ملفات - شهر رمضان

القبول بالاختلاف وتحمل مسؤولية الفشل

أَسْحارٌ رَمَضانِيَّةٌ السَّنةُ الثَّانيَةُ عشَرَة (٢٨-٢٩)

المُتلاومُونَ يضمرُونَ الحقائِق التي يعرِفُونها في أَنفسهِم ويُظهِرُونَ عكس ذلكَ، فهُم يعرفُونَ جيِّداً حجمَ المسؤُوليَّة التي يتحمَّلونَها عندَ الفشلِ والهزيمةِ كما أَنَّهم يعرفُونَ تقصيرهُم وأَينَ هي مكامِن الخطأ الذي ارتكبُوهُ والعجز الذي أُصيبُوا بهِ وخِداع الذَّات الذي عاشُوهُ وتلذَّذوُا طعمهُ فترة الإِنتصاراتِ الوهميَّة! والذي أَنتجَ الفشلَ والهزيمَة...

(قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَّهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُم مِّن دُونِهِ ۗ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ أَلَا ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

 إِنَّ الذينَ يُحاولونَ تغييرَ الدُّنيا لتكونَ على لونٍ واحدٍ ودينٍ واحدٍ ومذهبٍ واحدٍ ورأيٍ واحدٍ واهمُونَ فجهدَهُم هذا يناقِضُ إِرادة الله تعالى الذي خلقَ الخلقَ مُختلفينَ وشاءَت إِرادتهُ وقُدرتهُ لحكمةٍ ما أَن يكونُوا كذلكَ، كما في قولهِ تعالى (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ* إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) وإِقرارهُ تعالى لحقيقةِ الإِختلافِ بقولهِ عزَّ مَن قائِل (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ) و (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

 ولذلكَ أَقرَّت الآية الكريمة (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ديمومَة الإِختلاف واستمراريَّة التنوُّع إِلى يومِ يبعثونَ.

 تأَسيساً على هذا الثَّابت فليسَ من الواجبِ مُكافحة الإِختلاف وإِلغاء الآخر أَبداً فذلكَ فعلُ المجانينَ الذين ينطحُونَ صخرةٌ لتحطيمِها! وإِنَّما الواجبُ هو القَبول بالإِختلافِ والإِعترافِ بالتنوُّعِ للتَّعايشِ وليسَ للتَّقاطعِ، فالمُشتركات [الإِنسانيَّة] أَكثر بكثيرٍ من الإِختلافاتِ الدِّينيَّةِ والمذهبيَّةِ والإِثنيَّةِ والفكريَّةِ وغَيرِها من العناوينِ الثَّانويَّةِ، فقالَ تعالى (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

 نحنُ بأَشدِّ الحاجةِ إِلى البحثِ عن (كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا) فهي حصراً التي تحرِّضنا على قَبول الإِختلاف والتنوُّع للتَّعايش في إِطارِ حوارٍ إِنسانيٍّ منطقيٍّ وعقلانيٍّ (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

 فمَن أَنتَ لتظنُّ بقُدرتِكَ على فرضِ لونٍ واحدٍ على البشريَّةِ؟! وفي أُسرتِكَ الخِلافُ بيِّنٌ في كُلِّ شيءٍ حتَّى في المأكلِ والملبسِ والمركبِ فضلاً عن الأَفكارِ؟! ومَن أَجازَ لكَ ذلك ومنحكَ التَّفويضَ لفعلِ ذلكَ؟!.

 لقد رحلَ رسُولُ الله (ص) وفي مُجتمعِ المدينةِ كُلَّ أَنواعِ وأَشكالِ الخلفيَّاتِ الدينيَّةِ والفكريَّةِ حتَّى في داخلِ [الجماعةِ المُسلمةِ] كانَ الإِختلافُ واضحاً طفحَ في خلافاتِها في السِّياسةِ والحُكمِ، وتُريدُ أَنتَ توحيدِ الرُّؤية والأَفكار والولاءات؟!.

