يطلق الجناح لغة على الميل والكنف. فمن لا يملك مالاً فليس له كنف مال، والجاهل ليس له كنف علم.
إنّ ما يستفيده الطائر من جناحيه متوفّر لدى الإنسان أيضاً ولكن بصفة أخرى. فكما أنّ الجناح يعدّ مصدر قوّة ووسيلة يستعين بها الطير على الطيران، فكذلك الإنسان ومن باب المجاز يكون له جناح متمثّلاً بقواه التي يستعين بها على الخوض في أمور الحياة. فالعلم والمال والعضلات والذكاء والعشيرة(1) وغيرها، كلّها تعدّ أجنحة يستطيع الإنسان التحليق بها في حياته؛ فمن طريق هذه الأجنحة يعي الإنسان الأشياء ويبيع ويشتري ويبطش أو يعفو، ويحفظ من المعلومات ويستنتج من التحاليل أو يكون مرهوب الجانب.
ولاشكّ أنّ العلم الذي يتمتّع به الإنسان إنّما هو نعمة تكرّم الله تعالى بها عليه كسائر المواهب والقدرات، لذا يجدر به أن يحسن التصرّف بهذه النعمة كما في غيرها، فيكون ذلك في رضا الله تعالى.
إنّ الإمام زين العابدين سلام الله عليه يسأل الله تعالى في هذا المقطع أموراً تعدّ هي الأخرى من حلية الصالحين وزينة المتّقين، منها خفض الجناح، حيث يدعو الله تعالى أن يمكّنه من الإمساك بجناحه والسيطرة عليه وخفضه عند مواضع رضاه سبحانه وتعالى؛ فلا يتكبّر الإنسان بعلمه على الناس، فيخفض جناح علمه لمن سواه، وكذلك الأمر بالنسبة لسائر الأجنحة، فلا يبطر بماله وجاهه، ولا يطغى بقوّته البدنية، ولا يسيء استخدام ذكائه، ولا يتعصّب لعشيرته وذوي قرابته، كما لا يستميلهم في الباطل على خصمه.
ولابدّ للمؤمنين أن يقتفوا أثر الإمام سلام الله عليه ـ لأنّه الأسوة والقدوة لهم ـ فيسعوا في التحلّي بهذه الخصلة بمعونة الله تعالى.
خفض الجناح نيّة وسجيّة
إنّ خفض الجناح لدى الإنسان يُعدّ من مصاديق الخلق الحسن الذي ينبغي أن يكون عليه، لكي يكون بواسطته أهلاً لأن يشقّ طريقه في الحياة بقليل من الصعوبة، وهذا يوجب محبوبيّته عند الناس أيضاً، وإنّه ـ خفض الجناح ـ أمر صعب جدّاً، إلا أنّه ممكن تحقيقه.
روي عن إسحاق بن عمّار عن الإمام الباقر سلام الله عليه أنّه قال: «إنّ الخُلق منحة يمنحها الله خلقه، فمنه سجيّة ومنه نيّة».
قال إسحاق: فقلت: فأيّهما أفضل؟
قال: «صاحب السجيّة هو مجبول لا يستطيع غيره، وصاحب النيّة يصبر على الطاعة تصبّراً فهو أفضلهما»(2).
فبدءاً، يكشف الإمام الباقر سلام الله عليه أنّ الخلق الحسن ـ ومنه التواضع والصدق وخفض الجناح ـ نعمة قد تكرّم الله بها على خلقه.
ثمّ يؤكّد أنّ هذه الأخلاق تكون على نحوين:
الأوّل: السجيّة، أي طبيعة متأصّلة في ذات الإنسان بفعل عامل التربية والأجواء التي يعيش فيها، كأن يكون الجوّ المنزلي أو العام جوّاً أخلاقياً طيّباً، فينمو الإنسان في ظلّه، فيتطبّع بالأخلاق الطيّبة. وهذا يكون من السهل عليه الالتزام بالأخلاق الفاضلة، بل قد يصعب عليه خلافها.
