فضّل أمير المؤمنين الصبر في الميدان السياسي، والتحرك بقوة في الميدان الاجتماعي والثقافي، فما كان يقوم به من جولات تفقدية على عوائل الشهداء بالكوفة، ونشر الوعي والحقائق بين الناس في تلك الفترة الحاسمة والاستثنائية، كان يمثل الخيار الاستراتيجي الأكثر تأثيراً في النفوس من السياسة والسلاح...
نقرأ فيما نقله الرحالة حول العالم، وفيما دونه المستشرقون، ومن بعدهم؛ المستعمرون في بلاد العالم –ومنها بلادنا الاسلامية- من مشاهد وحقائق أفادتهم في رسم أقرب الطرق لتحقيق مصالحهم ومشاريعهم على مدى السنوات والعقود اللاحقة، وحتى يومنا هذا، فقد تحملوا عناء السفر عبر البحار لأسابيع وأشهر عديدة، كما تحملوا ردود الفعل الأولية لسكان تلك البلاد لوجود أناس غرباء في كل شيء؛ من اللغة والمظهر، والوسائل التي لديهم، وكان الموت إحدى التحديات أمام تلك الحملات الاستكشافية، بيد إن التأنّي وتحمل المشاق، جعل هؤلاء الغرباء هم من يمنحون الحياة لسكان العالم، كما جعلهم- بعد حين من الزمن- يتلاعبون بمصائرهم بمكالمة هاتفية واحدة، أو قرار واحد من كلمات معدودة!
التخطيط يصنع الصبر
الصبر مفهوم ديني يقابله حالات نفسية تفقد صاحبها الاستقرار مثل؛ الجزع والتسرّع والانفعال، وفي المفهوم الانساني العام فهو يتطابق مع معادلة السبب والمسبب في الحياة، مما يعطي هذا المفهوم مصداقية عملية، فالمزارع في الأرض، والعامل مع المهندس في المصنع لن يجنوا ثمار اتعابهم إلا بعد سلسلة من الاجراءات والخطط والبرمجة في كل ما يتعلق بهذه الاعمال، من نقطة الصفر وحتى المرحلة الأخيرة للحصول على المطلوب.
وفي المسارين الممتدين في الحياة؛ المادي والمعنوي، يمكن ملاحظة الصبر ورباطة الجأش وطول الأناة في وجود الذهنية المبرمجة للحياة، فمن يكون مشحوناً بالايمان والقناعة والرضى بما لديه ويستزيد علواً وتكاملاً في الدين والأخلاق، تهون عليه أعظم المصائب، بل يجدها دون مستوى تفكيره البعيد عن أطر الحياة المادية الزائلة، إنما الحياة لديه هي الآخرة التي يعبّر عنها القرآن الكريم { وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}. كنايةً عن الحياة المتكاملة في كل شيء، والأبدية.
وايضاً؛ من يكون مملوءاً علماً ومعرفة وتجارب يعد النتائج الصحيحة سبباً منطقياً للتخطيط والتفكير الاستراتيجي، بما يهوّن عليه مختلف اشكال التحديات والعقبات في الطريق.
وعندما نتحدث عن التخطيط في المسارين؛ المادي والمعنوي، فانه ينفي من الذهن صورة الانسان الخائف والمتردد، فهو يلوذ بالصبر لتفادي الاقدام ثم التورط بالفشل، وقد حذّر العلماء من تحول الصبر من فضيلة الى رذيلة عندما تجعل صاحبها متقاعساً متخاذلاً، يخشى التحديات، ثم يرضخ للأمر الواقع.
التخطيط للسقوط!
