ينبغي أَن نُزيحَ عن قلوبِنا وعقُولِنا الغِشاوة التي تحُولُ دُونَ القِراءة الصَّحيحة، ومعَ القراءة يجبُ استحضار التَّفكُّر والتَّأَمُّل والتَّدبُّر إِنَّ القراءةَ وحدَها تزيدُ معلوماتَك ولا تزيدُ فهمَك أَبداً، والمعلوماتُ من دونِ استيعابٍ وفهمٍ لا تنفعُ في شيءٍ، فكُلُّ الذي تحصَل عليهِ هوَ أَن تكونَ كنزاً للمعلوماتِ أَو مخزناً للكُتبِ...
(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ).
كيفَ يمكنُ للمرءِ أَن يفهمَ ويستوعبَ ويُؤَسِّسَ على ذلكَ؟!.
أ/ أَن يقرأَ بعقلٍ مُنفتحٍ بلا أَحكامٍ مُسبقةٍ سواءً على الكتابِ أَو المُؤَلِّف، فكما نعرِف فإِنَّ السَّاحةَ ضحيَّةُ الشَّائعات والدِّعايات المُغرِضة بسببِ صراعِ الأَفكار والإِرادات وحتَّى الإِيديولوجيَّات، ينشرُها هذا الطَّرف ضدَّ ذاك لمُحاصرتهِ ومُحاصرةِ أَفكارهِ ووُجهاتِ نظرهِ وإِقناع النَّاس بوجوبِ مُقاطعتهِ تارةً بالفتوى من قبيلِ الوصفِ المشهُورِ كَونها [كُتُب ضَلال] وتارةً كَونهُ [مشكوكٌ في أَمرهِ] أَو [ليسَ من جماعتِنا] وهكذا دَواليك.
فكَم من كتابٍ ثمينٍ حاصرتهُ [الفَتوى] وكَم من كاتبٍ مُهمٍّ قاطعهُ الرَّأي العام ظُلماً وعُدواناً ليكتشفَ المُجتمع فيما بعدُ بأَنَّ ما قاطعهُ وحاصرهُ من كاتبٍ وكتابٍ بمثابةِ كنُوزٍ ثمينةٍ ضاعَت عليهِ.
للأَسف فانَّهُ يكتشِف الحقيقة بعدَ فَوات الأَوان، والأَمثلةُ كثيرةٌ جدّاً.
ينبغي أَن نُزيحَ عن قلوبِنا وعقُولِنا الغِشاوة التي تحُولُ دُونَ القِراءة الصَّحيحة، الغِشاوةُ التي يتحدَّث عنها القُرآن الكريم بقولهِ (خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) من خلالِ إِزالةِ أَسبابِها الماديَّة مِنها والروحيَّة [المعنويَّة].
ب/ ومعَ القراءة يجبُ استحضار التَّفكُّر والتَّأَمُّل والتَّدبُّر (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَـٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ).
إِنَّ القراءةَ وحدَها تزيدُ معلوماتَك ولا تزيدُ فهمَك أَبداً، والمعلوماتُ من دونِ استيعابٍ وفهمٍ لا تنفعُ في شيءٍ، فكُلُّ الذي تحصَل عليهِ هوَ أَن تكونَ كنزاً للمعلوماتِ أَو مخزناً للكُتبِ، كمَن يُهيِّء كُلَّ الموادَّ الإِنشائيَّة لكنَّهُ لا يحصَل على منزلٍ إِذا توقَّف عندَ ذلكَ!.
ولقد بيَّنَ القرآن الكريم هذهِ الظَّاهرة في تشبيهٍ عظيمٍ بقولهِ (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وهو معنى (حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا).
يقولُ تعالى في آيةٍ دقيقةٍ جدَّاً بهذا الصَّدد (فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ ۚ) فالفِهمُ هو الإِستيعاب الذي يمكِّنكَ التَّأسيس على المعلُومة بشكلٍ سليمٍ وصحيحٍ قبلَ إِصدار الحُكم ومن دونِ تضليلٍ أَو غشٍ أَو تزويرٍ.
ففي معاجِم اللُّغة العربيَّة فإِنَّ معنى فهَّمهُ الأَمر [مكَّنهُ أَن يُدركهُ وأَن يُحسنَ تصوُّرهُ، جعلهُ يفهمهُ] و [أَدركهُ، علَّمهُ، أَحسنَ تصوُّرهُ، استوعَبهُ].
