في كربلاء المقدسة، الجانب المعنوي له بالغ الأثر في نجاح التنوع الاجتماعي لأن الاندماج الحاصل أساساً مصدره الروح الحسينية فقط، الامر الذي يدعونا للالتفات لحفظ هذه الروحية والهوية المتميزة بين الهويات الأخرى ذات البعد المعنوي في العالم، فأن يكون الانسان كربلائياً، يعني بالضرورة ان يكون حسينياً...
بإمكان كربلاء المقدسة اليوم أن تتحول الى أجمل وأكبر مدينة متنوعة اجتماعية بالعالم، فهي السباقة بين عديد دول العالم في جذب اعداد كبيرة من اتباع الجنسيات والقوميات المختلفة حول العالم لتشكل فسيفساء رائعة لمجتمع متجانس على بقعة ليست بالكبيرة، قياساً بالمساحات الواسعة في المدن الكبيرة بالعالم.
فكيف حصل هذا التنوع؛ ليس اليوم، وإنما ازدهر منذ حوالي سبعين سنة في بقعة جغرافية تحيط بالمرقدين الشريفين فقط؟
هل العلم والتجارة فقط؟!
نقرأ في المصادر التي أرّخت لهذه المدينة المقدسة، أن التجارة الرابحة بسبب توافد الآلاف –في الأزمنة الماضية- ثم الملايين من الزائرين لمرقد الامام الحسين، وأخيه أبي الفضل العباس، عليهما السلام، والحركة النشطة للبيع والشراء، والفندقة، والنقل، الى جانب طلب العلوم الدينية، دفع بالايرانيين والهنود، والخليجيين، والكشميريين، والبلوش، وغيرهم لاتخاذ هذه المدينة وطناً دائماً يقيمون فيه.
هذان السببان، ربما يكونا عاملان مؤثران في تشكّل صورة المجتمع الكربلائي، بيد أن العامل المحوري الأكثر تأثيراً نجده في المرقد الشريف لسيد الشهداء، عليه السلام، وإلا فان في العراق مدن مقدسة أخرى، مثل النجف الأشرف، والكاظمية، وسامراء، وفيها أئمة معصومين عظام، بيد أن القضية تختلف عند الامام الحسين، عليه السلام، فهو من جهة التأكيدات الوافرة في الاحاديث عن رسول الله، والأئمة الهداة، بضرورة المداومة على زيارته كل ليلة جمعة، وفي مناسبات عدّة على طول السنة، ومن جهة أخرى، لا تقل أهمية عن هذا؛ في الجانب الاجتماعي والنفسي والوجداني المغروس في نفوس المسلمين، وتحديداً شيعة أهل البيت، عليهم السلام.
فقبل أن تنتهي المعركة باستشهاده، عليه السلام، وجه الامام الحسين رسالته الإنسانية الى أهل العالم، ومنهم من كان أمامه في تلك البرهة الزمنية، وهي الرسالة المدوية على مر الأجيال والعصور، ترنّ في أسماع الناس، تدعوهم الى الحرية، والكرامة الإنسانية، وتحكيم العقل وشرع الله –تعالى-.
أول درس فهمه الناس من مدرسة النهضة الحسينية؛ العطاء. وهي خصلة أخلاقية وثيقة الصلة بالفطرة الإنسانية، إنما تحتاج لتنمية وتحفيز، وهو ما نراه جلياً على أرض كربلاء، ولذا فان القادم من أية بقعة في العالم الى أرض كربلاء لا يستشعر بأي نوع من الغربة، وهذه خاصية ليست بالسهلة واليسيرة التكرار في بقاع أخرى، فالانسان، في كل الأحوال، ربما يزور بقاع وأماكن مختلفة بقصد السياحة والاستجمام، وحتى طلب العلم، او التجارة والاستثمار، بيد أنه يبقى متعلقاً بوطنه الأم، ويجد بقاءه مرهوناً بنجاحه في تحقيق تلكم المقاصد، وإلا فان الغربة تحفه أينما حلّ وارتحل، ويُشار اليه بأنه "ينحدر من أصول كذا..."، بينما لا نلاحظ هذا في كربلاء مطلقاً، فنحن نسمع بشخص جاء آباؤه وأجداده من هضبات التبت على الحدود الصينية، او من كشمير، او من بلاد ايران، ولكن يعد نفسه كربلائياً بامتياز رغم أنه يحمل اللقب "القزويني" مثلاً، أو الكشميري، وما الى ذلك من الألقاب والكُنى التي ترمز الى مناطق نائية وبعيدة، بيد أن الهوية الكربلائية تغلبت عليها وصارت هي الأول.