 لنقرأَ قَولَ الله تعالى بإِمعانٍ لنكتشِفَ حقيقةً مُهمَّةً، يقولُ تعالى (مَّا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا ۖ وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والآيةُ تتحدَّثُ عن النَّاس، كُل النَّاس، وليسَ عن فِئةٍ محدَّدةٍ، وهي إِشارةٌ واضِحةٌ إِلى أَنَّ الله تعالى هو مَصدر الرَّحَماتِ لخلقهِ، بغضِّ النَّظرِ عن إِيمانهِم بهِ أَو كُفرهِم، فكيفَ تُجيزُ لنفسِكَ أَن تسعى لتوحيدِ دينِ النَّاسِ واتِّجاهاتِ عقائدهِم أَو حتَّى طريقةِ تفكيرهِم ومُعتقداتهِم لتُحلِّلَ أَو تُحرِّمَ عليهمُ [النِّعمةَ]؟!.

 إِنَّ الله تعالى وهوَ الخالقُ المُتعال، لا يشترِط الإِيمان على العبدِ ليمدَّهُ بأَسبابِ الحياةِ والتنعُّمِ بها كما في قولهِ تعالى (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا* وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا* كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا).

وفي قولهِ تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) ولذلكَ فليسَ من حقِّ أَحدٍ أَن يُحدِّدَ هويَّات المُستفيدينَ ويبخسُ النَّاسَ خَياراتهُم مازال الله تعالى لم يشأ ذلكَ لحكمةٍ أَو لرحمةٍ!.

 سيَّانِ إِذن في التعرُّضِ لعطاءِ الله تعالى مَن سعى للدُّنيا ومَن سعى للآخرة، فبأَيِّ حقٍّ يتدخَّل العباد في تحديدِ هويَّةِ النَّاسِ قبلَ تعرُّضهِم لعطاءاتِ الله تعالى؟! وصدقَ الذي قالَ (قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنفَاقِ ۚ وَكَانَ الْإِنسَانُ قَتُورًا).

 فالحمدُ لله ربِّ العالمينَ الذي لم يفوِّض، بحكمَتهِ ورحمتهِ، أَيّاً من عبادهِ الهواءَ والحياةَ والموتَ والرِّزق، وإِلَّا لرأَينا كيفَ يتصرَّف هؤُلاء بالمنعِ والإِعطاءِ على أَساسِ الولاءِ لهُم وبمعيارِ اعتقادِ النَّاسِ بما يعتقدُونَ بهِ هُم على طريقةِ فرعونِ الذي قالَ (قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ).

 حتَّى التحكُّم في النَّتيجةِ فإِنَّ الله تعالى يقولُ في مشيئتهِ (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ ۖ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ۚ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا) وقد سلَّمَ الرُّسُل والأَنبياء بذلكَ (إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ۖ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

 ٣/ الشَّيءُ الثَّالث الذي لا ينافسنا عليهِ أَحدٌ هو الكلامُ والبحثُ والنِّقاشُ والجِدالُ والحِوارُ في الأَديانِ والمذاهبِ، نُصحِّحُ ونخطِّئُ، نقيِّمُ ونفسِّقُ، ونقبلُ ونردُّ، ونُصادِرُ ونحتكِرُ (وَقَالُوا لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَىٰ ۗ تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ۗ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ).

 والله تعالى يقولُ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

 لا أَحدَ في هذا العالَم مشغُول في الحديثِ عن [الدِّينِ] وفي [الدِّين] مثلنا لدرجةٍ أَنَّ أَكثر السَّاسة عندنا يحمِلونَ شهاداتهِم العُليا بتخصُّصاتٍ تدُورُ حَول الدِّين والمذهب والقُرآن الكريم والحديث وما إِلى ذلك! وهُم أَكثرهُم فساداً ولصوصيَّةً وسرِقةً للمالِ العام وللوقتِ!.

 والملاحظُ أَنَّ كُلَّ الشَّعبِ مُنخرِطٌ في هذا الجدالِ ويحمِلُ همَّهُ وشاغِلٌ بالهُ بهِ! حتَّى الجاهِلَ الذي لا يعرِف كيفَ يسبِغ وضوءهُ تراهُ يجادِلُ في ذلكَ (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ) حتَّى خسِرنا الماضي والحاضر والمُستقبل، وخسِرنا الدِّين والدُّنيا وأَخشى أَن نخسرَ الآخِرة!.

 حتَّى توقيت اليَوم الآخِر [السَّاعة] يتدخَّلونَ ويناقشُونَ فيهِ والله تعالى يقولُ (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ).

