عندما تتغير موازين القوى التي كانت مستقرة تلوح نذر الحرب التي تكفلت في الغالب تعديل بنية النظام الدولي، فكأن الحرب إختبار للقوة كي يعاد ترتيب الأدوار في ضوء نتائجها، لكن هناك إمكانية الى تغير بنية النظام سلما، وان التغير في المستقبل سيعتمد مقاييس للقوة لا تستدعي خوض الحرب...
إتسع النطاق المكاني للتفاعل بين الناس مع تطور وتنوع الإنتاج والتبادل تدريجيا مع تحسن وسائل وتدابير النقل الآمن. ولأن كثافة التفاعل تتناقص مع الإبتعاد عن مركز الإقامة، إرتبط تكوين المجتمعات بالإستقرار في الأرض، الوطن، ولذلك تمايزت ثقافةً وحضارةً باختلاف مراكزها المكانية.
وظهرت المدينة لتنظيم الشؤون المشتركة بين البشر في النطاق القريب، وتطور التنظيم ليتخذ الشكل الأولي للدولة التي أخضعت تدريجيا التفاعل بين مجتمعها والمجتمعات الأخرى لضوابطها التنظيمية. ومثلما في تاريخ الإنسان تجارب إيجابية للتفاعل بين المجتمعات وثمرات طيبة، ثمة تاريخ آخر مليء بالمآسي والشناعات الأخلاقية أبرزها الحروب والإحتلال والحكم الأجنبي وإستيطان الغرباء قسراً في أرض الأجداد. وما دامت الدولة تستطيع إقتطاع ما تشاء من الموارد الخاصة والمشتركة وناتج العمل والتحكم في حياة الناس في مجتمعها، صار التنافس عليها بين فئات مواطنيها سببا آخر للعداء والحرب.
ظهور وإنتشار الدولة الوطنية
كانت الدول أدوات بيد السلالات الحاكمة. والسيادة، التي أقرها سلام ويستفاليا عام 1648 بعد حرب الثلاثين عاما الدينية، لم يقصد بها سيادة الشعب او السيادة الجمهورية التي نادى بها جان جاك روسو وعبرت عنها الثورة الفرنسية، بل السيد sovereign هو الملك او السلطان الذي لا يخضع لغيره في حكم البلاد. Hobbes في كتابه "التنين 1651" صاحب الجلالة الأعلى سيد بصفتيه الطبيعية والسياسية لأنهما لا تنفصلان"، ومع هذا أشار لمفهوم الشخص القانوني وخلعه على الدولة، وهو إسهام تأسيسي للمؤسسات اللاشخصية في السياسة والتي غدت أهم خصائص الدولة المعاصرة.
جون لوك، 1632- 1704 أقرب إلى السيادة المعاصرة فهي عنده تنتقل من الله، عز وجل، إلى الناس ومنهم إلى الحاكم عبر تراتبية من التعاقدات؛ وبهذا تتضمن فكرة العقد الإجتماعي التي لم يغفلها هوبز بيد ان مضمونها يختلف. عند هوبز التعاقد لتأكيد سلطة الملك المطلقة، بينما روسو ولوك مع جمهور الأفراد، وأكد روسو على التمييز بين السيادة والحكومة وبهذا صارت الديمقراطية لازمة للمشروعية.
النظام الدولي، موضوع المقالة، في وضعه الحالي يكتفي بملاحظة سيادة الأمر الواقع وبالتالي فهي دولة ذات سيادة مادامت هناك حكومة لها سلطة على البشر والأرض وتعترف بها الدول الأخرى. وبذلك يُفسح المجال لبقاء الحكومات المسرفة في الإضطهاد والتي تُعذّب ملايين الناس؛ وكذلك يسمح النظام الدولي بتغيير انظمة الحكم والحكومات بمختلف وسائل العنف بما فيها الإنقلابات العسكرية، أو حتى هجمات إرهابية.
