مشبِّهًا العملية بتعلُّم السباحة. قال: "تتعثَّر كثيرًا في البداية، ثم، فجأة، يصير كل شيء واضحًا".

يركز نهج تشانج، الذي يهدف إلى استعادة التواصل، على التكلُّم عوضًا عن الكتابة؛ وإن كان ذلك بالاستعانة بمبدأ لا يختلف عن ذلك المُستَخدم في حالة الكتابة. فمثلما تتألَّف الكتابة من حروف مختلفة، فإن الكلام يتألَّف من وحدات قائمة بذاتها، تُسمَّى الأصوات اللغوية (phonemes). تتألَّف اللغة الإنجليزية من نحو 50 صوتًا، ينشأ كل صوت منها عن طريق حركة نمطية للمجرى الصوتي واللسان والشفتين.

عملت مجموعة تشانج في البداية على توصيف الجزء المسؤول عن توليد الأصوات اللغوية، ومن ثمَّ الكلام، في الدماغ؛ وهو منطقة غير مُحَدَّدة بوضوح، تُسمَّى القشرة الحنجرية الظهرية. ثم طبَّق الباحثون الأفكار التي خلصوا إليها في ابتكار نظام لفكّ رموز الكلام، وهو نظام يعرض الكلام الذي يقصده المستخدم في صورة نصٍ على الشاشة. في العام الماضي، أفاد الفريق بأن هذا الجهاز مكَّن شخصًا – كان قد تعرَّض لسكتةٍ في جذع الدماغ فَقَد على إثرها القدرة على النطق – من التواصل باستخدام مفردات مُحَدَّدة مسبقًا، مُؤلَّفة من 50 كلمة، وبمعدل 15 كلمة في الدقيقة. يقول تشانج: "ويبقى أهم ما تعلَّمناه هو أن فك رموز كلمات كاملة لم يعد أمرًا نظريًا، بل صار ممكنًا بحق".

وعلى خلاف الأسلوب المُتَّبَع في تحقيق الانجازات الأخرى البارزة للواجهة الدماغية الحاسوبية، لم يستقِ تشانج تسجيلاته من الخلايا العصبية الفردية. عوضًا عن ذلك، استخدم أقطابًا كهربية تُوضع على السطح القشري من شأنها استشعار متوسّط نشاط مجموعات الخلايا العصبية. ولم تتسم الإشارات الناتجة بنفس مستوى دقة الإشارات الخارجة من الأقطاب الكهربية المزروعة في القشرة، ولكن النهج المتّبع كان أقل انخراطًا.

يحدث فقدان التواصل في صورته القصوى لدى الأشخاص الذين يُصابون بحالة انحباس تام (ما يُعرف بالسُّبات الكاذب)، وهي حالة يبقى فيها الشخص واعيًا، إلا أنه غير قادر على النطق أو الحركة. في شهر مارس، أفاد فريق، ضم أوجوال تشودري اختصاصي علم الأعصاب وآخرين في جامعة توبنجن بألمانيا، باستئناف9 التواصل مع رجل مُصاب بالتصلُّب الجانبي الضموري (الذي يُعرَف بمرض العصبون الحركي، ويُشار إليه بالاختصار: ALS). وقد كان الرجل يعتمد في السابق على حركات العين في التواصل، لكنه، شيئًا فشيئًا، فَقَد القدرة على تحريك عينيه أيضًا.

حصل فريق الباحثين على موافقة من عائلة الرجل على زراعة واجهة دماغية حاسوبية، وطلبوا منه تخيُّل حركات كي يستخدموا نشاط دماغه في اختيار الحروف على شاشة. وعندما فشل ذلك، جرَّبوا تشغيل صوت من شأنه محاكاة نشاط دماغ الرجل (مثَّلت النغمة الأعلى نشاطًا أكثر، والنغمة الأقل نشاطًا أقل) وعلَّموه ضبط نشاطه العصبي لزيادة حدة إحدى النغمات للإشارة إلى «نعم»، وخفضها للإشارة إلى «لا». أتاح له ذلك التنسيقُ انتقاءَ حرفٍ كل دقيقة، أو نحو ذلك.

يختلف هذا النهج عما ورد في ورقة بحثية10 نُشِرَت عام 2017، استخدم فيها تشودري وفريقه تقنية غير تدخلية لقراءة نشاط الدماغ. وقد أُثيرَت بشأن هذه الدراسة أسئلة أفضت في النهاية إلى سحبها، إلا أن تشودري لا يزال متمسكًا بها.

