q
ملفات - شهر رمضان

حَبَّذَا صَوْمُ الأَكْيَاسِ

نَظَرَاتٌ وَخَاطِرَاتٌ رَمَضَانِيَّةٌ

ما أجمل عمل العقلاء العارفون الذين يكون نومهم وهم صائمون وفِطْرُهم، أفضل من صوم الحمقى وقيامهم، وذلك لأن العقل زينة الله التي زيَّن بها البشر ودرجاتهم بمقدار ما أعطاهم من عقول، ولذا صار أكملهم، وأشرفهم، وأعظمهم، هم مَنْ كمُلت عقولهم وأشرف الكاملين من البشر هم...

حلَّ شهر الخير بعطره

هلَّ هلال شهر رمضان، وحلَّ شهر الخير بعطره الفواح، ونحن في هذه الأوضاع الخانقة، والحصار العجيب الغريب الذي أدخلنا فيه فيروس كورونا النحس، والعالم يموج ويتلاطم في كل النواحي وكأنه تحوَّل من كرة ترابية يابسة، على بحر متلاطم الأمواج العاتية، لا سيما في الاقتصاد والاجتماع والسياسة، فهذه الأزمة العالمية أظهرت حقيقة التقدم الرقمي، فبان للجميع أنه بئس التقدم في البناء، والتأخر بالنفوس والمعنويات، فهي حضارة خاوية على عروشها من كل القيم الإنسانية، ولذا فهي إلى الأفول والانهزام بإذن الله تعالى.

وجاءنا هذا الشهر الكريم ونحن أحوج ما نكون إليه، ليمنحنا القوة والمعنوية، ويجعلنا نتواسى فيما بيننا كعاداتنا الراقية جداً فيه، يقول السيد الراحل الإمام الشيرازي: (يُطلُّ علينا كل عام شهر رمضان بعطره الزاكي، بنسيمه الفوّاح، الذي ما أن يلمسَ النفوسَ حتى يجعلها على أهبَّة الاستعداد لتلقي كلمات الإنابة، والتوبة الصَّادقة إلى الله سبحانه وتعالى.

شهر رمضان بلسمٌ يبعث الارتياح والطمأنينة إلى النفوس المعذّبة، والقلوب المنكسرة، والأجساد المنهكة، انّه ضماد لجراحات القلب، والجسد؛ يُخفّف عنها عناءَ الحياة، ومشاقَّ العمل، والكدِّ، في لياليه المقمرة بالآمال، وبأيامه الزاخرة بالعلاقات، والزيارات وبالمحبة المتبادلة). (شهر رمضان شهر البناء والتقدم: المقدمة ص2)

نظرة في الصوم والصائمين

الصوم: هو الحبس، وهو فرع أصيل من فروع الإسلام العظيم، ولدينا نوعين من الصوم: صوم عادة، وصوم عبادة، والأوَّل هو صوم أهل الإسلام عامَّةً، الذين اعتادوا على حبس أنفسهم عن الطعان من الفجر، وحتى أذان المغرب، حيث وعوا على هذه الدنيا فرؤوا أهليهم عندما يهلُّ هلال شهر رمضان يتوقفون عن الطعام والشرب طيلة اليوم، والنساء ينشغلن بتحضير الطعام والشراب طيلة اليوم، وعندما يؤذن المغرب تراهم يأكلون كل ما حضَّت النساء من طعام وشراب وكأن لديهم جوع عتيق، وشوق عميق لما لذَّ طاب من ذلك كله.

صوم العادة والعوام

هؤلاء الكرام – كما يقول الفقهاء العظام -: أنهم يسقطون الواجب عليهم (وهو الصوم) ولكن هل لأجل هذا فقط كان تشريع الصوم؟ الإمساك عن المفطرات وترك النفس الشريرة والأمارة بالسوء على هواها، تضرب الصغير، والمرأة، وتسبُّ وتشتم، ويقول: اللهم إني صائم، ولا أحد يُكلمني لأن نفسي صارت في راس مناخري، لنني صائم؟

فهؤلاء هم ممَنْ قال عنهم رسول الله (ص): (كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش)، ولذا قال الصادق (عليه السلام) لمحمد بن مسلم: (يا محمد إذا صمتَ فليصمْ سمعك، وبصرك، ولسانك، ولحمك، ودمك، وجلدك، وشعرك، وبشرتك، فلا يكن يوم صومك كيوم فطرك).

