من أَبرز مصاديق ذلكَ هوَ الوعُود والعهُود التي تسمعها منهُ، فإِذا كانَ يتعامل معَها كلقلقةِ لسانٍ ومادَّةٍ دِعائيَّةٍ إِنتخابيَّةٍ فإِنَّ أَكاذيبهُ سُرعانَ ما يفضحَها الواقع، أَمَّا إِذا كانَ يتعامل معَها بمسؤُوليَّة وإِلتزام أَخلاقي على الأَقل فعندها ستجدُ التَّطابق واضحاً بينَ العَهد الذي يقطعهُ على نفسهِ وبينَ الواقِع...
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
يرِدُ الكذِبُ على اللِّسانِ أَمَّا الجوارِح والأَعضاء فلا تكذِبُ أَبداً، ولذلكَ تلحظُ أَنَّ الكذَّاب تظهرُ في ملامحِ وجههِ وفي تصرُّفاتهِ ونبَضاتِ قلبهِ آثار كذِبهِ مهما حاولَ التستُّر عليها، ولهذا تعتمدُ اليَوم أَجهزة كشف الكذِب على تلكَ الآثار التي تبدُو على جوارحِ المرءِ حينَ يكذِب.
كما تعتمدُ لُغةَ الجسَدِ على سلوكِ المرءِ وهو يتحدَّث لكشفِ أَكاذيبهِ التي تفضح كُلَّ سلُوكٍ آخر.
أَمَّا في يومِ القيامةِ فلا يحتاج الكذَّاب إِلى أَن يُدافعَ عن نفسهِ أَو يُبرِّر لها أَو يتستَّر عليها، فالذي سيحصل هو أَنَّ الله تعالى سيختِمُ على لسانِ الكذَّاب لتتحدَّث عنهُ وتشهدَ عليهِ جوارِحهُ [اليد مثلاً والرِّجل] وغيرِها.
والظَّريف وقتها أَنَّ الكذَّاب يعترِض على جوارحهِ، بمعنى أَنَّهُ يعترِض على نفسهِ بنفسهِ {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ} فيأتي الجَواب مِنهم {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.
وتضيفُ الآيات لذكرِ إِلتفاتةٍ في غايةِ الدقَّة بقولهِ تعالى {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَٰكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ}.
كذلكَ فإِنَّهُ في الحياةِ الدُّنيا يتمُّ الكشفَ عن الكذِب بآثارهِ على أَرضِ الواقع، ولهذا السَّبب فأَنتَ لا تحتاجُ إِلى كثيرِ عناءٍ لتكتشفَ حجم الكذِب الذي يُمارسهُ السِّياسي على الرَّأي العام، إِذ يكفي أَنَّك تتتبَّع آثارهُ على أَرضِ الواقِع، فإِذا تطابقَ معَ كلامهِ فهو صادقٌ وإِلَّا فهو كذَّابٌ أَشِر مهما ساقَ من التَّبريرات واختلقَ من الأَعذار.
وإِنَّ من أَبرز مصاديق ذلكَ هوَ الوعُود والعهُود التي تسمعها منهُ، فإِذا كانَ يتعامل معَها كلقلقةِ لسانٍ ومادَّةٍ دِعائيَّةٍ إِنتخابيَّةٍ فإِنَّ أَكاذيبهُ سُرعانَ ما يفضحَها الواقع، أَمَّا إِذا كانَ يتعامل معَها بمسؤُوليَّة وإِلتزام أَخلاقي على الأَقل {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} فعندها ستجدُ التَّطابق واضحاً بينَ العَهد الذي يقطعهُ على نفسهِ وبينَ الواقِع.
فمهما سعى المُتصدِّي الكذَّاب لإِرضاء الرَّأي العام بالشِّعارات والوعُود إِلَّا أَنَّهُ في نهايةِ المَطاف سيفشل في إِثباتِ صدقِ شِعاراتهِ ووعودهِ مالم يُحقِّقها الى على الأَرضِ {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}.