الثاني: النيّة، أي الإرادة والقصد إلى الفعل الحسن والخلق الحسن؛ بمعنى أنّ الشخص بحاجة إلى إرادة وتصميم ليشقّ طريقه في الحياة. فالذي ترعرع في أجواء غير حميدة أخلاقاً، تراه يعاني كثيراً لكي يلتزم بالأخلاق الفاضلة والسلوك الطيّب. وهذه المعاناة، إنّما تقف وراء تحمّلها نيّة صادقة وإرادة قاهرة لتجاوز الحالة أو الطبيعة السيّئة التي يعيشها المرء مع نفسه أو مع غيره.
ولذلك فإنّ صاحب الطبيعة أو السجيّة الحميدة لا يستطيع التخلّي عنها بسهولة، أي من الصعب عليه أن يستبدل بها غيرها، فلا يتكبّر مثلاً، لأنّه مجبول على التواضع، ولا يسرق لأنّ الأمانة تسري في عروقه.
أمّا صاحب النيّة فتجده يكابد ويقسو على نفسه ليصبّرها على الطاعة والخلق الحسن. فعندما يحاول أن يكون متواضعاً ذا خلق حسن يجد في نفسه امتناعاً عن ذلك، حينئذ تراه يصبّرها جهاداً ليرقى بمستواها حتى تأخذ طابعاً جديداً ومسلكاً طيّباً عبر إرادة صلبة. فكان ـ والحال هذه ـ صاحب النيّة المكافح أفضل درجة وأرفع منزلة.
إمكان التغيير رغم صعوبته
أمّا الذي يبدي عجزه عن إحداث التغيير في نفسه وسلوكه نحو الأحسن، بذريعة الرواسب العالقة في ذاته، فغير صائب في ذلك لأنّ عملية التغيير ممكنة وإن كانت صعبة. والأمثلة على ذلك.
من المعروف وجود التنافر بين رئة الإنسان وبين الدخان الداخل فيها يفوق التنافر الذي بينه وبين أعضاء أخرى من بدن الإنسان بما فيها العين؛ وذلك بسبب حساسية الرئة ولطافتها ورقّتها من جهة، ولكونها العضو المهمّ في عمليّة التنفّس من جهة أخرى. ولكننا مع ذلك نلاحظ أن كثيراً من الناس يقومون بإدخال كميات كثيرة من الدخان إلى رئاتهم عبر السجائر بشوق ورغبة، بل أن بعضهم يشتاق إلى السجائر أكثر من شوقه إلى ألذّ الأطعمة، فكيف بلغوا هذه الحالة؟
لاشكّ أنّ هذه الحالة لم تحصل دفعة واحدة بل حصلت بالتدريج، ولاشك أنّ الرئة قاومت الأمر بردّ فعل شديد في المرّة الأولى، ولكن شيئاً فشيئاً بدأت المقاومة تخفّ، حتى تبدّلت إلى شوق ورغبة.
ينقل أنّ طبيباً قال لأحد المدمنين على التدخين: إنّ الدخان يُنقص من عمرك إلى حدّ النصف، فإذا كان عمرك سيبلغ المئة عام دون تناولك السجائر فإنّه سيتدنّى إلى الخمسين معها. فقال الرجل: إنّ خمسين سنة مع السيجارة أفضل عندي من مئة سنة بدونها! وكان الرجل صادقاً في كلامه؛ لما يحسّ من ضعف في نفسه عن ممارسة إرادته التي دفنها بنفسه.
وعلى كلّ حال فإنّ إمكانيّة أن يبدّل الإنسان طبعه بإرادته لا يخلو من صعوبة ولكنّه يمكن تجاوزها مع العزم والإصرار، وهكذا الأمر في ترك التدخين فهو الآخر بحاجة إلى نيّة صادقة وعزم شديد، بل هكذا هو الحال في التحلّي بالأخلاق الفاضلة عموماً، ومنها خفض الجناح.
الأئمة سلام الله عليهم أفضل قدوة
يروى عن الإمام محمد الباقر سلام الله عليه أنّه لقي في طريق عودته من الشام إلى المدينة نصرانياً ديرانياً فسأله النصراني: أأنت من علمائها ـ أي المدينة ـ أم من جهّالها.
ورغم أنّ الإمام الباقر لا يمكن أن يُقاس به أحد، إلا أنّه اختار جواباً هو الغاية في الحكمة، والقمّة في التواضع وخفض الجناح.