الدولة الوطنية المعروفة هذا الزمن تعود بدايتها في أوربا، كما يرى اغلب المؤرخين، إلى القرن الثامن عشر وتطور نظامها تدريجيا. بيد ان دراسات اخرى أرجعت البدايات المبكرة للدولة الوطنية إلى القرون الوسطى إرتباطا بالتجانس الثقافي لمجموعة سكانية تتكلم لغة مشتركة تلك هي الأمة. وعلى سبيل المثال برز الشعور بالإنتماء إلى امة إنكليزية في القرن الحادي عشر خلال مقاومة الإحتلال النورماني. وقد يكون الإعتراف باللغات الوطنية في وسط النخبة المتعلمة والرسمية إلى جانب اللاتينية بداية أو بدونها لاحقا تعبيرا عن ولادة الأمة التي تكونت الدولة الوطنية تمثلا سياسيا لها.
وقد لا تكفي اللغة في الإمتداد الجغرافي لتكوين الدولة الوطنية إذ لا بد من عوامل أخرى. الم تكن لشعوب الدول التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية لغات ومشتركات ثقافية وشعور بالإرتباط او الإنتماء إلى جماعة. الدولة تحتاج إلى قدرة المجتمع على الإنفلات من القبضة الإمبراطورية ثم الدفاع عن ذلك الوجود المستقل، وتكوين سلطة مركزية تستطيع فرض ضوابط لتنظيم الحياة الإقتصادية والإجتماعية والأمن والعدل، وتلك شروط صعبة وبقيت بعيدة المنال للكثير من الجغرافيات البشرية.
الدولة الوطنية في اوربا والأمريكتين لم تات نتيجة حركات قومية بآيديولوجية قوية بل انتجتها النزاعات حول الشرعية السياسية، والأزمات الأمبراطورية، وربما ضعف أنظمة الحكم، إلى جانب إنتشار المثل السياسية للتنوير التي صار لها نفوذ إتّسع نطاقه منذ منتصف القرن الثامن عشر. الحرب بين فرنسا وبريطانيا 1756 – 1763 في أمريكا الشمالية أثقلت كاهل الدولتين ماليا، ويعزى لنتائجها أثر فعال في الثورتين الفرنسية والأمريكية. في فرنسا تفاقمت ازمة تمويل إنفاقها العام بالقروض وفي أمريكا، التي صارت الولايات المتحدة، كان التحرر من الضغوط الإقتصادية والمالية البريطانية من أهم اسباب الثورة، وعندها برز شعار "لا ضرائب دون تمثيل". العديد من الدول الوطنية في اوربا نشأت من تدخل الثورة الفرنسية وحروب نابليون وقانونه الذي صار مرجعا لإعادة التكوين السياسي في أوربا، كما قضت الثورة الفرنسية على بقايا الإقطاع وبذلك أصبحت البرجوازية اقوى. غزو نابليون لأسبانيا والبرتغال قاد إلى حروب التحرير من الإستعمار الأسباني والبرتغالي في أمريكا اللاتينية وإستقلال البرازيل فيما بعد.
الدولة الوطنية الأوربية ليست هذه المعروفة الآن لأن مبدا المساواة السياسية وهو أساسي في الليبرالية لم يكن شاملا في القرن التاسع عشر. المشاركة في الإنتخابات تقتصر آنذاك على فئات بعينها من الرجال دون جميعهم وتستبعد النساء. تُعطى صفة المواطنة الفعالة سياسيا بعد نجاح الثورة الفرنسية للرجال دافعي الضرائب في سن 25 سنة فأكثر ومن غير العبيد والخدم، وفي الولايات المتحدة بعد الثورة كذلك مع الإقتصار على الرجال البيض. وفي بريطانيا فقط عام 1918 صار للذين لا يملكون من الرجال حق المشاركة في الإنتخاب، وفي عام 1928 صارت الديمقراطية شاملة للنساء بحق المشاركة في الإنتخاب.
