q

للفيلم الوثائقي عمل داخلي الحائز على جائزة اوسكار حسنات كثيرة، هو يقدم وصفاً واضحاً ومفهوماً لما حصل في الازمة المالية، ويؤدي عملاً مذهلاً في فضح تضارب المصالح المزمن في مهنة الاقتصاد، فثمة مثلاً، اقتصاديون ينشرون ادلة "علمية" على فاعلية الاسواق والدور الايجابي للتمويل فيما يتقاضون مبالغ ضخمة غير معلنة من قطاع الخدمات المالية في مقابل تكليفات استشارية تخبر القطاع ما يرغب في سماعه، لكن الفيلم اقل اثارة للاهتمام فيما يخص شرح الاسباب وراء حصول الازمة اساساً، وينحرف حين يبدأ بالتركيز على الفشل المعنوي للمصرفيين،(يبدون رجالاً في منتصف العمر يملكون مالاً كثيراً وينفقون بعضاً من ذلك المال على المؤسسات). وان الهدف لصانعي الفيلم يتمثل في الايحاء بأن وراء الازمة ضعفاً معنوياً لدى افراد، فمع كثرة المال، تقول القصة، طارت المعنويات من النافذة.

وفيما ترضي هذه القصة البعض، ليس الفشل المعنوي لأفراد ذا صلة بفهم اسباب حصول الازمة المالية في الولايات المتحدة واسباب اعتبار التقشف اليوم الاستجابة الممكنة الوحيدة، خصوصاً في اوربا، ويمكن للمرء ان يحل محل المصرفيين الفعليين في 2007 جميعاً افراداً مختلفين تماماً، وكان هؤلاء ليتصرفوا بالطريقة نفسها خلال الانهيار، هذا ما تؤدي اليه الحوافز، والمهم حقاً هو الطريقة التي اجتمعت عبرها اجزاء من النظام المالي العالمي، بدت متهافتة وكمدة، لتنتج ازمة لم يكن اي من هذه الاجزاء قادراً على انتاجها وحده، والطريقة التي انتهى اليها الامر عبرها بالازمة وقد اصبحت ازمة خاصة بالدولة وازمة خاصة بالافراد.

سبب الازمة

على الرغم من ان الانهيار المالي كان في شكل واضح عملية غير خطية بعمق ومتعددة الاسباب، وتعاني الازمة تحديداً مفرطاً لأنها وبسبب كونها غير خطية ومتعددة الاسباب، يمكن حذف كثير من هذه الاسباب المفترضة لكن الازمة تبقى قابلة للحدوث، مثلاً، تركز ثلاثة كتب ممتازة عن الازمة على التوالي، وقد طرحت عدة اسباب او عوامل منها زيادة عدم المساواة في المدخول خلال المرحلة المفضية للازمة، والطبيعة الموضحة للتنظيم المصرفي، والقوة السياسية لقطاع المال، لكن هل هذه العوامل ضرورية بالمطلق لشرح الازمة في شكل وافي.

هناك فكرة قائلة ان هذه الازمة هي اولاً واخيراً ازمة من ازمات القطاع الخاص، حيث ان الازمة بدأها القطاع الخاص لكن ثمنها يسدده القطاع العام، ويمكن تكريس الامر عبر التفكير خلافاً للوقائع، ويمكن للمرء ان يتسأل: هل كانت الازمة لتحدث لو ان توزيع المدخول كان اقل تشوهاً، لو كان المنظمون اكثر استقلالاً، ولو كان قطاع المال اقل قوة؟ يعتقد مؤلف كتاب "التقشف" الكاتب مارك بليث بذلك ان تلك العوامل كانت مهمة_ اذ اعطت المشكلة دافعاً قوياً_ لكنها لم تكن جوهرية بالنسبة الى المشكلة ولا في حد ذاتها.

لاصله للدولة في الدين الناجم عن ازمة التقشف التي تلام به هي دائماً، في تشويش مذهل للسبب والنتيجة_ ولا بالمشاعر المعنوية الفردية للمصارف، ويمكننا ان نلوم مانشاء المنظمين لتراخيهم او اهمالهم والسياسيين لخضوعهم للمصالح المصرفية، لكن هذه الازمة كانت في جوهرها ازمة من ازمات القطاع الخاص، وكانت تحديداً عبارة عن نشوء ذعر ينطوي على المليارات من الدولارات من مجموعة من حالات التوقف عن تسديد الرهون هذه انضمت الى وثائق تأمين غير مدعومة، تسمى "مبادلات العجز الائتماني" لتنتج "قنبلة تبادلية" نشرت ازمة سوق الريبو في النظام المصرفي العالمي، ومجدداً لم تكن ثمة علاقة للدول وعادات انفاقها المفرط المفترض، وكانت ثمة علاقة وطيدة لأوجه ضعف داخل القطاع الخاص.

