q

عادة ما تنتفض الشعوب على أنظمتها الحاكمة، بعد سنوات من القمع ومصادرة الحريات، والاستئثار بالسلطة، ومنح الامتيازات للمقربين من النظام، فضلاً عن تفشي عناصر ومكونات الفساد في أجهزة الدولة. ومن مظاهر المرحلة التي أطلق عليها عنوان (الربيع العربي)، أن الاحتجاجات الشعبية جاءت بنتائج أولية مُرْضية تمثلت بزوال الأنظمة الاستبدادية أو تنحيها تحت وطأة الضغط الجماهيري كما في التجربتين التونسية والمصرية، أو بزول رأس النظام بأحداث صِدامية تنتهي إلى الإطاحة برأس الحاكم كما في التجربة الليبية.

السؤال هنا: من الذي زال؟ وماهي ملامح مرحلة ما بعد زوال الأنظمة؟

إن أكثر الشعوب المنتفضة على حكامها، وبعد نجاحها المرحلي في التخلص منها، وبعد فترة من السعادة الحذرة؛ وجدت نفسها تستفيق على ظلال مخيفة كانت مخفية في السعادة المؤقتة. هذه الظلال مثلت ملامح مرحلة ما بعد الثورة في تجارب سياسية لم تستفد على ما يبدو من التجارب السابقة، فالحكام الجدد جاءوا أو وجدوا أنفسهم نتاج ردود فعل جماهيرية أوصلتهم بآليات ديموقراطية (الانتخابات) ــ هذا طبعاً مع التفاؤل بنزاهة الانتخابات ــ، لكنهم وصلوا من دون برامج علمية وحقيقية تمثل جديتهم في بناء المستقبل الذي حلمت به الشعوب الثائرة، ويتبين فيما بعد أن العملية برمتها عبارة عن استبدال تجربة بتجربة مماثلة مع تغيير طفيف لا يكاد يُلمح له أثر أمام ثبات التعثر والارتباك في مجالات الاقتصاد المرتبطة بالمعيشة لتتحول مشاعر الثورة والاحتجاج إلى حالة من الندم (المُبَطَّن) والذي قد يجوز لنا أن نطلق عليه تسمية (الحنين الارتدادي).

وقد لمسنا مثل هذا الحنين في تونس حيث سمعنا من أغلب الفعاليات الأكاديمية والاجتماعية والثقافية أن الوضع الاقتصادي الحالي يُنذر بالخطر؛ لعدم وجود برامج إصلاحية حقيقية تعزز الانتشاء الذي حصل بعد غياب أو تنحي الرئيس السابق (زين العابدين بن علي)، هذا الغياب البرامجي أدى إلى ارتفاع بالأسعار أرهق كاهل المواطن البسيط الذي صار يصرح علناً بأن المعيشة في عهد (بن علي) كانت أفضل مع يقينه بأن نظام بن علي كان نظاماً يمنح الامتيازات للمقربين وخصوصاً من أقرباء العائلة المالكة. إننا قد نتعاطف مع المواطن البسيط الذي لا يريد شيئاً سوى أن يعيش بكرامة، وفي ذات الوقت نستفهم عن أسباب استنساخ التجارب التي تجعل من الشعوب تحن إلى زمن ثارت فيه على حاكمها!

مشكلة التحزب

قبل مرحلة (الربيع العربي) كان العراق قد شهد تغييراً تمثل بإسقاط نظام حزب البعث الحاكم بقيادة (صدام حسين) عن طريق تدخل عسكري دولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وبمباركة من أغلب أحزاب المعارضة العراقية بشقيها العلماني والإسلامي، وتم اجتياح العراق وحدثت إرهاصات كثيرة أنتجتها مرحلة الاحتلال الأمريكي كان أكثرها وقعاً هو التناحر المذهبي الذي أنتج عمليات عنف خلال فترات زمنية من عمر التواجد العسكري الأجنبي في العراق. والصورة الأكثر سطوعاً خلال هذه المرحلة المفصلية من تاريخ العراق الحديث هي كثرة الأحزاب المتشكلة لخوض غمار العملية السياسية أضيفت لقائمة الأحزاب التي كانت معروفة بمعارضتها لنظام حزب البعث، فصارت التعددية الحزبية مشكلة كبيرة حتى مع الشعارات الملونة والبراقة للتعددية وفوائدها بعد زمن سيطرة الحزب الواحد، وكأن الديموقراطية يتم اختصارها بتعدد الأحزاب التي قد يصل تعدادها إلى المئات! ولكن ما فائدة هذه الكثرة الكاثرة من الأحزاب من دون برامج محددة؟ والمشكلة الأكبر للتحزب تتمثل في تعدد الأحزاب التي تمثل توجهاً محدداً، ولنتصور عدد الأحزاب التي تمثل المكون الشيعي في العراق، وهكذا بالنسبة للأحزاب التي تمثل بقية المكونات العرقية والدينية في هذا البلد المتعدد، هل نستطيع أن نجد برنامجاً محدداً لهذا الحزب يختلف به عن الحزب الآخر وكلاهما يمثلان توجهات ذات المكون؟

كما أن انخراط المواطنين في هذه الأحزاب من أجل أن تجد لها متسعاً من العيش الكريم يمثل مشكلة أخرى تعزز من هيمنة هذه الأحزاب على السلطة من دون وجود برامج حقيقية للنهوض بالبلد وببنيته التحتية، ومثل هذه الصورة نجدها في التجربة العراقية من 2003 ولغاية اليوم، ونفس الصورة وجدناها انعكست على التجربة المصرية بعد فترة حكم (محمد حسني مبارك) حيث الانقسام الشعبي الحاد بين مؤيد للإسلاميين ممثلين بتنظيم (الاخوان المسلمين) وبين معارضين لهم من العلمانيين المنقسمين إلى أحزاب تمثل توجهاً علمانياً ليبرالياً، وقد عزز الانتماء السلبي والإيمان غير المعرفي بهذه الأحزاب إلى هيمنة سلطوية لم تأت بجديد إسلامي أو ليبرالي، ولم تقدم للمواطن البسيط الذي لا حول له ولا قوة غير المزيد من الانكسارات والاحباطات، فصار يشعر أنه حطب لصراع إيديولوجي يربح فيه المؤدلجون وأصحاب المصالح، بينما تكون الخسارة هي النتيجة الوحيدة والحتمية التي يحصل عليه؛ لأسباب تتعلق بتصادم المعتقدات بين أنصار هذا الحزب أو ذاك، والتصادم في المعتقدات، والدينية منها على وجه الخصوص؛ يجعل البلدان على حافة الانهيار، إذ تتقلص ممكنات التعايش والتسامح، وتكبر مساحات العنف والعنف المتبادل، فتكبر في روح المواطن البسيط مساحات الحنين للسابق الذي ثار عليه.

اضف تعليق