من هذه الوقائع نشير إلى أن مفهوم الدولة – الأمة او الدولة الوطنية لا ينصرف حتما إلى دولة أوربا الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية. ومن تلك الوقائع من غير المعقول نزع صفة الوطنية عن دولة المشرق او غيرها من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية المعاصرة لأنها فقط تختلف عن تظيرتها الحالية في أوربا الغربية. وقد إعتاد الكثير من المشاركين في صناعة الرأي العام، من أهل المشرق، وصف الدولة خارج الغرب بأنها ليست الدولة – الأمة لأن مضمون هذا المفهوم عندهم متخيل مثاليا وليس بمصاديقه في التاريخ.
تكوين النظام الدولي الرسمي الحالي
عندما تكاثرت خسائر الحروب إقتنع الأوربيون بضروة إلتزام قواعد لتنظيم العلاقات بين الدول سلما وحربا. وينظر إلى سلام ويستفاليا بداية مبكرة للنظام الحالي وأهم ما فيه مبدا سيادة الكيانات السياسية وعدم جواز التدخل في شانها.
هيأت نتائج الحرب العالمية الأولى لتحول النظام الدولي نحو وجهة اخرى إرتباطا بفاعلية القوة العسكرية الأمريكية في الإنتصار على ألمانيا. إقتنع الرئيس الأمريكي آنذاك ودرو ويلسون أن النهج الواقعي في السياسة، اي غياب الضبط المعياري للعلاقات بين الدول، أدى إلى مجازر يمكن تفاديها. وبذا من الأفضل إعتبار الحرب خروج على القانون وإقامة منظمة دولية مهمتها حفظ السلام، وقادت تلك الفكرة إلى تاسيس عصبة الأمم التي إحتضنت فكرة عالم بلا حروب، لكن الواقعية السياسية في الولايات المتحدة واوربا جرّدتها من القوة.
في كانون الثاني 1918 عرض الرئيس ودرو ويلسون على الكونغرس برنامجا من 14 نقطة للسلام العالمي، وهي مبادئ لمفاوضات بعد الحرب وضمنها التوصية بإقامة منظمة دولية سميت عصبة الأمم. وتستند المبادئ إلى تقرير أعده 150 من المختصين في العلوم السياسية والإجتماعية. وقد درس الفريق، سراً في البداية، الحقائق الإقتصادية والإجتماعية في كل العالم وجمع وأعدّ 2000 وثيقة و 1200 خارطة. في خطابه، ويلسون، دعا إلى إبطال الإتفاقيات السرية، وتقليص السلاح إلى الحد الأدنى، وأن تراعي الدول الإستعمارية مطالب الشعوب في السيادة والإستقلال بجدية وبالتوازن مع ما تدعيه من حقوق على المستعمرات. في هذا الموقف تنازل الرئيس عن المبدأ الذي كان قد تبناه وهو حق تقرير المصير للشعوب. لكنّي لا أشكك بالنوايا فلربما خاف من إضطرابات تتعذر السيطرة عليها وتقوّض مشروعه لنظام دولي يقيم السلام، فقد إقترح حق الإختيار الذاتي للأقليات المضطهدة، وبالمجمل تجنب الموقف الحازم من حق الشعوب في الدولة المستقلة. واقترح رفع الحواجز الإقتصادية والتكافؤ في شروط التجارة بين الدول وهو التوجه الليبرالي للولايات المتحدة الذي خرج عليه الرئيس ترامب بعد أكثر من قرن.