 وبذلكَ فقد تعطَّلت طاقات الشَّباب وعقُول النَّشء الجديد وهوَ يبحثُ عن [علاماتِ الظُّهورِ] فبدلاً من أَن تتفجَّرَ هذهِ الطَّاقات وتنخرِطَ في طلبِ العلمِ والمعرِفةِ للمُساهمةِ في عمليَّاتِ البناءِ والإِعمارِ الحضاريَّة والتَّاريخيَّة تراها ضائِعةً ومُبعثرةً وهي تبحثُ عن أَمرِ ليس لأَحدٍ فيهِ دخلٌ أَو إِرادةٌ فهو فِعلُ الله تعالى ومشيئتهُ فحسب كما في مُحكمِ كتابهِ الكريم (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ).

 وبينَ أَن نعيشَ في الماضي السَّحيقِ أَو المُستقبلِ العميقِ ضيَّعنا الحاضر!.

 تسمعُ عن الدِّينِ في المساجدِ ومن على المنابرِ وفي خُطبِ السَّاسةِ وفي وسائلِ التَّواصُلِ الإِجتماعي ولكنَّكَ لا تجِد الدِّين في العلاقاتِ الأُسريَّة والإِجتماعيَّة ولا تتحسَّسهُ في السُّوقِ والمدرسةِ والشَّارعِ ومحلِّ العملِ، ولا تلمسَ آثارهُ في السِّياسة والإِدارة والإِقتصاد وفي الإِعلامِ. 

 فالدِّينُ الذي هو [مُعاملة] إِقتصرَ على الخُطَبِ والدِّعاياتِ الإِنتخابيَّةِ! وأَنَّ الدِّينَ الذي هوَ لخدمةِ الإِنسان وتَوعيتهِ وتبشيرهِ وتحذيرهِ تحوَّل إِلى مُخدِّرٍ لغسلِ الأَدمغةِ ولتضليلِ الرَّأي العامِّ وتبريرِ الظَّواهرِ السَّلبيَّةِ كالفسادِ المالي والإِداري وإِلى عاملِ هدمٍ بسببِ التَّمييزِ الدِّيني والطَّائفي والإِتِّجارِ بهِ لأَغراضِ الدُّنيا الضيِّقة والتَّافهة والله تعالى يقولُ (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

 وصدقَ الحُسينُ السِّبطِ (ع) الذي قالَ (النَّاسُ عبيدُ الدُّنيا والدِّينُ لعِقٌ على أَلسنتهِم، فإِذا مُحِّصُوا بالبلاءِ قلَّ الدَّيَّانُونَ).

 أَلم يقُل ربُّ العزَّةِ (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ).

تحمَّل المسؤُولية في الفشلِ

 (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ).

 تتجلَّى ظاهرة التَّلاوم تحديداً وتنتشِر في زمنِ الفشلِ والهزيمةِ والتعثُّرِ، ليسَ على مُستوى الإِنسان المُجتمع، وإِنَّما كذلكَ على مُستوى الإِنسان الفرد، ولذلكَ قيلَ أَنَّ للإِنتصارِ مليون أَب أَمَّا الهزيمةُ فيتيمَةٌ، لأَنَّ كُلَّ واحدٍ يسعى للهربِ من المسؤُوليَّة وأَن لا يتحمَّل مِنها شيئاً، فيظلُّ يلف ويدُور باحثاً عن شمَّاعة أَو كبِش فداء يرمي عليهِ مسؤُوليَّة الفشَل، ولقد عدَّ المُشرِّع هذهِ الظَّاهرة جريمةٌ لا تُغتفر كما في الآيةِ الكريمةِ (وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا).

 والذي يتعوَّد على حالةِ التَّلاوم في الدُّنيا يستصحبَها معهُ في الآخرة كما في قولهِ عزَّ وجلَّ (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) وقولهُ (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ).

 والمُتلاومُونَ عادةً يضمرُونَ الحقائِق التي يعرِفُونها (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ۖ) في أَنفسهِم ويُظهِرُونَ عكس ذلكَ، فهُم يعرفُونَ جيِّداً حجمَ المسؤُوليَّة التي يتحمَّلونَها عندَ الفشلِ والهزيمةِ كما أَنَّهم يعرفُونَ تقصيرهُم وأَينَ هي مكامِن الخطأ الذي ارتكبُوهُ والعجز الذي أُصيبُوا بهِ وخِداع الذَّات الذي عاشُوهُ وتلذَّذوُا طعمهُ فترة الإِنتصاراتِ الوهميَّة! والذي أَنتجَ الفشلَ والهزيمَة إِلَّا أَنَّ الخَوف من تحمُّلِ العواقبِ الوخيمةِ أَو العقابِ أَو الخوفِ من العار الذي سيُلاحقهُم أَجيالاً هو الذي يحُولُ بينهُم وبينَ الإِعلانِ عن مسؤُوليَّتهم ولَو بالحجمِ والمقدارِ المعقُول وهي أَسبابٌ تمنعهُم من الإِشهارِ عن دَورهِم في الهزيمةِ التي تلحَق بالجماعةِ أَو بشخصهِ، لا فرقَ، وإِلَّا (بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ).