إن كان ثمة ما يمكن أن نستشفَّه من دراسات الحالة المشار إليها في هذا المقال، فهو أن هذا المجال يسير سريعًا نحو النضج، وفق قول إيمي أورسبورن، الباحثة المتخصصة في استخدام الواجهات الدماغية الحاسوبية في الرئيسيات غير البشرية بجامعة واشنطن في مدينة سياتل. تقول أورسبورن: "كان هناك ارتفاع ملحوظ في عدد الدراسات الإكلينيكية، والطفرات المُحَقَّقة في المجال الإكلينيكي"، موضحةً أن ذلك "يأتي مقترنًا بالاهتمام المتصاعد بين أرباب الصناعة".

من المُختَبَر إلى السوق

صحيحٌ أن هذه الإنجازات استرعَتْ اهتمام وسائل الإعلام والمستثمرين، إلا أن المجال لم يزل قاصرًا عن بلوغ غايته المنشودة: تحسين الحياة اليومية للأشخاص الذين فقدوا القدرة على الحركة أو النطق. في الوقت الحاليّ، يشغّل المشاركون في الدراسة الواجهات الدماغية الحاسوبية في جلسات موجزة ومكثّفة؛ ولا مفرَّ من توصيل أجسامهم – جميعًا تقريبًا - توصيلًا سلكيًا بصفٍّ من الحواسيب، ويتولَّى الإشراف عليهم فريق من العلماء الذين يعملون باستمرار على صقل أجهزة فك الرموز، والبرامج المرتبطة بها، وإعادة ضبطها. يقول هوشبيرج، متحدِّثًا بصفته طبيب أعصاب مختصًا بالرعاية الحرجة: "ما أريده هو أن يكون الجهاز متوافرًا، ويُمكِن وصفه بوصفة طبية، ومُعَدًّا سَلَفًا على النحو الذي يتيح استخدامه بسرعة". علاوة على ذلك، من الأفضل أن تُصمَّم هذه الأجهزة كي تدوم لدى المستخدمين مدى الحياة.

ويتعاون الآن عديد من روَّاد الأكاديميين مع شركات لتطوير أجهزة قابلة للتداول التجاري. وفي المقابل، شارك تشودري في تأسيس شركة غير هادفة للربح في مدينة توبنجن، تُدعَى «إيه إل إس فويس» ALS Voice، لتطوير التقنيات العصبية للأشخاص المُصابين بالانحباس التام.

كانت الأجهزة الحالية، التي وفَّرتها شركة «بلاك روك نيورو تِك»، إحدى الركائز الرئيسية التي قامت عليها البحوث الإكلينيكية طوال 18 عامًا، وترغب الشركة في تسويق نظام واجهة دماغية حاسوبية في غضون عام، وفقًا لرئيس مجلس الإدارة فلوريان زولتسباخر. قطعتْ الشركة خطوة نحو تحقيق هذا الهدف في شهر نوفمبر الماضي، عندما أخضعت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA)، التي تضع القواعد المنظِّمة للتعامل مع الأجهزة الطبية، منتجات الشركة لعملية مراجعة سريعة لتيسير تطويرها تجاريًّا.

في المنتج الأول، سوف تُستخدَم أربع مصفوفات مزروعة في الدماغ، تتصل عبر أسلاك بجهاز مُصَغَّر، ويأمل زولتسباخر في أن يُبَيِّن هذا المنتج كيف لهذه التقنية أن تحسن حياة مستخدميها. قال: "نحن لا نتحدث عن تحسُّن في الفاعلية بنسبة 5 أو 10 أو 30%، بل عن تمكين الناس من فعل شيء لم يكن بوسعهم فعله من قبل".

وتعمل شركة «بلاك روك نيورو تِك» أيضًا على تطوير واجهة دماغية حاسوبية لاسلكية قابلة للزرع بالكامل، الهدف منها تيسير الاستخدام، وانتفاء الحاجة إلى إحداث منفذ لتوصيل الأسلاك في جمجمة المستخدم. وقد استهدفت شركتا «نيورالينك» و«بارادروميكس» إضافةَ هذه الميزات منذ البداية إلى الأجهزة التي تطوِّرانها.