في فرساي، عندما إجتمع الحلفاء لعقد معاهدة إنهاء الحرب العالمية الأولى مع ألمانيا والإمبراطورية النمساوية – المجرية، إستبعَدَت فرنسا وبريطانيا أو تجاهلتا أكثر المبادئ، نقاط ويلسون، واكتشف الرئيس أن الدولتين آنفا ومعهما إيطاليا تشدد على معاقبة ألمانيا وإنتزاع مكاسب. وأبرز نجاح حققته المبادئ إدراج مشروع عصبة الأمم في المعاهدة، ومن المفارقات عدم مصادقة الكونغرس على المعاهدة ولم تشارك الولايات المتحدة في عضوية عصبة الأمم.
وإضافة على ما جاء آنفا تضمنت النقاط حرية الملاحة في السلم والحرب، ولا تغلق البحار إلا بفعل دولي وتطبيقا لإتفاقية دولية. ودعوة روسيا للمشاركة في النظام الدولي والتعهد بمراعاتها ومساعدتها وقبل ذلك إخلاء أراضيها من اي إحتلال؛ وكذلك بلجيكا؛ وإقرار السيادة في الجزء التركي من الدولة العثمانية، أي أن تركيا دولة مستقلة ومدعوة للمشاركة في النظام الدولي؛ وإخلاء الأراضي الفرنسية وإعادة الألزاس واللورين لها؛ وكذلك بولندا وصربيا ورومانيا ودول أوربية اخرى إخلائها من أي إحتلال. أما خارج اوربا فمن الواضح أن المسألة تختلف، وهذه الإزدواجية مستمرة. وجاء في التقرير "لا نحسد المانيا على عظمتها ونريد لها المزيد": وندعوها للمشاركة في المنظمة المستحدثة على أن تقبل موقع المساواة بين شعوب العالم وليس مكانة السيد.
وقفت عصبة الأمم عاجزة أمام التحركات التي بدأتها ألمانيا نهاية عام 1938 إلى غزو بولندا في ايلول، سبتمبر عام 1939، ثم تفاقمت إلى ما يعرف بالحرب العالمية الثانية، ملحمة من المجازر البشرية والتخريب ورعب وتجاوزات على كرامة البشر وابسط حقوقهم، ومع ذلك لم ترتدع أوربا والولايات المتحدة فتسعى مخلصة لإقامة السلام الشامل، وبقيت أجزاء العالم الأخرى بلا فاعلية ملموسة لتنظيم السياسة والعلاقات بين الدول لضمان السلام.
تبلوَرَ مشروع هيئة الأمم المتحدة أواخر الحرب العالمية الثانية وبعد إنتهائها صادقت الدول المستقلة على ميثاقها الذي يمثل اللبنة الأولى في الأساس القانوني للنظام الدولي، وإلى جانبه تدريجيا نشأت الكثير من المعاهدات والإتفاقيات وإعلانات أقرتها الدول، هذه كلها والأعراف واسعة القبول كوّنت القانون الدولي. وأشاعت القواعد المرجعية للعلاقات السياسية الدولية، والتي لم تكن حاكمة فعلا لأسباب نأتي إليها. الأطراف المشاركة في النظام هي الدول لكل منها صوت واحد في الجمعية العامة ذات القرارات غير الملزمة فعلا، وتتفاوت قوتها في مجلس الأمن الذي لم يتمكن من ردع الحرب، في كثير من الأحيان، وإن تمكن فليس لحاكمية النظام بل لتوازن القوى أو المصالح بين الدول الكبرى ومنها خاصة ذات صلاحية النقض لقرارات مجلس الأمن.
الدول أعضاء الأمم المتحدة الآن 193 ومعها بصفة مراقب دولة فلسطين والفاتيكان. عام 1945 أعضاء الأمم المتحدة 49 دولة منها العراق ومصر، و53 نهاية عام 1946؛ وبعد ذلك التاريخ دخلت 140 أخرى. ومنه نفهم حداثة التكوين السياسي لعالم اليوم. جاءت أغلب الدول أعضاء الأمم المتحدة نتيجة إنحلال الإمبراطوريات الأوربية الإستعمارية، أسبانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا وإيطاليا وبلجيكا والبرتغال، وبعدها تفكك الإتحاد السوفيتي ويوغوسلافيا. وقبل ذلك أنهت الحرب العالمية الأولى الإمبراطوريتين العثمانية والنمساوية – المجرية وأسهمت في تكوين عدد من الدول المعاصرة.
