يرى (بيكو باريك) في كتابه (سياسة جديدة للهوية) أن وجود الهويات الاجتماعية المتعددة لايعني اتفاقها على مستوى العمق والمدى؛ لأن الأنشطة التي تمثل جوهر العلاقات الانسانية لها تميزها على صعيد البنية والقيم وأنماط السلوك.

والهوية الاجتماعية تقدم للأفراد سبل معرفة توجهاتهم ووجهات نظرهم، ومع تعدد الهويات؛ تتعدد وجهات النظر والرؤى، وتنشأ بينهما علاقة تكاملية؛ لأنها جزء لايتجزأ من كياننا ووجودنا، وتمثل معانياً متعددة رائدها التوازن في العلاقة بين هوية وأخرى؛ للوصول إلى أعلى مراحل التعايش والاعتدال في حياة متماسكة.

وقد يحدث العكس من هذه المعطيات ــ بحسب بيكو باريك ــ، وذلك في حال هيمنة الهوية الأحادية فيقول: "فعندئذ يرى الأفراد أنفسهم ومجتمعهم والعالم من منظورهم الوحيد، ولايخفقون في ملاحظة جوانب متعددة منهم فحسب، لكنهم يتخذون وجهة نظر منحرفة ومشوهة عما يفعلون. هم يقسمون النوع البشري على محور واحد، ويرون الأفراد والجماعات إما أصدقاء أو أعداء، ويتجاهلون عامة الناس وروابطهم المتداخلة. وبما أن كل مالديهم هو هوية واحدة، فقد أصبحت تستحوذ عليهم ويتشبثون بها باستماتة، ويخشون باستمرارمن أن قهرها أو اختفائها قد يزعزع استقرار حياتهم، ويجردهم من جميع المعاني وهم يصونونها بشدة ضد التهديدات الخارجية، ويطهرونها من العناصر الداخلية الغريبة، متخذين وجهة نظر مبسطة جداً وغير مستدامة، وعوضاً عن أن يمتلكوا هوية، فإنها تمتلكهم"1.

لو أن هؤلاء الأفراد انفتحوا على بقية الهويات المتعددة، وتعايشوا معها سلمياً لما طاردهم هاجس اختفاء خصوصيتهم، وهو هاجس طبيعي طالما ظلوا أسارى أحاديتهم التي ستفضي تفرقة عنصرية تنشىء العلاقات بين الأفراد على أنساق عرقية تتفاعل سلبياً وتنتج عنفاً يهدد البشرية وقيم التعايش والتسامح، حيث أن العنف يجعل الفرد مسلوب الإرادة مستسلماً لرؤية الجماعات التي اصطفته مذهبياً وعرقياً، ولم تترك له فرصة ممارسة نقد الذات، وهي من أهم الممارسات التي تلعب الدور المؤثر في تشكيل الهوية التي تجعل الفرد متصالحاً مع ذاته، مستمتعاً بقيم الجمال الانساني، حيث أن ممارسة نقد الذات تتيح انتاج ذهنية متفتحة قابلة للحوار والتعاطي مع الآخر.

وبما أن الهوية لاتأخذ شكلها المميز ومعناها الحقيقي إلا من خلال الحياة الاجتماعية؛ فإن سماتها بطبيعة الحال تكون سمات متناقضة، خصوصاً فيمايتعلق بالأفراد، إذ قد يمتلك فرد معين سمة مميزة لايمتلكها بالضرورة فرد آخر، أو يمتلكها لكن بدرجة أقل من تلك التي يمتلكها الفرد الأول وهكذا. والهوية مثلما تولد مشاعر للتقارب والانتماء؛ فهي في ذات الوقت تولد مشاعر معاكسة؛ لأن لفظة الهوية قد تشمل مفاهيم مثل: العرق، القبيلة، القومية، اللون، المعتقد، المواطنة، وغيرها من المفاهيم القابلة للتوافق والتناقض.

وسواء كانت الهوية ذاتية تتعلق بالفرد، أو جماعية تتعلق بالمجتمع؛ لابد من وجود عناصر معرفية لنموها، فالهوية الذاتية تتأثر عملية نموها بمؤثرات الشخصية والسياقات الاجتماعية.

اما الهوية الجمعية؛ فهي التي تكون فيها المجاميع مؤثرة في الفرد، حيث تتسرب خصائص وسمات الهوية الجمعية للفرد الذي يتلقفها بإيجابية، فيكون له دوره في محيطه الاجتماعي. وتنتج هذه المزاوجة بين الجمعية والفردية؛ هوية بعناصر معرفية نامية قائمة على علاقة التأثير والتأثر.

العنف والبعد الكوني للهوية

كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 وماتلاها من تداعيات عنفية وتطرف مخيف، أن تمنح لمفهوم الهوية أبعاداً جديدة ومعاصرة، ونزعة أخرى لتقسيم الأفراد وتصنيفهم بشكل يشبه إلى حد ما تقسيم الحركات الشيوعية الأفراد إلى مسميات مثل : البرجوازية، الإقطاعية، البروليتاريا. فقد فرض الواقع الذي تلا هذه الأحداث تصنيفات جديدة خصوصاً بعد بروز الهوية الدينية بمتبنيات متطرفة لاتعتمد أي شكل من أشكال التعاطي والحوار مع الهويات الأخرى، وصار لخطاب هذه الجماعات صدىً مدوياً وأحدث حالة من ارتباك الوعي حتى عند الذين يتبنون المفاهيم الخاصة بالهوية الإسلامية، إذ أن جماعات كتنظيمات القاعدة، والسلفية الجهادية، وبوكو حرام، وداعش؛ تتبنى مفاهيم تنسجم إلى حد ما مع الرؤية العامة لأكثرية المسلمين، غير أنها ــ وهنا مالايريد الآخرون التسليم أو الاعتراف به ــ تم إخراجها من سياقها المرحلي، وتم توظيفه لإشعال الصراع الكبير والذي نحن نعيش أشد تفاصيله وصوره حراجة.

اليوم نحتاج إلى جهود كثيرة لنقف بوجه هذه الامتدادات المتطرفة لجماعات التكفير، وإبراز هوية إسلامية حضارية تنبذ العنف وتمظهراته ومسبباته، من خلال مناقشة المسلمات الفقهية التي قادت إلى انزلاق كثيرين في مهاوي التطرف والتكفير والإجرام، ووضع الكتابات الخاصة بتنظيمات (السلفية الجهادية) التي شجعت وتشجع على الممارسات العنفية، على طاولة النقد الصريح حتى نمنع عملية الشرعنة الفكرية للعنف المنطلق من مسلمات الهوية الأحادية ذي الإيديولوجيا المأزومة.

--------------------
1:بيكو باريك، سياسة جديدة للهوية، ترجمة وتقديم: حسن محمد فتحي، ص50

اضف تعليق