تهدف هاتان الشركتان أيضًا إلى تعزيز عرض النطاق التردّدي للإشارة، والذي من شأنه تحسين أداء الجهاز، عن طريق زيادة عدد الخلايا العصبية التي يُسَجَّل نشاطُها. يُذكَر أن واجهة شركة «بارادروميكس»، التي يجري اختبارها حاليًّا على الأغنام، بها 1600 قناة، مُقَسَّمة إلى أربع وحدات.

أما نظام شركة «نيورالينك» فيستخدم أقطابًا كهربية دقيقة للغاية ومرنة، تُسَمَّى الخيوط، وهي مُصَمَّمة للانحناء مع الدماغ وتقليل التفاعلات المناعية، وفق ما يقوله شينوي، وهو خبير ومستشار للشركة. والهدف من وراء ذلك جعل الجهاز أكثر متانة، والتسجيلات أكثر استقرارًا. لم تنشر شركة «نيورالينك» أي أبحاث خضعت لمراجعة الأقران، لكنها أفادت، في تدوينة نُشِرَت عام 2021، بإجراء زراعة ناجحة لهذه الخيوط في دماغ قرد لتسجيل النشاط العصبي في 1024 موضعًا (انظر: go.nature.com/3jt71yq). ويود الأكاديميون لو تُنشر هذه التقنية في ورقة بحثية كي تخضع لتدقيق كامل. وحتى الآن، لم تختبر شركة «نيورالينك» نظامها سوى على الحيوانات فقط، لكن أجيبوي يقول: "إذا ثبتت صحة ما يدَّعون، فسوف نكون بإزاء نقطة تحول مهمة".

أجرت شركة واحدة فقط، إلى جانب شركة «بلاك روك نيورو تِك»، عملية زراعة طويلة الأمد لواجهة دماغية حاسوبية لدى البشر، وقد يكون تداول هذه الواجهة أسهل من نظيراتها. تُدعى هذه الشركة «سينكرون» Synchron، ومقرّها مدينة نيويورك، وقد طوَّرت جهاز «ستينترود» Stentrode، وهو عبارة عن مجموعة مؤلفة من 16 قطبًا كهربيًا تحيط بدعامة من دعامات الأوعية الدموية11. يجري تركيب هذا الجهاز في عيادة خارجية خلال يوم واحد، ويُمَرَّر عبر الوريد الوِداجِيّ وصولًا إلى وريد موجود أعلى القشرة الحركية. زُرِع هذا الجهاز أول مرة لشخص مُصاب بمرض التصلُّب الجانبي الضموري في شهر أغسطس من عام 2019، وأخضعت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية التقنية لمسار مراجعة سريع بعد ذلك بعام.

وعلى غرار الأقطاب الكهربية التي يستخدمها تشانج، يفتقر جهاز «ستينترود» إلى دقة الأجهزة الأخرى، لذا يتعذر استخدامه للتحكم في الأطراف التعويضية المُعَقَّدة. ولكنه يسمح للأشخاص الذين لا يستطيعون الحركة أو الكلام بالتحكم في مؤشر على جهاز حاسوبي لَوحي، ومن ثَمَّ إرسال الرسائل النصية وتصفُّح الإنترنت والتحكم في التقنيات المتصلة.

يقول توماس أوكسلي، طبيب الأعصاب الذي شارك في تأسيس شركة «سينكرون»، إن الشركة في الوقت الحاليّ تقدِّم نتائج تجربة أجرتها لدراسة جدوى الجهاز بمشاركة أربعة أشخاص من أجل نشرها، وقد استخدم المشاركون في هذه التجربة الجهاز اللاسلكي في المنزل متى اختاروا ذلك. يقول أوكسلي: "لا يوجد أي ملحقات تخرج من الجسم، والجهاز يعمل طوال الوقت"، مضيفًا أن الخطوة التالية، قبل التقدم بطلب للحصول على موافقة إدارة الغذاء والدَّواء، تتمثَّل في إجراء تجربة على نطاق واسع لتقييم ما إذا كان الجهاز يُحَسِّن الأداء الوظيفي وجودة الحياة بطريقة مُجدية أم لا.

