ترك السيد حسن الشيرازي إرثاً فكرياً وحركياً ضخماً، لا يزال يشكل معيناً للباحثين عن نهضة إسلامية أصيلة تجمع بين "مداد العلماء" و"دماء الشهداء"، وتقدم الإسلام كخيار حضاري قادر على إنقاذ البشرية من أزماتها المادية والروحية. إن "الكلمة" التي زرعها الشيرازي لم تمت بموته، بل تحولت إلى شجرة طيبة...
يمثل مشروع السيد حسن الشيرازي (1937-1980م) تجربة إصلاحية فريدة في التاريخ الإسلامي المعاصر، حيث جمع بين عمق الفقيه، ورؤية المفكر، وحماسة الثائر، وحساسية الأديب. لم يكن تحركه مجرد رد فعل آني على الأحداث السياسية التي عصفت بالعراق والمنطقة في القرن العشرين، بل كان مشروعاً حضارياً متكاملاً يسعى لملء "الفراغ" العقائدي والفكري الذي خلفه تراجع المسلمين، ومواجهة التيارات الوافدة (الشيوعية والرأسمالية) التي حاولت استلاب هوية الأمة.
تتناول هذه المقالة بالتفصيل مقومات هذا المشروع وعناصر الإصلاح فيه، موزعة على محاور فكرية، ومؤسسية، وسياسية، واجتماعية، وأدبية.
المحور الأول: المنطلق الفكري.. تشخيص الداء وتحديد الدواء
انطلق السيد حسن الشيرازي في مشروعه النهضوي من قراءة عميقة لواقع الأمة الإسلامية في منتصف القرن العشرين، وهي فترة تميزت بالتحولات الدولية الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية وصراع الأيديولوجيات.
1. صراع الهوية وملء الفراغ
رأى الشيرازي أن الأمة الإسلامية تعيش حالة من "الفراغ" الخطير الذي نشأ نتيجة تخلي المسلمين عن دورهم القيادي وعن منهجهم الإسلامي الأصيل. وقد شخص هذا الواقع بأن المسلمين يملكون "أضخم رصيد من المبادئ والقيم"، ومع ذلك يعيشون "فراغاً" تحاول التيارات المستوردة ملأه. كان يرى أن العالم الإسلامي، وخاصة العراق، يتعرض لغزو فكري عقائدي يهدف إلى مسخ هويته، سواء من قبل "الشيوعية الحمراء" أو "الرأسمالية".
لقد اعتبر أن التخلي عن الإسلام لصالح المبادئ المستوردة هو انتحار حضاري، فالمسلمون يملكون تراثاً قادراً على قيادة الحياة، فلماذا يستجدون مناهج الآخرين؟. ومن هنا، كانت ركيزة نهضته هي "العودة إلى الإسلام" كمنهج حياة شامل "دين ودولة".
2. الكلمة كأداة للتغيير (استراتيجية "الكلمة")
آمن السيد الشيرازي إيماناً مطلقاً بقوة "الكلمة" كسلاح استراتيجي في معركة النهضة. لم يعتبر الكلمة مجرد تعبير لغوي، بل رآها "طليعة الكلمة الطيبة" وأداة لفتح الآفاق وتغيير النفوس. في مواجهة الأنظمة القمعية والتيارات الإلحادية، رفع شعار "كلمة الإسلام هي العليا"، واعتبر أن مهمة المصلح هي إيصال هذه الكلمة بوضوح وقوة لملء الفراغ الفكري.
لقد أدرك أن "الكلمة" هي التي تصنع الوعي، وأن أي تغيير سياسي أو اجتماعي لا يسبقه تغيير في الوعي عبر "الكلمة" سيكون تغييراً هشاً؛ لذلك كرس حياته للكتابة والتأليف والخطابة، فكان "الكلمة" هو عنوان موسوعته الكبرى، وكان يعتقد أن الكلمة الهادفة هي التي تخلد وتصنع التاريخ.
3. شمولية الإسلام
رفض الشيرازي تجزئة الإسلام أو حصره في الزاوية العبادية الضيقة. كان يطرح الإسلام كـ "مبدأ شامل" للحياة، يتدخل في السياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب. وقد عبر عن ذلك في كتاباته ومواقفه التي أكدت أن الإسلام يمتلك نظرية متكاملة للحكم ولإدارة المجتمع، وأن فصل الدين عن السياسة هو مؤامرة تهدف إلى إضعاف المسلمين.
المحور الثاني: الإصلاح المؤسسي.. الانتقال من الفردية إلى المؤسسة
أدرك السيد حسن الشيرازي مبكراً أن العمل الفردي، مهما كان عظيماً، لا يمكنه مواجهة التحديات المنظمة التي تواجهها الأمة. لذلك، طرح رؤية رائدة لإصلاح "المؤسسة الدينية" (الحوزة) وتحويلها إلى كيان مؤسسي منظم.