 لذلكَ كُلَّهُ يبذلُ المُتلاوِمُونَ أَقصى الجُهد لقلبِ الحقائقِ أَو إِخفائِها لتحويلِ الهزيمةِ المُدوِّيةِ إِلى انتصارٍ تاريخيٍّ لا مثيلَ لهُ!.

 من اللَّازمِ المُؤَكَّد أَن نتعلَّمَ كيفَ نتحمَّل مسؤُوليَّتنا في الفشلِ كما نحبُّ ونعشقُ أَن يُشارَ لنا بالبنانِ وعلى رؤُوسِ الأَشهادِ إِذا كانَ لنا دورٌ في إِنجازِ المهمَّة وتحقيقِ النَّجاحِ والإِنتصارِ.

 إِنَّها ثقافة الإِسراع في تحمُّلِ المسؤُولية، مهما كانَ دورَنا في الإِنتصارِ أَو في الهزيمةِ، لنتحلَّى بالإِنصافِ على أَنفسِنا وعلى غيرِنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).

 فمنَ الشَّهادة بالقِسطِ الإِعتراف بالمسؤُوليَّةِ في النَّصرِ وفي الهزيمةِ على حدٍّ سواءٍ، فإِذا رأَيتَ [المسؤُول] يُقيمُ الدُّنيا ولا يُقعِدها إِذا كانَ لهُ دورٌ في تحقيقِ النَّصرِ لكنَّهُ يخنس فيبلعُ لسانهُ ويُخفي رأسهُ في التُّرابِ كالنَّعامةِ أَو يتلاعب بالأَلفاظ ليهربَ إِذا كانَ لهُ دورٌ في الهزيمةِ، فليس ذلكَ من الشَّهادةِ بالقسطِ والعدلِ أَبداً وهوَ خِلافُ الإِنصافِ الذي هوَ تَوأَمُ الدِّينِ كما في الحديثِ الشَّريفِ (مَن لا إِنصافَ لهُ لا دِينَ لهُ).

 لقد تحدَّث القرآن الكريم كثيراً عن هذهِ الثَّقافة وإِن كانت صعبةً على النَّفسِ البشريَّةِ إِلَّا أَنَّ التَّحلِّي بها هو مِفتاحُ الإِستقرار النَّفسي والثَّبات المادِّي وبِناء الثِّقة وعلى المُستويَينِ الشَّخصي ومُستوى الجماعَة وبعكسِها يتشتَّت المُجتمع وتتوزَّع الأَفكار وتختلِف الأَهواء وتُشرِّق وتُغرِّب التَّفسيرات ولذلكَ تضيع الحقائِق في زحمةِ كُلِّ ذلكَ وهو الأَمرُ الذي يُنتِجُ القلَق والفَوضى وانعدامِ الثِّقةِ في المُجتمعِ.

يقولُ تعالى (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) و (وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ) و (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا).

 إِنَّ تحمُّل مسؤُوليَّة الهزيمةِ [المادِّيَّةِ] يقِفُ بوجهِ تحوُّلهِا إِلى [هزيمةٍ نفسيَّةٍ] وهوَ أَمرٌ في غايةِ الأَهميَّةِ والخطُورةِ في آنٍ.

 يلزَم أَن نتعلَّمَ تحمُّل مسؤُوليَّة ما نسمعهُ ونُصغِ إِليهِ وما نراهُ ونُتابعهُ وما ننوي ونفكِّر فيهِ ونعتقدُ بهِ ونُقرِّرهُ، فكلَّما ترسَّخت في نفوسِنا هذهِ الثَّقافة كلَّما زادَ حذرَنا قبلَ أَن نُدلي بدَلوِنا أَو نقدِّم مُقترحاً أَو نُصدِرُ أَمراً، وبذلكَ سنحسِب لكُلِّ خُطوةٍ حسابها ثمَّ نتوِّج كُلَّ ذلكَ باستعدادِنا النَّفسي والرُّوحي والمادِّي لتحمُّلِ العواقِبِ حُلوةً كانت أَو مُرَّةً، وهُنا بالضَّبط تتجلَّى الرُّجولة والشَّهامة والشَّجاعة والثِّقة بالنَّفس.