تحديات على الطريق

يتبنَّى معظم الباحثين العاملين على الواجهات الدماغية الحاسوبية نظرةً واقعية بشأن التحدّيات التي تواجههم. يقول شينوي: "إذا رجعنا خطوة إل الوراء لإلقاء نظرة أشمل، فسنُدرك أن تلك الواجهة تنطوي على درجةٍ من التعقيد أكبر من أي جهاز آخر متعلق بالأعصاب صُنع على الإطلاق"، وأضاف: "أكبر الظن أننا سنمرُّ بسنوات صعبة قبل أن تصل هذه التقنية إلى مستوًى أعلى من النضج".

وتشدد أورسبورن على ضرورة أن تتمتع الأجهزة التجارية بإمكانية العمل دون إشراف خبير لمدة أشهر أو سنوات، وأن تؤدّي وظائفها بشكل جيد لدى كل مستخدم على حدٍّ سواء. وتتوقَّع أن تقود التطورات في تقنيات تعلُّم الآلة إلى معالجة المسألة الأولى عن طريق تزويد المستخدمين بخطوات إعادة الضبط، وترك مهمة تنفيذها لهم. لكن تحقيق أداء متسق بين مختلف المستخدمين قد يمثّل تحديًّا أكبر.

تقول أورسبورن: "التباين من شخص لآخر هو الأمر الذي لا أعتقد أننا نقف فيه على أبعاد المشكلة بشكلٍ واضح". ففي الرئيسيات غير البشرية، الاختلافات الصغيرة في وضع القطب الكهربي، مهما كانت صغيرة، قد تؤثر في ماهية الدوائر التي يُسجَّل نشاطُها. ويغلُب على ظن أورسبورن أيضًا أنَّ هناك خصائص متفرّدة مهمة تميّز طرق تفكير الأفراد المختلفين وتعلُّمهم على وجه الدقة، فضلًا عن الطرق التي تأثرت بها أدمغة المستخدمين حسب حالاتهم المرضية المختلفة.

وفي النهاية، هناك ما يُشبه الإجماع على ضرورة أن تواكب الرقابة الأخلاقية هذه التقنية سريعة التطور؛ ذلك أنَّ الواجهات الدماغية الحاسوبية تثير شواغلَ متعدّدة، من الخصوصية إلى الاستقلالية الشخصية. ويشدّد اختصاصيو علم الأخلاق على وجوب احتفاظ المستخدمين بالتحكم التام في مُخرَجات الأجهزة. وعلى الرغم من أن التقنيات الحالية لا تستطيع فك رموز الأفكار الخاصة للأشخاص، سوف يحُوز المطورون سجلاتٍ لكل عملية من عمليات التواصل التي يُجريها المستخدمون، إلى جانب بيانات بالغة الأهمية بخصوص صحة أدمغتهم. علاوة على ذلك، تُبرِز الواجهات الدماغية الحاسوبية نوعًا جديدًا من مخاطر الأمن السيبراني.

وثمة خطر آخر يواجه المشاركين، وهو احتمالية ألا تحصل أجزتهم على دعم تقني على الدوام، أو أن تتوقف الشركات التي تُصَنِّعها عن العمل. وهناك بالفعل حالات تعرَّض فيها المستخدمون للخذلان عندما تُرِكَت أجهزتهم المزروعة دون دعم تقني.

بَيْدَ أن ديجراي يتوق إلى رؤية الواجهات الدماغية الحاسوبية تصل إلى عدد أكبر من الأشخاص. ويقول إن أكثر ما يود الحصول عليه من التقنية المُساعِدة هو أن تُمكِّنه من حك حاجبه. يقول: "الجميع ينظرون إليَّ وأنا جالس على الكرسي ويقولون دائمًا: يا له من رجل مسكين، لم يعد بإمكانه لعب الجولف بعد الآن. وهذا أمر سيئ، لكن الرعب الحقيقي يكون في منتصف الليل، عندما يمشي عنكبوت على وجهك. تلك هي الأمور السيئة بحق".

أما جونسون، فالأمر بالنسبة له يتعلَّق بالصِلات البشرية ورد الفعل اللمسي، كعناق من أحد الأحباء. يقول جونسون: "إذا تَمَكَّنّا من تحديد الخلايا العصبية المسؤولة عن ذلك، وتمرير نشاطها بطريقة ما إلى جهاز تعويضي في أحد الأيام مستقبلًا، عندئذٍ سأشعر بالرضا التام عن جهودي التي بذلتها في هذه الدراسات".

اضف تعليق