قال الإمام: «لستُ من جهّالها»(3).
فعدم ادّعائه سلام الله عليه العلم في معرض جوابه، بل التلميح له من خلال نفي الجهل عنه، يعتبر القمّة في الخلق الرفيع والتواضع رسمه لنا سلام الله عليه.
تأسّي العلماء
إن الكثير من علمائنا عملهم هكذا في مواجهة من يسيء إليهم؛ متأسّين في ذلك بسادة الخلق أهل البيت سلام الله عليهم الذين كانت من أولويّاتهم وقبل كلّ شيء هداية الناس.
يُنقل عن هؤلاء العلماء، أنّ أحدهم لما أتمّ تأليف موسوعة فقهيّة له، في النجف الأشرف بعد جهد جهيد(4)، جاءه أحد المدرّسين فقال له: إنّ الشيخ الأنصاري رحمه الله قد رفع المستوى العلمي في النجف بكتبه القيّمة، وأنت قد أخفضته بكتابك هذا.
وكان بإمكان مؤلف ذلك الكتاب أن يطرد هذا الرجل وينهره ويهينه ـ من خلال استفادته من مكانته المرجعية ـ أو مواجهته مواجهة علمية يبطل فيها زعمه في ادعائه. إلا أنّه لم يختر لا هذا ولا ذاك، بل قال له بكلّ أدب وتواضع وخفض جناح: وكيف تقارنني بالشيخ الأنصاري، أين أنا من الشيخ، حبّذا لو تدوّن ملاحظاتك على الكتاب، لأكون شاكراً لك.
فلم يسع الرجل حينها سوى الاعتذار إلى ذلك المرجع وطلب الصفح عنه لما بدر منه من تحامل عليه، بالإضافة إلى أنّه حدث في ذلك الرجل بسبب هذا التواضع وخفض الجناح تغيّر كليّ تجاه ذلك المرجع.
بنود خفض الجناح
لا ينحصر التواضع في كلمات معدودة أو سطور بقدر ما هو حياة عملية يعيشها المرء في أكثر أوقاته؛ وقد أشار الإمام الصادق سلام الله عليه إلى أربعة بنود فيه(5)، في قوله:
1. «من التواضع أن ترضى بالمجلس دون المجلس» فلا يتوقّع الإنسان أن تكون له الصدارة دائماً في كلّ مجلس؛ وإن كان مستواه العلمي أو السياسي أو الاقتصادي أو غير ذلك أعلى مرتبة من غيره، بل يجلس بما إنتهى به ولا يتعقّب أسباب ذلك، بل يقبل به تواضعاً، فلا يعتبر نفسه أرفع مكاناً من الآخرين، إذ الناس مهما تفاوتت مستوياتهم المادّية، تبقى لهم كراماتهم ومشاعرهم الإنسانية، فلا موجب للمساس بها عبر التكبّر وتصعير الخدّ لا سمح الله.
ينقل عن أحدهم أنّه تعوّد سنين طويلة على الوقوف في الصف الأول لأداء صلاته خلف إمام الجماعة، وكأنّ ذلك المشهد صار جزءاً لا يتجزّأ من صلاته. وذات يوم جاء كعادته لأداء صلاة الجماعة فرأى المسجد مكتظّاً بالمصلّين ولا مجال له للوقوف سوى في الصفّ الأخير، فاستاء أيّما استياء! واضطرّ للصلاة في الصفّ الأخير.
ولكن وهو في أثناء صلاته كأنّ نوراً قد أضاء في قلبه ـ وكان هذا بمثابة فرصة ذهبيّة لهدايته من قبل الله تعالى ـ حين تنبّه لنفسه وللغرور الذي أصابه بإصراره على أداء الصلاة في الصفّ الأوّل، فرأى نفسه بعد ذلك مجبراً على إعادة كلّ صلاة كان قد صلاّها في الصفّ الأوّل، احتياطاً ـ خوفاً من أن تكون باطلة ـ لما شابها من الرياء والتكبّر.