 أَقولُ؛ بدلاً من التَّلاوم وسعي الكُل رمي مسؤُوليَّة الهزِيمة والفشَل على بعضهِم، أَقترح ما يلي؛

 ١/ أَن يعترِفَ كُلَّ واحدٍ بحجمِ دَورهِ في الهزيمةِ، مهما كان صغيراً أَو كبيراً من دونِ ضحكٍ على الذُّقونِ ومن دونِ تبريرٍ وتهرُّبٍ مهما كانَ شِكلهُ!.

 ٢/ بدلاً من أَن تقضي الجماعة وقتَها الثَّمين في التَّلاوُمِ ينبغي عليهِم أَن يتحمَّلُوا المسؤُوليَّة للإِنتقالِ فوراً إِلى المرحلةِ الثَّانيةِ وهي أَن يبحثُوا ليحدِّدُوا أَسباب الفشَل وعوامِل الهزيمة ومن ثمَّ ليتعاونُوا على تجاوُزِها ومُعالجةِ آثارِها السَّلبيَّةِ [المُدمِّرة] قبلَ فواتِ الأَوان.

 إِنَّ التَّأخيرَ في الإِنتقالِ السَّريعِ من مرحلةٍ لأُخرى يكرِّس الهزيمة ويعمِّق الفشَل ولا يُساعد على فعلِ شيءٍ يغيِّر المُعادلة، خاصَّةً إِذا كانت الهزيمةُ مُدوِّيةً والفشلُ كبيرٌ!.

 ٣/ وبرأيي فإِنَّ العامل المُهم الذي يُساعد الجماعة على كُلِّ ذلكَ هو مبدأُ الإِنسجام، فكُلَّما كانت الجماعةُ منسجِمةً فكريّاً وعقديّاً ومُنسجِمةً في المُنطلقاتِ والأَهدافِ والأَدواتِ كلَّما كانت أَقرب إِلى تنفيذِ الخَطوات أَعلاهُ وبسُرعةٍ قُصوى قبلَ أَن تفلِتَ الأُمورُ من يدِها، والعكسُ هو الصَّحيحُ فإِذا كانت الجماعةُ غَير مُنسجمةً في شيءٍ فالتَّلاومُ فيما بينِها هو سيِّدُ الموقفِ وهو الذي يطفُو على السَّطحِ ليتحوَّل إِلى خلافاتٍ واختلافاتٍ ورُبَّما إِلى تسقيطٍ وتطهيرٍ وتشهيرٍ وحرُوبٍ.

 كتبَ أَميرُ المُؤمنِينَ (ع) في عهدهِ للأَشترِ لمَّا ولَّاهُ مِصر يحثُّهُ على تحمُّلِ المسؤُوليَّة على كُلِّ حالٍ وعدمِ التَّفكيرِ بالتهرُّبِ منها أَو رميِها على غيرهِ فإِنَّ ذلكَ خلاف الإِنصاف والمرُوءة.

 يقولُ (ع) (أَنْصِفِ اللَّه وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ ومَنْ لَكَ فِيه هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ فَإِنَّكَ إِلَّا تَفْعَلْ تَظْلِمْ! ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللَّه كَانَ اللَّه خَصْمَه دُونَ عِبَادِه ومَنْ خَاصَمَهُ اللَّه أَدْحَضَ حُجَّتَهُ وكَانَ لِلَّه حَرْباً حَتَّى يَنْزِعَ أَوْ يَتُوبَ، ولَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَى تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللَّه وتَعْجِيلِ نِقْمَتِه مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ فَإِنَّ اللَّه سَمِيعٌ دَعْوَةَ الْمُضْطَهَدِينَ وهُوَ لِلظَّالِمِينَ بِالْمِرْصَادِ).

 فبتحمُّلِ المسؤُوليَّة فقط ينزِعُ المسؤُول أَو يتوبُ من الفشلِ والهزيمةِ والخطأ والذَّنبِ وهي أَنواع الظُّلم الذي يمارسهُ بحقِّ رعيَّتهِ.

 ويضيفُ (ع) في عهدهِ (وإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ واعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ ورِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِه حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ).

اضف تعليق