وفي رواية أخرى كما في الوسائل؛ قال أبو عبد الله (عليه السلام): (إذا صمتَ فليصمْ سمعك، وبصرك، من الحرام، والقبيح، ودَعْ المِراء، وأذى الخادم، وليكنْ عليك وقارُ الصَّائم (الصِيَام)، ولا تجعل يوم صومك، كيوم فطرك).

فللصوم وقار وسكينة وهدوء وعلى الصائم أن يتمتع بذلك كله وليس أن يتصف بعكسها من الخفَّة والحماقة وسوء الخُلق ويتطاول على خلق الله لا سيما الضعفاء من المقربين منه كالزوجة والابن وحتى الوالدين والأجراء وغيرهم ممَنْ يقعون تحت سلطته أو حمايته أو ما شابه ذلك من أنواع وصنوف العمال.

صوم العبادة والخواص

وأما صوم العبادة؛ فهو يختلف تماماً عن صوم العادة ليس من حيث المعنى العام، من حبس النفس عن المفطرات فقط، لا بل يحبسون أنفسهم على ذات الله، فيقصرون عملهم وجوعهم، وعطشهم لله وفي الله وذلك لنهم يتذكرون جوع وعطش يوم القيامة، ويشرون أنفسهم في ذلك الموقف بحبسها على الله تعالى وكل ما يُقربهم إليه في هذه الحياة، فهم كما قال رسول الله (ص) في خطبته في استقبال هذا الشهر الكريم: (اذْكُرُوا بِجُوعِكُمْ وَعَطَشِكُمْ فِيهِ جُوعَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَعَطَشَهُ)، ولذا فهم لا يهمهم الجوع والعطش في شيء بلا ينظرون لها بذات قيمة؛ لنهم يأكلون ليعيشوا، لا يعيشوا ليأكلوا، فيكون الأكل مبلغ همهم في هذه الحياة، بال الطعام ضرورة لحفظ الحياة، وقوام الجسم فيه.

والصوم عبادة بل أمانة لله كما يُروى عن عبد الله بن مسعود، بإسناد حسن قال(ص): (إنَّ الصومَ أمانةٌ فليحفظ أحدُكم أمانتَه)، لأنه لا رقيب ولا حسيب عليك في خلواتك إلا الله تعالى، ولذا قال سبحانه في الحديث القدسي: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ).

فصوم العبادة هو صوم الأمانة المقدسة لله تعالى، ومَنْ عبد الله وتعبَّد بتلك الأمانة بشروطها التي بينتها الأحاديث فغنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، أي يكون وكأنه لا ذنب له، ويكون ذلك بخروجه من الشهر الكريم فيحق له العيد، وان يفرح بعيد الفطر السعيد له خاصَّةً.

وعن جابر، عن أبي جعفر (ع) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) لجابر بن عبد الله: (يا جابر هذا شهر رمضان من صام نهاره، وقام ورداً من ليله، وعفَّ بطنه، وفرجه، وكفَّ لسانه، خرج من ذنوبه كخروجه من الشهر، فقال جابر: يا رسول الله ما أحسن هذا الحديث، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): يا جابر وما أشد هذه الشروط). (الكافي: ج4 ص125)

حبذا صوم الأكياس

وربما هذا ما أشار إليه أمير المؤمنين الإمام علي (ع) بحديثه ودرته النورانية التي نقلها عنه الشريف الرضي في (نهج البلاغة)، قال(عليه السلام): (كَمْ مِنْ صَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلاَّ الظَّمَأُ، وَكَمْ مِنْ قَائِم لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلاَّ الْعَنَاءُ، حَبَّذَا صَوْمُ (نَوْمُ) الأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ!) (نهج البلاغة: ح137)

والأكياس: جمع كيِّس وهو العاقل؛ (مجمع البحرين 4: 101)

ولهذه الدُّرة العلوية صيغتان ولكل واحدة لها معاني لا تستغني عنها أيها الصائم؛ (حَبَّذَا صَوْمُ الأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ)، أي أن أمير المؤمنين (ع) يُحبِّذ ويُحبب لنا صوم العقال، الذين العقل رائدهم في كل أعمالهم، وقائدهم في كل تصرفاتهم، ومنها الصوم الواجب.