1. نقد الفردية في المرجعية
وجه الشيرازي نقداً بناءً لواقع الحوزة العلمية التقليدي، حيث كانت تعتمد بشكل كلي على شخص المرجع الفرد. رأى أن هذا الأسلوب يجعل العمل الديني عرضة للاهتزاز برحيل المرجع، ويفتقر إلى التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى. كان يرى أن الأجهزة المناوئة للإسلام (كالشيوعية وحزب البعث) تعمل وفق أنظمة حزبية ومؤسسية دقيقة، ولا يمكن مواجهتها بجهود فردية مبعثرة.
2. مشروع "المرجعية المركزية" والمجلس الديني
طرح الشيرازي فكرة "المرجعية المركزية العالمية" التي تتجاوز الحدود الجغرافية. ولم يكتفِ بالشعارات، بل قدم مقترحات عملية لتنظيم الحوزة، منها:
* إنشاء مجلس ديني: يكون بمثابة "مجلس وزراء" للمرجعية، يضم متخصصين في مختلف المجالات (سياسة، اقتصاد، تبليغ) لتقديم المشورة للمرجع وإدارة شؤون الطائفة والأمة.
* التخصص وتقسيم العمل: دعا إلى أن لا يكون المرجع مشغولاً بكل التفاصيل الصغيرة، بل يجب توزيع المهام على لجان متخصصة، بحيث تتفرغ المرجعية للقيادة العليا والتوجيه الاستراتيجي.
3. تأسيس الحوزات والمؤسسات التعليمية
ترجم الشيرازي أفكاره إلى واقع ملموس من خلال تأسيسه لعدد كبير من المؤسسات، أبرزها:
* الحوزة العلمية الزينبية في سوريا: التي أسسها في منطقة السيدة زينب عام 1975م، لتكون منارة علمية في منطقة كانت تفتقر لمثل هذا الإشعاع الديني.
* مدارس الإمام المهدي: التي جمعت بين العلوم الدينية والعلوم الأكاديمية الحديثة لإنتاج جيل واعٍ ومتعلم.
* المؤسسات الثقافية: اهتم بإنشاء المكتبات ودور النشر لطباعة الكتاب الإسلامي ونشره، مؤكداً على أهمية "الآلة الطابعة" في نشر الفكر.
المحور الثالث: الرؤية السياسية والثورية.. مقارعة الطغيان
لم يكن السيد حسن الشيرازي منظراً يجلس في البروج العاجية، بل كان في قلب المعترك السياسي، حاملاً هموم شعبه وأمته.
1. الموقف من الأنظمة الوضعية
رفض الشيرازي شرعية الأنظمة التي لا تحكم بما أنزل الله، واعتبر أن الحاكمية لله وحده. وقف بصلابة ضد المد الشيوعي في العراق خلال الخمسينات والستينات، معتبراً إياه خطراً يهدد عقيدة الأمة، وشارك بفعالية في فتوى تكفير الشيوعية التي أصدرها والده المرجع الميرزا مهدي الشيرازي وكبار العلماء.
2. المواجهة مع حزب البعث
كان الشيرازي من أوائل من أدركوا خطورة حزب البعث عند وصوله للسلطة في العراق عام 1968. رأى في البعثيين مجموعة من "المغامرين" الذين لا يملكون رصيداً شعبياً، وأنهم جاؤوا لتنفيذ أجندات خارجية لتدمير هوية العراق الإسلامية.
* المذكرة الجريئة: في عام 1969، وعندما بدأ البعثيون بمحاربة الشعائر الحسينية، أرسل الشيرازي برقية احتجاج شديدة اللهجة إلى الرئيس العراقي أحمد حسن البكر، حذره فيها من مغبة التعرض لعقائد الشعب، قائلاً: "إن الشعب العراقي يضحي بكل شيء، ولكنه لا يضحي بدينه وشعائره".
* الاعتقال والتعذيب: دفع الشيرازي ثمن مواقفه، حيث اعتقل وتعرض لتعذيب وحشي في "قصر النهاية". وقد وثق هذه التجربة المريرة في ديوانه الشعري "خواطر عن قصر النهاية"، واصفاً أصناف التعذيب النفسي والجسدي الذي تعرض له، ليجعل من معاناته وثيقة إدانة تاريخية للنظام.