ويمكن القول ان الأمم المتحدة في حالها الحاضر تمثل نهاية مرحلة الإنتقال من عالم الإمبراطوريات، إقليم المركز الحاكم والتوابع الخاضعة، إلى الدول الوطنية المستقلة، التي تحكم جغرافية سياسية موحدة ومتماثلة في العلاقة مع المركز. والناس في هذه الجغرافية جميعهم مواطنون يتكافؤون في ما لهم وعليهم، وأسوياء في حقوق الإنسان كافة، من جهة الدستور والقانون، وفي الممارسة درجات في الإقتراب من التوصيف المثالي.
تختلف الدول أعضاء الأمم المتحدة في قوتها بدلالة حجم السكان والإقتصاد ومستوى التطور التقني والتنظيمي والسياسي. 35% من سكان العالم في دولتين، و57% في 10 دول، و66% في 20 دولة و34% في كل الدول الباقية.
تأمل هذا الواقع لو تغيرت الجمعية العامة للأمم المتحدة لتكون على غرار البرلمان الأوربي، 6 أعضاء لمالطة و96 لألمانيا مثلا، فكيف سيكون الحال. وهل ستجد النزاعات بين الدول والجماعات الدينية والقومية كالتي في المشرق وآسيا وافريقيا حلا لها؛ أم أن البشر هناك يتكتلون أيضا في لغات وأعراق وأديان ومذاهب... وبالنتيجة جماعات متناحرة كما هي الدول والمجموعات السكانية داخل الدولة. كل ذكاء البشر في القانون والإدارة والتنظيم لا يجد تسويات لهذه المشاكل.
الحل الممكن لا يأتي من موازين القوى بل في الإرتقاء الأخلاقي نحو مبدأ الأخوة الطبيعية بين كل الناس في الممارسة، وأعرِف كم يسخر القراء من هذا المبدأ الذي يوصف بالخيالي الطوباوي، ولكن لا أمل في السلام الدائم بدونه، وسوف يلجأ البشر إليه طواعية وبمنتهى الإمتنان بعد تراكم مرارات الحروب والكراهيات والعداء.
نشير، ايضا، إلى التفاوت الهائل في القوة الإقتصادية للأعضاء وهو مقياس لقدرتها في التأثير حيث 6 دول فقط لها 51% من ناتج العالم، و20 دولة لها 75% من الناتج وباقي الدول لها الربع في مقابل 79% من اصوات الجمعية العامة في نظامها الحالي. ثمة إختلاف آخر في إمكانية الرفاه، يعبر عنه متوسط الناتج للفرد بدولارات متعادلة القوة الشرائية، في أفقر دولة يساوي 0.6% من نظيره لأغنى دولة و 1% منه في الولايات المتحدة؛ وفي الهند 7% من أغنى دولة و 12% من الولايات المتحدة. وبذلك لا يكفي الحجم السكاني والإقتصادي وحده لتوزيع أعباء حفظ الأمن وإطفاء الحروب، بل حجم الفائض فوق الإحتياجيات الضرورية الذي يستطيع مجتمع الدولة التنازل عن جزء منه لبقية الناس في العالم.