وأما (حَبَّذَا نَوْمُ الأَكْيَاسِ وَإِفْطَارُهُمْ)، وهذا معناه جداً لطيف بانه (ع) يمدح العاقل النائم، لأن نوم العاقل خير من صوم الأحمق الجاهل، ولهذا نسبها الغزالي لأبي الدرداء فقال: كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم، ولذرَّة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغترين، ولذلك قال بعض العلماء: (كم من صائم مفطر، وكم من مفطر صائم)، والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام، ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه) (إحياء علوم الدين للغزالي: ج1 ص236)

نعم؛ ما أجمل عمل العقلاء العارفون الذين يكون نومهم وهم صائمون وفِطْرُهم، أفضل من صوم الحمقى وقيامهم، وذلك لأن العقل زينة الله التي زيَّن بها البشر ودرجاتهم بمقدار ما أعطاهم من عقول، ولذا صار أكملهم، وأشرفهم، وأعظمهم، هم مَنْ كمُلت عقولهم وأشرف الكاملين من البشر هم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين)، فهم الكاملين المكملين من البشر.

لنصوم هذا الشهر من جديد

إذن هي دعوة للصوم في هذا الشهر الكريم، ولكن لنصوم صوم العبادة لا صوم العادة، صوم الكياس العقلاء العارفين برب العالمين وبهذه الأمانة العظيمة التي وهبها الله لنا في هذا الشهر، وهذا الظرف المميز والحرج جداً علينا جميعاً ولا أعتقد أن هناك أحد منا يقول: أنه مرَّ عليه شهر الصوم بمثل هذه الظروف القاسية جداً من حيث الحصار، وإغلاق المراقد المقدسة، والمساجد، والحسينيات، وحتى التجمعات على مستوى البيوت والأسر.

بل أعتقد أن الأمة الإسلامية، والطائفة المؤمنة المحقَّة مرَّت بمثل هذه الظروف عبر القرون منذ أول عهدها وحتى الآن، فالتاريخ لم يحدِّثنا عن مثل هذه الجائحة العالمية، فكان الطاعون إذا نزل في بلد يفتك فيه فقط، أما الكورونا فصارت عابرة للقارات، والمحيطات، وحتى عابرة للشعوب والقوميات فلكل منها نصيبه أجارنا الله منها جميعاً.

يقول الإمام الراحل في كتابه: (شهر رمضان، شهر جديد من بين بقية الشهور لأنه يمتاز عنها بأشياء كثيرة، يريد للمؤمن أن يكون جديداً في كل أيامه، جديداً لا بملبسه.. حيث اعتاد البعض أن يرتدوا أجمل ما عندهم من الملابس.

جديداً لا بمأكله.. حيثُ اعتاد بعض الناس أن يأكلوا في هذا الشهر كل شيء جديد، فكل ما لم يعتادوا على أكله.. يبتاعونه في هذا الشهر ليتناولوه وكأنه ليس شهر الصيام بل شهر الطعام، وكأن الهدف ليس هو التدريب على الجوع والعطش ليتذكّر الإنسان المؤمن جوع وعطش الفقراء والمساكين ليواسيهم، وليتذكّر جوع وعطش يوم القيامة، بل الهدف هو التعوُّد على تناول ألذّ الأطعمة!

فعلى المؤمن أن يُصممَ في هذا الشهر مع نفسه أن يكون أفضل مما كان عليه، وأن يعاهد الله سبحانه وتعالى أن يكون لبنةً جديدةً تُضاف إلى صرح الإسلام المتين، ليرتفع هذا الصرح شامخاً في سماء الدنيا باعثاً الهداية والأمل إلى كل البشرية.

والإنسان بحاجة في كل عام إلى وقفة مع نفسه ومع الحياة، لأنّ غبار الحياة قد يتراكم على قلبه فيجرّده عن رؤية الحقيقة، وتحول بينه وبين طريق التقدم، فلا بُدّ من غربلةٍ تُمهِّد الطريق إلى الدخول في شهر رمضان، ولا بدّ من نقضٍ لما عَلَقَ بالإنسان من غبار الجهل واليأس، والتخلف، والأخذ بشآبيب الأمل والتقدم للمضي في طريق راسخ نحو تجديد الحياة الفردية ليكون هذا التجديد هو السبيل لتقدم حياة الجماعة نحو الأمام). (شهر رمضان شهر البناء والتقدم: المقدمة ص3)

اللّهُمَّ إِنا نَرْغَبُ إِلَيْكَ فِي دَوْلَةٍ كَرِيمَةٍ، تُعِزُّ بِها الإِسْلامَ وَأَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِها النِّفاقَ وَأَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فِيها مِنَ الدُّعاةِ إِلى طاعَتِكَ، وَالقادَةِ إِلى سَبِيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.

اضف تعليق