3. نظرية الحكم الإسلامي وولاية الفقيه
كان الشيرازي يرى أن الهدف النهائي للعمل السياسي الإسلامي هو إقامة "حكومة إسلامية" تطبق شرع الله. آمن بـ "ولاية الفقيه" كنيابة عامة عن الإمام المعصوم في عصر الغيبة، معتبراً أن الفقهاء العدول هم الأمناء على تطبيق الشريعة وقيادة الأمة. كان يدعو إلى حكومة تقوم على الشورى والعدالة، وترفض الاستبداد وتوريث الحكم.
المحور الرابع: القضية الحسينية وقوداً للنهضة
شكلت النهضة الحسينية محوراً مركزياً في فكر وحركة السيد حسن الشيرازي. لم ينظر إليها كحدث تاريخي مضى، بل كـ "محرّك" دائم للثورة ضد الظلم.
1. استلهام روح الثورة
كان يردد دائماً أن "الإسلام علوي الوجود حسيني البقاء". رأى أن الشعائر الحسينية (المجالس، المواكب، الزيارة) هي التي حفظت الإسلام من الضياع، وهي القادرة على شحذ الهمم لمقارعة الطغاة، ما دام الصراع بين الحق والباطل مستمراً.
2. توظيف الشعائر سياسياً
عمل الشيرازي على تحويل الشعائر الحسينية من طقوس تقليدية جامدة إلى طاقة ثورية واعية. استثمر المناسبات الدينية، وخاصة زيارة الإمام الحسين (ع)، لتوعية الجماهير بحقوقهم وواجباتهم السياسية. كان يرى في التجمعات المليونية فرصة ذهبية لبث الوعي ورفض الخنوع، وربط بين مظلومية الحسين (ع) ومظلومية الشعب العراقي تحت حكم البعث.
3. الشعائر وسيلة للوحدة
نظر إلى الشعائر الحسينية كوسيلة لتوحيد الأمة وجمع كلمتها. كان يؤكد أن الحسين (ع) ليس للشيعة فقط، بل هو "للإنسانية جمعاء". ودعا إلى استثمار موسم الحج وزيارات الأئمة لتعزيز روابط الأخوة بين المسلمين من مختلف القوميات والمذاهب،.
المحور الخامس: الأدب الملتزم (الأدب الموجه)
في زمن طغت فيه موجات الأدب العبثي والوجودي، قدم السيد حسن الشيرازي نظرية متكاملة للأدب الإسلامي أسماها "الأدب الموجه" أو "أدب الحياة".
1. رفض العبثية واللامبالاة
انتقد الشيرازي بشدة "أدب اللامبالاة" الذي لا يحمل رسالة، و"أدب الجنس" الذي يهدف إلى إثارة الغرائز. اعتبر أن الكلمة مسؤولية، وأن الأدب الذي لا يخدم الإنسان وقضاياه المصيرية هو أدب "ميت" أو "مزيف".
2. الأدب رسالة وبناء
دعا إلى أدب يبني الإنسان، ويبعث الأمل، ويعالج مشاكل المجتمع. بالنسبة له، الأدب هو "صياغة فنية للقيم".
* الشاعر الثائر: جسّد نظريته في شعره، فكانت قصائده صرخة في وجه الظلم ودعوة للتحرر. كتب الشعر في السجن، وفي المنفى، وفي ساحات الجهاد. من أشهر قصائده تلك التي نظمها في السجن، والتي تحدى فيها جلاديه.
* موسوعة "الكلمة": ألف موسوعة ضخمة بعنوان "الكلمة"، جمع فيها رؤيته للأدب والحياة، مؤكداً أن "الكلمة" هي البدء وهي المنطلق لأي تغيير حضاري.
المحور السادس: الرؤية الاقتصادية.. الاقتصاد الإسلامي
لم يغفل المشروع الإصلاحي للشيرازي الجانب الاقتصادي، بل قدم رؤية متميزة تنبع من صميم الإسلام.
1. نقد الرأسمالية والاشتراكية
رفض الشيرازي كلاً من الرأسمالية (التي تقدس الفرد وتسمح بالاحتكار) والاشتراكية/الشيوعية (التي تلغي الفرد وتصادر الملكية). رأى أن كلا النظامين قاصران عن تحقيق السعادة والعدالة للإنسان لأنهما ينظران إليه نظرة مادية بحتة.
2. مبادئ الاقتصاد الإسلامي
طرح "الاقتصاد الإسلامي" كبديل حضاري يقوم على التوازن. من أهم مرتكزاته:
* الملكية المزدوجة: إقرار الملكية الخاصة والملكية العامة وملكية الدولة في آن واحد، بما يحقق التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع.
* تحريم الربا والاحتكار: اعتبر الربا وسيلة لاستغلال المحتاجين وتكديس الثروة، والاحتكار جريمة بحق المجتمع.