2. «وأن تسلّم على من تلقى» أي لا فرق بين من تعرفه ومن لا تعرفه، الكبير والصغير، العالم والجاهل، الغنيّ والفقير؛ لما لذلك من أثر في إبراز أجمل صور التواضع في الإنسان؛ لأنّ إبداء السلام تستلزم كبح الذات وتأديبها وإيقافها دون انطلاقها نحو الكبر وتصوّر الأفضليّة.
3. «وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً». والمقصود بالمراء الجدال غير المثمر الذي لا يراد عبره التوصل إلى النتيجة المطلوبة، بقدر ما يريد المرائي أن يظهر أنه الأفهم وأنّ رأيه هو الصحيح، فالذات ونصرتها هي الهدف. وهذا مذموم في الإسلام.
يُنقل أنّ الشيخ البهائي رحمه الله ـ وكان المرجع الديني الأعلى في إيران قبل حوالي أربعمائة عام ـ زار النجف الأشرف والتقى هناك المقدّس الأردبيلي رحمه الله ـ الذي كان معروفاً بأعلميّته وكراماته ومدى اقتدائه بأهل البيت عليهم الصلاة والسلام ـ فدار أثناء لقائهما حوار علميّ بينهما، شوهد خلاله المقدّس الأردبيلي يتقطّع في الجواب، مما ترك انطباعاً لدى الحاضرين بأعلمية الشيخ البهائي بما قدّمه من أدلّة وآراء. وفي اليوم التالي عندما ذهب الرجلان إلى مقبرة وادي السلام لقراءة سورة الفاتحة على أرواح المؤمنين ذكر المقدّس الأردبيلي ضعف أدلّة الشيخ البهائي التي قدّمها يوم أمس بالنقض والتحليل، حتى اقتنع الشيخ البهائي بصحّة آراء المقدّس الأردبيلي، وعندما سأله الشيخ البهائي عمّا إذا كان قد عكف ليلة أمس في البحث عن الأدلّة الأكثر عمقاً؟ أجابه المقدّس الأردبيلي بأنّه كان على اطّلاع بها ولكن منزلته ـ أي منزلة الشيخ البهائي ـ كضيف فضلاً عن شهرته العلمية ومكانته الدينية، منعت المقدّس الأردبيلي من الردّ ومن كشف ضعف أدلّة الشيخ أو خطأ رأيه على مرأى من الناس، أما هنا، فلا يوجد ذلك المحذور، مما يصحّح إثبات رأيه العلمي ونحو ذلك.
وهذه الأخلاق الحميدة وخفض الجناح هو الذي أبقى اسم المقدّس الأردبيلي والشيخ البهائي وأمثالهما من علمائنا رغم مرور مئات السنين على وفاتهم.
4. «وأن لا تحبّ أن تحمد على التقوى». ولعلّ هذه الخصلة هي الأصعب من بين الخصال، إذ الحبّ وعدمه لهما مقدّمات كثيرة، فإنّ الحبّ عاطفة، وهذا ما لا يمكن السيطرة عليه بسهولة قياساً بإمكانية السيطرة على الجوارح والحواسّ. فعندما تكون مثلاً عالماً فقيهاً أو خطيباً بارعاً ولا تحبّ أن تُمدح على هذه المميزات، فذلك من الصعوبة بمكان، لذا ينبغي للإنسان أن يروّض نفسه على عدم حبّ هذا المديح، فلا يستاء إذا لم يؤدّ الناس له ما دأبوا عليه من مدحٍ لذلك.
فبمثل هذا التواضع وخفض الجناح يبقى ذكر المرء مدى الدهر، فقد كان في زمن المقدّس الأردبيلي الكثير من الأثرياء، ولكن التأريخ لم يأت لهم بذكر، لأنّهم اعتمدوا في حياتهم على ثرواتهم فقط، فذهبوا كما ذهبت ثرواتهم كهشيم تذروه الرياح، وبقي تراث المتّقين المتواضعين مدرسة معطاء لمن يريد أن ينهل من معينها.
حسن السيرة وقوّة الشخصية
ومن جملة ما يطلبه الإمام السجّاد سلام الله عليه من الله تبارك وتعالى من الأخلاق الحميدة التي تعدّ من حلية الصالحين وزينة المتّقين: حسن السيرة وسكون الريح. يقول عليه السلام: وحسنِ السيرة وسُكونِ الرّيح.