مجلس الأمن مسؤول عن الأمن والسلام يتألف من أعضاء دائميين خمسة لكل منهم حق النقض Veto، وعشرة يتغيرون دوريا لمدة سنتين، ولم ينجح لتأدية مسؤولياته نتيجة التنافس والنزاع الدائم بين القوى الكبرى. ومحكمة العدل الدولية جهاز رئيسي للأمم المتحدة تنظر في الخصومات التي تعرض عليها من الحكومات، لكن تنفيذ قراراتها يعود إلى الدول ذات العلاقة ومجلس الأمن، وفي النهاية تبقى ضمن دائرة عجز النظام الدولي، ومثلها المحكمة الجنائية الدولية. قرارات مجلس الأمن لا تصدر إلا بموافقة الدول الخمس ولا تكون ملزمة حتما إلاّ تحت الفصل السابع للميثاق، وحتى في هذه الحالة يتطلب التنفيذ الفعلي موافقة دول النقض وإستعدادها لتحمل الأعباء. للعديد من دول العالم القوية أنشطة خارج أراضيها تابعة لدوائرها الرسمية أو مسنودة منها سرا او علنا، تزاول الكثير من التدخلات المخالفة لمصالح الدول والشعوب، ولا تستطيع الأطراف المتضررة الإستعانة بالنظام الدولي، مجلس الأمن او محكمة العدل الدولية، لمساعدتها.
النظام السياسي الدولي في إطار أوسع
كانت أوربا ترى المجتمع الدولي أساسا في العلاقات ما بين دولها الرئيسة، أما المجتمعات غير الأوربية فهي تابعة تحكمها الدول الغربية السامية، وهو تصور دوائر الإمبراطوريات الإستعمارية. النظام الدولي لعصبة الأمم والأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية يقوم على المساواة القانونية بين الدول لكن عدم المساواة والتراتبية بقيت في المجال الجيوبولتيكي، وفي الدراسات الأكاديمية للنظام الدولي صار من المألوف التمييز بين العضوية مع الإقرار القانوني بالإستقلال وتكافؤ السيادة من جهة والقوة والنفوذ Power الذي يتفاوت بين الدول من جهة أخرى. بحيث أصبح النظام الدولي واقعيا بإدارة القوى الكبرى ولذا يسمى نظام ما بعد الحرب الباردة وحيد القطب للولايات المتحدة الأمريكية، وفي الحرب الباردة ثنائي القطب، وهذه الأيام بوادر الإتجاه نحو تعددية قطبية. وقبل الولايات المتحدة كانت بريطانيا القوة الأولى في تراتبية النفوذ تخلت عن مكانتها للولايات المتحدة سلما، وكذلك إنسحبت روسيا بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي من الثنائية القطبية سلما فانفردت أمريكا.
ولا يخفى التأثير الطاغي للتنافس أو العداء بين الولايات المتحدة والتحالف الغربي من جهة والإتحاد السوفيتي، روسيا فيما بعد، والصين، و"الدول المارقة" من جهة ثانية أيام الحرب الباردة وما بعدها، مع إهتمام الغرب الدائم بمعضلة "امن إسرائيل". وقد طغى ذلك التناحر على التفكير المسؤول بحاضر ومصير البشر على الأرض، وتضاءل الإيمان بإمكانية السلام الدائم وتحسين الحياة دون النزاع والعنف. والدول والمجتمعات خارج النطاق الغربي بقيت محبوسة في المركزية الغربية بين المجاراة والتحالف أو المشاكسة والضدية، أي لا يوجد تصور له نفوذ لتنظيم السياسة في العالم وإدارة المشترك الإنساني على نحو مستقل يحاور الغرب من منظور آخر. وفي المشرق تُنسّق هذه الإتجاهات مع المحور الرئيسي للصراع من وجهة نظر الحكومة أو الحزب، وهو دائما تقليدي متوارث وضمن حدود الإقليم، أو حتى دولة مجاورة "تريد مصادرة حقنا الطبيعي في الزعامة" في الخطاب الداخلي غير المصرح به.