* التكافل الاجتماعي: أكد على فريضة الزكاة والخمس والصدقات كأدوات لإعادة توزيع الثروة والقضاء على الفقر.
* التنمية الشاملة: دعا إلى استثمار ثروات الأرض (المعادن، الزراعة) وعدم تركها معطلة، معتبراً أن الفقر في العالم الإسلامي ليس نتاج قلة الموارد بل نتاج سوء الإدارة والابتعاد عن منهج الله.
المحور السابع: الإصلاح الاجتماعي والوحدة.. قضية العلويين نموذجاً
من أبرز إنجازات السيد حسن الشيرازي العملية هو مشروعه الإصلاحي الكبير تجاه الطائفة العلوية في سوريا ولبنان.
1. إعادة الربط بالجذور
لاحظ الشيرازي أن العلويين تعرضوا لعزل تاريخي طويل ومظالم دفعتهم للانكفاء، مما جعلهم عرضة للتشكيك في عقائدهم. فانطلق بمشروع ضخم لربطهم بجذورهم الإسلامية الأصيلة (مدرسة أهل البيت عليهم السلام).
2. البيان التاريخي
أثمرت جهوده عن إصدار "البيان التاريخي" الشهير في عام 1973، الذي وقعه كبار علماء العلويين، وأكدوا فيه أن العلويين هم مسلمون شيعة جعفريون، نافين عن أنفسهم تهم الغلو أو الحلول. كان هذا البيان ضربة قاصمة لمخططات التجزئة الطائفية.
3. المؤسسات والخدمات
لم يكتفِ بالبيانات، بل عمل ميدانياً:
* بنى المساجد والحسينيات في مناطق العلويين.
* أسس مدارس لتعليمهم العلوم الدينية وتصحيح المفاهيم الخاطئة.
* زوج الشباب وآخى بين العشائر، ودمجهم في الجسم الإسلامي العام.
كان هذا المشروع نموذجاً عملياً لرؤيته في "وحدة الأمة" ونبذ التفرقة، حيث حول التنظير الوحدوي إلى واقع ملموس يحمي شريحة واسعة من المسلمين من الضياع أو الذوبان في التيارات العلمانية.
المحور الثامن: الشهادة.. ضريبة الإصلاح
كان السيد حسن الشيرازي يدرك جيداً أن طريقه محفوف بالمخاطر، وأن مواجهته للأنظمة الجائرة (خاصة نظام البعث في العراق) ستكلفه حياته.
1. مشروع شهادة
كان يردد دائماً: "أنا مشروع شهادة". لم يرهبه السجن ولا التعذيب ولا التهديدات. كان يرى أن المصلح الحقيقي هو الذي يكتب بدمه ما عجز الحبر عن تدوينه.
2. الاغتيال
في 2 أيار 1980، امتدت يد الغدر لتغتال السيد حسن الشيرازي في بيروت، وهو في قمة عطائه الفكري والجهادي. كان اغتياله محاولة لوأد هذا المشروع النهضوي الكبير، لكن دماءه تحولت إلى وقود جديد ألهم تلامذته ومحبيه لمواصلة الطريق.
الخاتمة: ملامح المدرسة الشيرازية في الإصلاح
يمكن تلخيص عناصر مشروع السيد حسن الشيرازي في النقاط التالية:
1. الأصالة: العودة إلى الإسلام كمنبع وحيد للقيم والتشريع، ورفض التغريب والاستلاب الفكري.
2. الشمولية: الإسلام نظام للحياة كلها (سياسة، اقتصاد، اجتماع، ثقافة) وليس مجرد طقوس.
3. المؤسسية: الانتقال بالعمل الديني من الفردية العشوائية إلى التنظيم المؤسسي الاستراتيجي.
4. العالمية: تجاوز الحدود القطرية والمذهبية، والعمل على مستوى الأمة الإسلامية بل والإنسانية.
5. الثورية: رفض الظلم والاستبداد، واتخاذ كربلاء منهجاً للمقاومة والتغيير.
6. الواقعية الميدانية: عدم الاكتفاء بالتنظير، بل النزول إلى الساحة لحل مشاكل الناس (كما فعل مع العلويين وبناء المؤسسات).
لقد ترك السيد حسن الشيرازي إرثاً فكرياً وحركياً ضخماً، لا يزال يشكل معيناً للباحثين عن نهضة إسلامية أصيلة تجمع بين "مداد العلماء" و"دماء الشهداء"، وتقدم الإسلام كخيار حضاري قادر على إنقاذ البشرية من أزماتها المادية والروحية. إن "الكلمة" التي زرعها الشيرازي لم تمت بموته، بل تحولت إلى شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.



اضف تعليق