وحسن السيرة إنّما يتحقّق بحسن السريرة. فإذا كان باطن المرء طيّباً طاهراً كان ظاهره كذلك فالسريرة الطيّبة تنعكس على شخصية الفرد وتصرّفاته، والعكس بالعكس، حتى أنّ الإنسان ليلمسها في نفسه ويراها رأي العين.
فمن كانت سريرته طيّبة، لا تصدر عنه تصرّفات تنمّ عن الكبر والغضب والعنف، سواء كان ذلك من خلال العين أو اللسان أو سائر جوارحه، حين تعامله مع أسرته، أو ما يحيط به من أفراد المجتمع على مختلف أطيافهم وأصنافهم. قال أمير المؤمنين سلام الله عليه: طوبى لمن ذلّ في نفسه، وطاب كسبه، وصلحت سريرته (سيرته)، وحسنت خليقته، وأنفق الفضل من ماله، وأمسك الفضل من لسانه(6).
وبما أنّ قضية حسن السيرة مهمّة ومصيرية في حياة الفرد، لذا فمن الجدير بالإنسان المؤمن أن يدعو الله تعالى لينعم عليه بهذه الصفة الخيّرة، ويكون دعاؤه دعاء المضطرّ، فيدعو من كلّ قلبه وبكلّ صدق وثقة ليحصل على ما يريد.
سكون الريح
تعدّدت الشروح والبيانات لعبارة «سكون الريح» لكنّ الأرجح أنّ كلمة «سكون» تعني الثبات. أمّا كلمة «الريح» فهي استعارة للتعبير عن شخصية الإنسان، فيكون معنى سكون الريح، ثبات الشخصية وعدم تزعزعها، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾(7) أي تزول قوّة شخصيتكم ويتفتّت كيانكم.
إنّ حسن السيرة وسكون الريح من صفات الصالحين وحلية المتّقين، فالتصرّف اللائق وقوّة الشخصية، والاتّزان في المواقف والسلوك تأخذ بالإنسان نحو التقوى والصلاح. فلا تجدون صالحاً تقيّاً يميل مع الرياح أينما تميل، كأن يعتنق اليوم مذهباً وغداً يؤمن بآخر، أو يدافع عن جهة أو شخص ما دون أن يزن موقفه وفق موازين التقوى والصلاح المذكورة في كتاب الله وسيرة النبي وآل بيته عليهم الصلاة والسلام. هذا بينما ضعيف الإيمان يتحرّك وفق هواه والأجواء، فبدافع حبّ المال وطلب الجاه يمدح هذا أو ذاك، فلا يرى شخصه ولا يهتمّ لكرامته بقدر اهتمامه بمن حوله، وشدّة حرصه على تحصيل المكاسب الآنية الزائلة، فهو لا يهتمّ فيما إذا كان هذا الموقف حقّاً أم باطلاً، لأنّه لا يجد متّسعاً ـ تحت وطأة ميوله وهوى نفسه ـ لاحترام هذه القاعدة الشرعية والإنسانية لأنّ نفسه قد استولت على شخصيته وكرامته حتى أعمته عن الرؤية الصحيحة، تلك الرؤية التي يجب عليه أن يرى من خلالها الواقع بمنظار الصلاح والتقوى.
مثال على الذين يميلون مع الريح
لعلّكم كُلُّكم قد وصل إلى سمعكم إسم (شبث بن ربعي)، هذا الشخص الذي يُعدّ من النماذج الأبرز للشخصية المتزلزلة، حيث يُنقل عنه أنّه قد بدّل معتقده قرابة خمس أو ستّ مرّات أو أكثر من ذلك!! فهو الذي كان يقاتل في ركاب الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، وكان يوصف بالذكاء الانتفاعي، أو ما يُطلق عليه بالواقعية النفعيّة، أي يتصرّف وفق ما يمليه عليه الواقع وما يدرّه عليه بغضّ النظر عن مدى حسنه أو بشاعته. فقد روي أنّ أمير المؤمنين سلام الله عليه اختاره من بين عشرات الآلاف من جنوده بمعيّة بشر بن عمرو وسعيد بن قيس للتفاوض والمحاججة مع معاوية؛ لعلّه يؤوب الى الطاعة في اتّباع أمر الله سبحانه، وذلك قُبيل واقعة صفين. كما أنّه كان من الذين كتبوا للإمام الحسين سلام الله عليه الكتب التي تطلب منه أن يقدم إلى الكوفة، بعد أن أعلن ورفاقه نقض بيعة يزيد بن معاوية.