إلى جانب إشكاليات الدول وحكوماتها تزداد فوضوية نظام السياسة في العالم بتزايد تأثير فاعلين آخرين مثل الشركات متعددة الجنسيات والمصارف الدولية، وتكنولوجيا المعلومات والإتصالات الفورية بين الأفراد وجهات ناشطة في الإقتصاد والمجتمع والسياسة، وأخيرا الذكاء الإصطناعي وقدرات المستحدثات الرقمية على الإختراق والتأثير. ومنظمات سياسية منها مسلحة عابرة للحدود، وكذلك عدم إنسجام جغرافية القوميات والأديان مع الجغرافية السياسية. ولعدم الإنسجام هذا الكثير من المشاكل، التي لا تقبل الحل إلاّ في حالات قليلة، لأن عدد الجماعات الدينية واللغوية يفوق عدد الدول الممكنة عمليا أضعاف المرات. ولذا يتطلب التطوير السياسي الإيجابي البحث الجاد عن منهجيات أخرى.
الليبرالية ترتكز على المساواتية السياسية، والليبرالية الجديدة لا تكترث بعدم المساواة الإقتصادية وتحبذ الإنفتاح التام لإستقطاب راس المال وزيادة إنتاجيته. الليبرالية الجديدة وسّعت نطاق عدم المساواة واصابت بالأضرار حتى الفئات المتوسطة في الدول المتقدمة إضافة على البطالة. لقد لاحظ التيار المؤيد للرئيس ترامب إنزياح الإقتصاد نحو الريعية وهيمنة رأس المال المالي دون الصناعي والإنتاجي والذي يوصف بالنمو دون فرص عمل.
واستنتجوا ان ذلك المنحى يؤدي إلى إهتراء البناء الإجتماعي في رأيهم، ومن المعلوم، وكما بين ذلك فوكوياما، أن جماعات المصالح إخترقت المؤسسات وصارت الدولة بأكملها، عمليا، تدار من هؤلاء وتوصف هذه الظاهرة بإتساع عدم المساواة السياسية وإضعاف الديمقراطية التي هي حكم أكثرية الشعب وليس طغمة مصالح متحيزة. في هذا الخضم لا تخفى الخشية من المزاج العنصري والفاشي وقوة الميل للإنكفاء ومعاداة الخارج.
فجاءت الوطنية الإقتصادية والشعبوية ومناهضة العولمة مترافقة مع إدارة الظهر للنظام السياسي الدولي. بتعبير آخر لا نتوقع من التوجه الجديد، في الولايات المتحدة وأوربا، التعاون لتعديل وتقوية ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية لمواجهة اخطار الحروب وحفظ السلام. كما يضاف أثر إعادة توزيع القوة الإقتصادية في العالم بحيث لم تعد للولايات المتحدة تلك الإستثنائية المعهودة. ويأتي تغير موازين القوى الإقتصادية مع دلائل تجاوز القطبية الأحادية إلى تعددية، وثمة دلائل تُرجّح ميل الولايات المتحدة على التنافس دولة في مقابل دول اخرى. دون العناية بنظام للعالم كانت على راسه ما دامت لم تَعُد لوحدها وهو مضمون مجمل الخطاب السياسي وما ينشر من مراكز الأبحاث ذات الصلة بدوائر القرار. من تلك الوقائع نستنتج مزيد من الفوضى في عالم السياسة ما لم تتحمل بقية القوى المسؤولية للإمساك بالسلام.
عندما تتغير موازين القوى التي كانت مستقرة تلوح نذر الحرب التي تكفلت في الغالب تعديل بنية النظام الدولي، فكأن الحرب إختبار للقوة كي يعاد ترتيب الأدوار في ضوء نتائجها، لكن سبق وأشير إلى إمكانية تغير بنية النظام سلما، وارى ان التغير في المستقبل سيعتمد مقاييس للقوة لا تستدعي خوض الحرب. ويبدو أن دول أوربا الكبرى تخلت عن التنافس في القمة وارتضت مواقع دونه، والدول الكبرى خارج أوربا ليست مهتمة كثيرا بهذا التنافس، وينطوي هذا الوضع على أكثر من إحتمال.
اضف تعليق