ولقد حرصَ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) على كشفِ أَكاذيبِ وُلاة الأَمصار وإِقالتهُم لحظة تأَكُّدهُ من ذلكَ سواءً بالرَّقابةِ المُباشِرة {فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ} أَو من خلالِ شكاوى المُواطنينَ، وذلكَ لعدَّة أَسباب؛
أ/ لفضحهِم أَمامَ الرَّأي العام فلا يغترَّ بهِم أَحدٌ أَو يتَّخِذهُ أُسوةً أَو يتصوَّر أَنَّ فِعلهُ هذا صحيحٌ [مُشرعن] بشَكلٍ من الأَشكالِ.
ب/ ليُبرئ ذِمَّتهُ أَمام الله تعالى وأَمام الأُمَّة، فلا يُتاجر أَحدهُم بعلاقتهِ معهُ (ع) فيكذِب كيفَ يشاءُ ومتى يشاءُ وأَنَّى يشاءُ؟!.
ج/ للَفتِ أَنظار الرَّأي العام إِلى أَصلِ وجذُورِ أَسباب أَيَّ فشلٍ أَو أَزمةٍ أَو عُقدةٍ يمرُّ بها المُجتمع، من خلالِ وضعِ النُّقاط على الحرُوفِ كما يقولُونَ في تحمُّلِ المسؤُوليَّة، فإِنَّ تضييعَها بالتَّعميمِ مثلاً أَو بالتستُّر على السَّبب الحقيقي أَو غضِّ الطَّرف عنها على قاعدةِ {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ ۚ} [قاعدةُ تصفيرِ المسؤُوليَّة] أَو بطريقةِ البحثِ عن كبشِ فداءٍ يُرمى بالفشلِ {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} فإِنَّ كُلَّ ذلكَ يُشجِّع على الكذِب في الدَّولة والذي يقودُ إِلى الفسادِ والفشلِ والظُّلمِ والتَّجاوز.
وقبلَ كُلِّ ذلك يُحطِّم جسُور الثِّقة بينَ الحاكُم والمحكُوم.
لذلكَ كانَ (ع) يُعلِّم وُلاتهُ على مبدأ [الشفافيَّة] و [مُواجهة الرَّأي العام] فإِنَّ الحديث المُباشِر معهُ يُبدِّد الكثير من المشاكِل التي تُسبِّب الأَزَمات في الدَّولةِ.
كتبَ (ع) في عهدهِ للأَشترِ {وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ}.
وفيهِ كذلكَ {فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ، وَقِلَّةُ عِلْم بِالاْمُورِ، وَالاْحْتِجَابُ مِنْهُمْ يَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دوُنَهُ فَيَصْغُرُ عِندَهُمْ الْكَبِيرُ، وَيَعْظَمُ الصَّغِيرُ، وَيَقْبُحُ الْحَسَنُ، وَيَحْسُنُ الْقَبِيحُ، وَيُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ، وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لاَ يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الاْمُورِ، وَلَيْسَتْ عَلَى الْحَقِّ سِمَاتٌ تُعْرَفُ بِهَا ضُرُوبُ الصِّدْقِ مِنَ الْكَذِبِ}.
د/ لتعليمِ المُجتمع أَنَّ رأيهُ في الحاكمِ مُهمٌّ جدّاً في تحديدِ صدقهِ من كذِبهِ، فلقد كتبَ (ع) في عهدهِ المُشار إِليهِ {وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللَّهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ}.
هذهِ المُعادلة تؤَكِّد على صِحَّةِ المِعيار الذي تحدَّثنا عنهُ مِراراً وتِكراراً بشأنِ كيفيَّة معرِفة صِدق المُتصدِّي من كَذبهِ، أَلا وهوَ مِعيار الإِنجاز والذي يلمسهُ المُجتمعُ مشاريعَ ونجاحات وتطوُّر وحياة كريمة.
اضف تعليق