ولكنّه حيث كان ميّالاً مع كلّ ريح، فقد انتهى به الأمر للاشتراك بمباشرة ذبح سيد الشهداء سلام الله عليه، فضلاً عن قتاله والتأليب عليه، فكان مثال العالم الضالّ المتذبذب، الذي كان قد مدح أمير المؤمنين يوماً، وذمّه يوماً، وكاتب الإمام الحسين يوماً، وقتله يوم عاشوراء وهو يعلم أنّه ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ووصيّه، حتى أنّه كان من أمره أن بنى
مسجداً عرف باسمه قد أسّس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنّم. ففي مرسلة صفوان عن أبي عبد الله قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام نهى بالكوفة عن الصلاة في خمسة مساجد...ومسجد شبث بن ربعي...»(8).
وعن سالم عن أبي جعفر قال: «جدّدت أربعة مساجد بالكوفة فرحاً لقتل الحسين... ومسجد شبث بن ربعي»(9).
ومن قبله كان أبو هريرة نموذجاً بيّناً لعدم الثبات في المعتقد وانعدام الشخصية، فهذا الرجل الذي يصفونه بأنّه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، ويتردّد اسمه كثيراً في كتب العامّة وأعلامهم وكأنّه حامل لواء الإسلام والمدافع عن حياضه، ينقل عنه التاريخ، أنّه قال: الصلاة خلف عليّ أتمّ، وسماط معاوية أدسم، والوقوف على التلّ أسلم(10)! أي أنّه كان يصلّي خلف عليّ، ويأكل عند معاوية، وإذا نشبت الحرب تنحّى ووقف متفرّجاً على بعد!
الكذب والفجور
روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: «إيّاكم والكذب، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار»(11)؛ لأنّ الكذب ليس مجرد مخالفة المعتقد، وإنّما هو مخالفة الواقع أيضاً.
قال الله سبحانه وتعالى بشأن المنافقين: ﴿إذَا جَاءَكَ المُنَافقُون قَالُوا نَشهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعلَمُ إنَّكَ لَرَسولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إنَّ المنَافِقِينَ لَكَاذِبُون﴾(12) فقولهم «إنّك لرسول الله» إنّما هو خلاف ما يضمرون؛ لكونهم كافرين بالله قبل إنكارهم الرسالة، فلسانهم ينطق بما لا يعتقدون، كذلك كان أبو هريرة ومثله شبث بن ربعي، الذي كان يكذب حتى في قتاله إلى جانب أمير المؤمنين سلام الله عليه، لأنّ قتاله كان نابعاً عن قلب متزلزل مضطرب، فكان شأنهما ومن شاكلهما في ذلك مصداقاً لقوله تعالى: ﴿مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إلَى هَؤلاَءِ وَلاَ إلَى هَؤلاَء﴾(13).
لذا يجدر بالإنسان أن يهتمّ كلّ الاهتمام بحسن سريرته كما يهتمّ بحسن سيرته لأنّه مهما حاول التظاهر بالصلاح فإنّه لا محالة سينكشف إن كانت سريرته طالحة، وإذ ذاك يكون الغرم عليه أفدح وأفظع.
الاعتبار بقصص الماضين
كانَ عَلى عَهْدِ رَسُول اللَّه صلى الله عليه وآله مُؤْمنٌ فَقيرٌ شَديدُ الْحَاجَة منْ أَهْل الصُّفَّة وكَان مُلازماً لرَسُول الله صلى الله عليه وآله عنْدَ مَوَاقيت الصَّلاة كُلِّها لا يَفْقدُهُ في شَيْء منْها وكَان رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله يَرقُّ لَهُ ويَنْظُرُ إلَى حَاجَته وغُرْبَته فَيَقُولُ: يَا سَعْدُ لَوْ قَدْ جَاءَني شَيْءٌ لأَغْنيْتُكَ.