سوق الريبو والذعر المصرفي

تعتبر سوق الريبو جزءاً مما يسمى نظام "مصارف الظل" وتأتي كلمة "ظل" لأن نشاطات السوق تدعم نشاطات المصارف العادية وتكررها في الاغلب، اما كلمة "مصارف" فتعود الى كون السوق تؤمن خدمات مالية لكل من المصارف العادية (المنظمة) والاقتصاد الحقيقي، وهنا يطرح مثال لتقريب مفهوم السوق الريبو للقارئ، نأخذ شيكات الاجور مثلاً، من غير العملي الى درجة كبيرة ان ترسل الاعمال الكبيرة في شاحنات كميات ضخمة من النقود كل نهاية اسبوع لتدفع لموظفيها من العائدات المحفوظة في مصارفها المحلية، لذلك تقترض الشركات المال اويقرضه بعضها الى بعض خلال فترات قصيرة جداً في مقابل اسعار متدنية جداً للفائدة، فتبادل عادة نقوداً بأصول قبل ان تعيد شراء هذه الاصول في اليوم التالي_ لهذا تطلق تسمية "البيع" و"اعادة الشراء"_ في مقابل رسم يعرف بـــ"الريبو" وهذه الممارسة ارخص من الاقتراض من المصارف المحلية ولاتشمل ارسال اساطيل من الشاحنات المصفحة.

وكان مما حصل في 2007 و2008 عبارة عن سباق على السحب من سوق الريبو هذه، ويحصل السباق على السحب حين يطلب المودعون في مصرف جميعاً نقودهم في الوقت نفسه ولا يملك المصرف نقوداً كافية بين يديه يعطيها لهم، وحين يحصل هذا تعمد المصارف اما الاقتراض لتحافظ على سيولتها وتوقف الذعر او اعلان تعثرها وبرزت سوق الريبو في ثمانينيات القرن العشرين حين خسرت المصارف التقليدية حصتها في السوق بسبب عملية اسمها "الغاء الوساطة" فالمصارف، بأعتبارها وسيطة، تقبع في وسط الاعمال المتوقعة لطرف آخر، فتربط بين المقترضين والمقرضين، مثلاً، وتفرض رسوماً على القيام بذلك، يمكن للمصرف الذي اصدر القرض ان يقترض بسعر ادنى ويصدر قروضاً اضافية لأن خطر عدم تسديد القرض الاول لم يعد مدرجاً في دفاتره، ويمكن للمقترض ان يحصل على اسعار افضل، كان الامر ينطوي على ربح مؤكد، كما قالوا.

الاضرار الجانبية للتقشف

وفق النظرة الامريكية على الرغم من ان التسنيد مثل تهديداً للاساليب المصرفية التقليدية، فهو قدم فرصة الى المصارف التي ركبت موجة النموذج الجديد، فهذه المصارف تمكنت من ابطال مخاطرتها ببيع القروض، واستطاعت نتيجة لذلك ان تقترض بأسعار ارخص وتصدر مزيداً من القروض، مالخطاً المحتمل في ذلك؟ الخطأ ان الاخطار المتأصلة في هذه القروض لم تختلف حقاً بل نقلت الى مكان اخر، وفي الواقع، ركزت بيوع القروض من غير قصد هذه الاخطار في اسواق الريبو القريبة الاجل، كيف اذاً انتهى المطاف بالرهون اليومية في سوق الريبو؟

حين يضع الاشخاص مالهم في مصرف، تضمنه المؤسسة الفيدرالية للتأمين على الودائع من فشل المصرف، لذلك فخطر التوقف عن التسديد هذا مغطى، لكن مامن تامين مماثل للريبو، لذلك يحمي المستثمرون في اسواق الريبو نقودهم بالحصول على مكافئة ضمان للنقود المقرضة، وان افلس المقترض، يستطيع المقرض استعادة ماله مادام الضمان لم يفقد قيمته، وهذا امر حاسم، لكن ما الضمان العالي النوعية؟ في بداية القرن الحادي والعشرين، شملت الضمانات العالية النوعية طبعاً سندات الخزانة، لكن السندات المدعومة برهون مصنفة AAA بدات تستعمل في شكل متزايد كضمانات، بسبب قلة سندات الخزينة، وهكذا انتهى الامر بالرهون في اسواق الريبو.

كل ماسبق دفع حكومة الولايات المتحدة الامريكية الى العمل لوقف انتشار العدوى عبر اسواق الريبو ومبادلات العجز الائتماني، ومنع امكانية رمي اكثر من 60% من الناتج المحلي الاجمالي في النار، كان التأثير الاجمالي لبصمة الاصول المصرفية سيركز العقل الجمعي على مشكلة المؤسسات الاكبر من تترك لتنهار، لذلك انقذت المصارف، ووقع عبء التكاليف، كما رأينا، اولا على الدولة، في نهاية المطاف على دافعي الضرائب، ان الخطر الذي شكلته مصارف امريكية ذات رفع مالي عال كانت اكبر من تترك لتنهار، كان خطراً مرعباً، في نوفمبر 2011 نشر مجلس الاستقرار المالي، وهو هيئة التنسيق للمنظمات المالية الوطنية، قائمة المصارف الاكبر من ان تترك لتنهار من بين 29 مصرفاً، كانت ثمانية فقط امركية، وكانت 17 اوربية، وتمكن الاوربيون من بناء نظام كان اكبر من ان ينقذ، وهذا هو السبب الحقيقي لماذا تخنق حفنة من اليساريين المفترضين الرفاهية في دولهم.

منذ ازمة 2008، منحت المصارف التي تخضع للجنة الاوراق المالية والبورصات نفسها 2.2 تريليون دولار كتعويضات، ان التقشف سياسات جيدة للمصارف لان الذين يدفعون ثمن هذه الفوضى ليسوا هم الاشخاص انفسهم الذين سببوها، وينطبق ذلك تماماً على اوروبا، وفي الواقع هذا هو السبب الحقيقي الذي يجبرنا جميعاً على التقشف.

اضف تعليق