ج/ أَن تقرأَ بإِنسانيَّتكَ وليسَ بخلفيَّتكَ، فالعلمُ والكتابُ جُهدٌ إِنسانيٌّ وليسَ طائفيٌّ أَو عنصريٌّ أَو مناطقيٌّ، إِنَّهُ عابِرٌ لكُلِّ ذلكَ وهوَ يحطُّ رِحالهُ حيثُ أَتى من دُونِ استئذانٍ.
والذي يقرأُ بخلفيَّتهِ؛
- يسعى لأَن لا يفهم ما يتعارَض معَها ومعَ ثوابِتها (وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ).
- يسعى للَّغوِ (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) للتَّشويشِ على الآخرين (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ).
- يسعى للتَّعليقِ قبلَ أَن يفهم شيئاً مما يقرأَهُ أَو يسمعهُ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ).
د/ وعندما تقرأ فلا تستعجِل، لا في القراءةِ ولا في إِصدارِ الأَحكامِ السلبيَّةِ منها والإِيجابيَّة، خاصَّة إِذا كُنتَ تقرأَ فِكراً وعلى وجهِ الخصُوصِ إِذا كانَ فِكراً جديداً خارِج المألوف، فإِنَّهُ يحتاجُ إِلى تركيزٍ أَكثر وتثبُّتٍ أَعمق.
يقُولُ تعالى (لَا تُحَرِّكۡ بِهِۦ لِسَانَكَ لِتَعۡجَلَ بِهِۦٓ) وقولُهُ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
هـ/ وعندما تقرأ أَو تُفكِّر أَو تستنتِج فاحذَر أَن تُمارِسَ مع نفسِكَ خِداع الذَّات وهوَ المرضُ النَّفسي الذي يُصيبُ الإِنسانُ إِمَّا بسببِ الحقدِ أَو الحسدِ أَو البغضاء، فكلُّ ذلكَ لا يُساعِدُكَ أَبداً على حُسنِ الإِختيارِ وحُسنَ الإِستنتاجِ.
يقُولُ تعالى (قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا* ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا).
ففي هذهِ الحالة فإِنَّكَ تحرِقُ وقتكَ بالقِراءةِ والتفكُّرِ مِن دونِ نتيجةٍ وأَنت تظنُّ أَنَّكَ تُضيفُ شيئاً لنفسِكَ!.
كذلكَ قولهُ تعالى (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكًا عَظِيمًا) و (هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِوَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۚ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)
وما أَجملَها من آيةٍ قَولَ الله تعالى (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
إِذا أَردتَ أَن تزدادَ عِلما ومعرِفةً فاقرأ بقلبٍ سليمٍ، وإِلَّا فستكُونُ النَّتائِجَ عكسيَّةً!.
و/ وعندما تصِل إِلى الحقيقةِ من خلالِ القراءةِ والتَّأَمُّلِ فلا تتحجَّج أَو تتذرَّع للهربِ منها لسببٍ من الأَسبابِ (فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ ۚ أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَىٰ مِن قَبْلُ ۖ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ).
ز/ واجِه الفكرةَ الجديدةَ بشجاعةٍ وثقةٍ فلا تهرب منها ولا تخشى منها على قناعاتِكَ الرَّاسِخة، واسعَ لأَن تكُونَ شيئاً تُضيفهُ لها ولا تكُن من الذين يخافُونَ التَّجديدِ والتَّنويرِ (وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ءَايَٰتُنَا وَلَّىٰ مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِىٓ أُذُنَيْهِ وَقْرًا ۖ فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
وإِذا كُنت تبحثُ دائماً عمَّا ينسجِمُ مع أَفكارِكَ فتأَكَّد بأَنَّ ذلكَ عبثٌ يبقيكَ تُراوِحُ مكانكَ على مُستوى التفكيرِ وهوَ من لهوِ الحديثِ فحسبُ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ* وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ).
فاحذَر!.
ح/ تعامَل معَ الفكرِ والرَّأي بالفكرِ والرَّأي، واسعَ أَن تحترِ الرَّأي والرَّأي الآخر، واحذَر أَن تتعامل مع الفكرِ بالأَيدي والأَرجُلِ وباللِّسانِ السَّليطِ القذِر (إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).
ط/ وأَخيراً، فإِذا لم ينسجِم الرَّأيُ معَ قناعاتِكَ ولم تهضُمهُ اليَوم فلا تتهجَّم عليهِ أَو تطعنَ فيهِ أَو تسبَّ صاحِبهُ، فقد تقتنِعَ بهِ فيما بعدُ فلماذا تحرِق الجسُور بينكَ وبينَهُ وبينَ صاحبهِ؟!.
اضف تعليق