فَأَبْطَأَ ذَلكَ عَلَى رَسُول الله صلى الله عليه وآله فَاشْتَدَّ غَمُّ رَسُول الله صلى الله عليه وآله لسَعْد، فَعَلمَ اللهُ سُبْحَانَهُ مَا دَخَلَ عَلَى رَسُول الله منْ غَمِّه لسَعْد، فَأَهْبَطَ عَلَيْه جَبْرَئيلَ عليه السلام ومَعَهُ درْهَمَان، فَقَالَ لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللَّهَ قَدْ عَلمَ مَا قَدْ دَخَلَكَ منَ الْغَمِّ لِسَعْد، أَفَتُحبُّ أَنْ تُغْنيَهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ: فَهَاكَ هَذَيْن الدِّرْهَمَيْن فَأَعْطهمَا إيَّاهُ ومُرْهُ أَنْ يَتَّجرَ بهمَا.
فَأَخَذَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله ثُمَّ خَرَجَ إِلَى صَلاةِ الظُّهْر وسَعْدٌ قَائمٌ عَلَى بَاب حُجُرَات رَسُول الله صلى الله عليه وآله يَنْتَظرُهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله قَالَ: يَا سَعْدُ أَ تُحْسِنُ التِّجَارَةَ؟ فَقَالَ لَهُ سَعْدٌ: والله مَا أَصْبَحْتُ أَمْلكُ مَالاً أَتَّجِرُ به. فَأَعْطَاهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله الدِّرْهَمَيْنِ وقَالَ لَهُ: اتَّجِرْ بهمَا وتَصَرَّفْ لِرِزْقِ الله.
فَأَخَذَهُمَا سَعْدٌ وَمَضَى مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وآله حَتَّى صَلَّى مَعَهُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله: قُمْ فَاطْلُبِ الرِّزْقَ فَقَدْ كُنْتُ بِحَالكَ مُغْتَمّاً يَا سَعْدُ.
فَأَقْبَلَ سَعْدٌ لاَ يَشْتَرِي بدِرْهَمٍ شَيْئاً إلاَّ بَاعَهُ بدرْهَمَيْنِ وَلا يَشْتَري شَيْئاً بدرْهَمَيْن إلاّ بَاعَهُ بأَرْبَعَة دَرَاهمَ. فَأَقْبَلَتِ الدُّنْيَا عَلَى سَعْد، فَكَثُرَ مَتَاعُهُ وَمَالُهُ وَعَظُمَتْ تجَارَتُهُ، فَاتَّخَذَ عَلَى بَاب الْمَسْجد مَوْضعاً وَجَلَسَ فيه فَجَمَعَ تِجَارَتَهُ إلَيْه، وَكَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله إذَا أَقَامَ بلالٌ للصَّلاة يَخْرُجُ وسَعْدٌ مَشْغُولٌ بالدُّنْيَا لَمْ يَتَطَهَّرْ وَلَمْ يَتَهَيَّأْ كَمَا كَانَ يَفْعَلُ قَبْلَ أَنْ يَتَشَاغَلَ بِالدُّنْيَا، فَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله يَقُولُ: يَا سَعْدُ شَغَلَتْكَ الدُّنْيَا عَن الصَّلاة؟ فَكَانَ يَقُولُ: مَا أَصْنَعُ؟ أُضَيِّعُ مَالي؟ هَذَا رَجُلٌ قَدْ بعْتُهُ فَأُريدُ أَنْ أَسْتَوْفِيَ منْهُ، وَهَذَا رَجُلٌ قَد اشْتَرَيْتُ منْهُ فَأُريدُ أَنْ أُوفيَهُ.
فَدَخَلَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله منْ أَمْر سَعْد غَمٌّ أَشَدُّ منْ غَمِّه بفَقْره. فَهَبَطَ عَلَيْه جَبْرَئِيلُ عليه السلام فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ إنَّ اللهَ قَدْ عَلِمَ غَمَّكَ بسَعْد، فَأَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ حَالُهُ الأُولَى أَوْ حَالُهُ هَذِهِ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله: يَا جَبْرَئيلُ بَلْ حَالُهُ الأُولَى. قَدْ أَذْهَبَتْ دُنْيَاهُ بآخرَته.