طبعاً؛ هذا ما يتعلق بمن هم في البقاع البعيدة في العالم، أما من هم في العراق، فهم بالأساس ليسوا بعيدين ولا هم بحاجة الى كثير عناء ليكونوا كربلائيين، فهم من الناحية النفسية والاجتماعية والوجدانية يحملون وهج الولاء والحب للإمام الحسين، عليه السلام، ولنهضته المدوية، وإذا نرى ثقافة العطاء المنتشرة داخل وخارج كربلاء، فان الفضل فيها الى هذا التنوع المتجانس بين أبناء القوميات والجنسيات المختلفة في هذه المدينة، فهذا من أبرز ما يجمعهم تحت خيمة الامام الحسين، عليه السلام.
التنوع مصدر التقدم
من ركائز التقدم في جميع شعوب العالم؛ التنوع الاجتماعي، بالمقابل؛ فان سبب الفشل والتخلف في التقوقع والغرور بالنفس والهويات الفرعية مثل؛ القومية، والوطنية، والعرقية، وهي الحقيقة التي أشار اليها سماحة المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- في عديد مؤلفاته عن ضرورة التنوع الاجتماعي في البلد بغية استحصال الخبرات والتجارب على طريق التنمية والتطور، ويأتي بأمثلة بارزة مثل؛ الولايات المتحدة الأميركية، وحتى بلدان مثل اليابان والصين وألمانيا والهند وغيرها، لم تصل الى مراتب التقدم التقني والعلمي لولا الانفتاح على الآخرين، ومغادرة معقل القومية والعرقية.
واليوم حتى الشركات التجارية العملاقة، مثل شركات استخراج النفط، والبتروكيمياويات، وإنشاء الطرق والجسور، وصناعة الطائرات، فهي أصبحت ضمن ما يسمى بـ "شركات متعددة الجنسية"، فالتنوع يعدونه مكسباً مالياً وعلمياً في الوقت نفسه.
هذه الروحية في العمل كانت متوفرة في كربلاء المقدسة منذ عقود طويلة، ولكن بشكل بدائي وعفوي غير منتظم في قواعد علمية وقوانين اقتصادية ثابتة لأنه كان قائماً على نظرية سليمة بلورها سماحة المرجع الشيرازي الراحل في عديد مؤلفاته ومنها: "القوميات في خمسين سنة، فقد ذكر حواراً جرى مع محامي من دعاة القومية في كربلاء في ستينات القرن الماضي موضحاً له بأن "بُني الإسلام الاجتماع على أساس الكفاءة، قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}، بينما تبني القومية الاجتماع على أساس القوم"، وفي جوابه على الهاجس الموجود لدى الرجل بأن "إذا فتحنا أبواب العراق لكل المسلمين، صارت نفوسها مائة مليون، ولم يبق للعربي العراقي حتى رغيف الخبز"؟! فقال له المرجع الراحل: "بالعكس إذا فتحنا أبواب العراق بوجه كل مسلم، كانت العراق، كأمريكا ـ ولا مناقشة في المثال ـ تجتمع فيه الكفاءات مما يوجب تقديم البلاد إلى الأمام"، ثم أردف سماحته: "أعطني العراق أطبق لك ما أقول في أقل من خمسة سنوات، ثم أردفت، ألم يطبقها الإسلام؟ وألم تطبقها أمريكا؟ ولا مناقشة في المثال، وهل الأمر المثالي قابل للتطبيق"؟
المحورية للهوية
إن التقدم العلمي والتقني لم يلغ بأي حال من الأحوال هوية الشعوب التي حملت على اكتافها المكتشفات والابداعات، فالشعب الصيني المعروف اليوم بانتاجه مختلف اشكال السلع الاستهلاكية، وبشكل مذهل، لم يتخلّ عن هويته الاجتماعية، فهو يحتفظ بتقاليده وآدابه وأعرافه، وكذا الحال في اليابان، وفي اوربا، وأميركا، فهذه تعد القاعدة الرصينة التي يقف عليها الانسان المبدع، وإلا فانه سيتحول الى آلة الى جانب الآلات والأدوات المصنعة، ما أن تصاب بالعطب ترمى جانباً، بينما الانسان المصنّع والمبدع يدّعي لنفسه الإرادة والعزيمة والإصرار والصبر، وكل عوامل التجدد النفسي والروحي لمزيد من العمل والإنتاج.
وفي كربلاء المقدسة، الجانب المعنوي له بالغ الأثر في نجاح التنوع الاجتماعي لأن الاندماج الحاصل أساساً مصدره الروح الحسينية فقط، الامر الذي يدعونا للالتفات لحفظ هذه الروحية والهوية المتميزة بين الهويات الأخرى ذات البعد المعنوي في العالم، فأن يكون الانسان كربلائياً، يعني بالضرورة ان يكون حسينياً، وكما أراد له الامام الحسين، والقيم والمبادئ التي ضحى من أجلها.
اضف تعليق