فَقَالَ لَهُ جَبْرَئيلُ عليه السلام: إنَّ حُبَّ الدُّنْيَا وَالأمْوَال فتْنَةٌ وَمَشْغَلَةٌ عَن الآخرَة، قُلْ لسَعْدٍ: يَرُدُّ عَلَيْكَ الدِّرْهَمَيْنِ اللَّذَيْن دَفَعْتَهُمَا إلَيْه، فَإنَّ أَمْرَهُ سَيَصيرُ إلَى الْحَالَة الَّتي كَانَ عَلَيْهَا أَوَّلاً.
فَخَرَجَ النَّبيُّ صلى الله عليه وآله فَمَرَّ بسَعْد، فَقَالَ لَهُ: يَا سَعْدُ أَ مَا تُريدُ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ الدِّرْهَمَيْن اللَّذَيْن أَعْطَيْتُكَهُمَا؟ فَقَالَ سَعْدٌ: بَلَى وَمائَتَيْن.
فَقَالَ لَهُ صلى الله عليه وآله: لَسْتُ أُريدُ مِنْكَ يَا سَعْدُ إلاَّ الدِّرْهَمَيْن.
فَأَعْطَاهُ سَعْدٌ درْهَمَيْن، فَأَدْبَرَتِ الدُّنْيَا عَلَى سَعْدٍ حَتَّى ذَهَبَ مَا كَانَ جَمَعَ وَ عَادَ إلَى حَاله الَّتي كَانَ عَلَيْها(14).
عوامل انكشاف السريرة
وهكذا يتّضح أنّ من الممكن انكشاف السريرة عبر عوامل وحالات عديدة، كالمال والشهرة والعلم والذرية والمنصب والغضب والأمانة. وعليه فإنّ تأكّد المرء من ما تنطوي عليه سريرته ومدى معرفته بمقدار حسنها أو قبحها يمكنّه من انتخاب السلوك المناسب لسيرته بين الناس لتحاشي أيّ خسارة أو فضيحة من جهة، وضمان أكبر قدر ممكن من الثقة والاعتداد بنفسه من جهة أخرى.
فحريّ بالإنسان المؤمن أن يجاهد نفسه حقّ الجهاد لتحسين سريرته وصقلها وفق الالتزام بالأوامر والنواهي الشرعية، لكي يعلم حقيقتها وما ترمي إليه، فيتفادى السقوط، ويضمن النجاح.
مثال لحسن السيرة
لقد وعى المقدّس الأردبيلي ـ مرجع الشيعة في زمانه ـ هذه الحقيقة فطبّقها مبتدئاً بنفسه، حتى أنّه نقل عن حسن سريرته وسيرته ما يقف له الإنسان متعجّباً؛ إذ قيل إنّه كان ذات يوم يمشي في صحن مرقد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، فسأله أحد الزائرين ـ دون علمه بمن يكون ـ عمّا إذا كان يعرف محلاًّ خاصّاً بغسل الملابس، فقال له المقدّس الأردبيلي: أنا أغسلها لك بنفسي! ضارباً بذلك كلّ ما يمكن أن يكون عذراً قد يحول ما بين الإنسان وبين أداء الخدمة للمؤمنين والزائرين، الأمر الذي يكشف عن حقيقة السريرة الطاهرة لهذا الرجل النادر المثال، فقام بغسل ملابس الرجل الزائر، وعاد إليه بها في الوقت المحدد لتسليمها، فشاهده بعض من يعرفه، فقال للزائر: هل تعرف من غسل ملابسك؟ إنّه المرجع الأعلى! فأخذ الرجل يبدي كلّ الاعتذار، فردّه المقدس الأردبيلي قائلاً: إنّما أنت صاحب الفضل عليّ، لأنّك من زوّار أمير المؤمنين عليه السلام.
يُنقل أنّ الإمام، كان قد كافأه بأن كان يرحّب به في أيّ وقت أراد الزيارة حيث كانت الأبواب تفتح له دون مفتاح. وما أعظم ذلك من قدسيّة وفضل.
اضف تعليق