يتوهم البعض في عالم اليوم أن "سرعة المبادرة" تمثل شرطاً أساس لأي نجاح غاضين النظر عن ثمنه، وهذا لا يجري في عالم السياسة والمال فقط، حيث نجد المتسلقين الى قمم السلطة في المشهدين؛ الديمقراطي والديكتاتوري، وايضاً؛ المتطفلين على اسواق المال والاعمال، يفعلون كل شيء للوصول الى كرسي الحكم، والى الأرصدة والعقارات، إنما نشاهد هذه الظاهرة حديثاً في شريحة الشباب التي يفترض انها عماد المستقبل للأمة، يتسابقون للظهور والشهرة تحت عناوين براقة مثل؛ التفوق، والنجاح، والحرية الشخصية، بينما أكد الحكماء والعلماء خطل هذا التصور فمن "فلسفة التأخر العجلة، فإنها، وإن كانت مستحسنة في الأمور الخيرية، والأمور الحيوية والفوتية، إلا انها في غيرها تدل على مهانة النفس وضيق الأفق"، (كل فرد حركة وفلسفة التأخر- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
هذا من الشباب المتحفّز والمشحون حماساً وغروراً بقواه العضلية والذهنية، فمن الصعب عليه الصبر والتأنّي والتحقق في معظم الأحيان، ولكن! ماذا عن الشريحة المثقفة التي يفترض ان تكون العقل المدبّر للأمة، نراها بغير قليل من العجب تخطط للسقوط في التناقضات، والمجادلات العقيمة ذات الأثر السلبي العميق في النفوس، بدعوى السرعة القصوى في نشر الوعي والثقافة التي تراها صحيحة؟!
نعم؛ ربما يكونوا معذورين وهم يخوضوا سباقاً غير متكافئ مع الزمن ليدلوا بدلوهم بوسائل حديثة ومتطورة لا يملكونها، يكفي أن تتوقف صفحات التواصل الاجتماعي لساعات معدودة، سيغيب كل المنتج الثقافي عن الساحة، مما يجعل البعض في حالة قلق دائم وعدم استقرار، بل وعدم ثقة بالنتائج المرجوة، ومن ثمّ، يكونوا الى التسرّع أقرب من التأنّي، حتى وإن كان المعروض مرتبكاً او يشوبه غموض في الشكل والمضمون.
ومن المؤكد عدم الرغبة بالسقوط والفشل في مشاريع تنفق من اجلها الملايين، مع جهود مضنية، ووقت ثمين، إنما الشعور الدائم بالتخلّف عن الآخرين المؤثرين في الساحة بشكل غير إيجابي، وايضاً؛ الخشية من الاتهام بالجُبن والخنوع، يدفع باصحاب المشاريع الثقافية لاستعجال الأمور وتجاوز المراحل والخطوات المطلوبة للنجاح، مثل؛ الاعداد، والتربية، و التنظيم، والإدارة الصحيحة، وإلا فان الأهداف النظرية كلها جميلة ورائعة، وهي تحتاج الى "الصبر الذي يُعد من أسباب الفضائل والخير، وهو صعب في كثير من الأحيان، لكن الانسان اذا أراد الوصول الى هدفه ينبغي عليه الوصول الى أسباب الخير، لأن الصابر سيصل الى النتيجة". (بحوث أخلاقية- آية الله السيد جعفر الشيرازي).
ولعل أروع درس نتعلمه من أمير المؤمنين، عليه السلام، في فترة حكمه المشحونة بالفتن والمحن، فقد أبتلي بأفراد في الامة سببوا له أذى عظيماً، فهو الحاكم الشرعي والقانوني في زمانه، وقد شهد أكبر عملية انتخاب زعيم للأمة شهدها التاريخ الإسلامي، مع ذلك؛ بلغت شريحة متمردة في الأمة من التسافل أن وصفها، عليه السلام، بأنهم؛ متفرقون عن حقكم، في مقابل الجبهة الأخرى المتفقة على باطلهم، ومما خاطب به المتخاذلين عن الجهاد: "و إني لعالمٌ بما يُصلحكم و يُقيم إوَدَكم، ولكن لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي"، فهو يتجنب ان يحكّم فيهم بالسيف والقوة والتغرير بالمال والامتيازات كما فعل معاوية، وسائر الحكام على شاكلته، حتى اليوم، لتحقيق مصالحهم السياسية في أقصر فترة ممكنة.
لذا فضّل أمير المؤمنين الصبر في الميدان السياسي، والتحرك بقوة في الميدان الاجتماعي والثقافي، فما كان يقوم به من جولات تفقدية على عوائل الشهداء بالكوفة، ونشر الوعي والحقائق بين الناس في تلك الفترة الحاسمة والاستثنائية، كان يمثل الخيار الاستراتيجي الأكثر تأثيراً في النفوس من السياسة والسلاح، وإلا فان معاوية هو الذي انتصر عسكرياً وسياسياً على أمير المؤمنين، و وصل الى قمة السلطة التي حلُم بها، وبقي يحكم الأمة الى ما بعد عشرين عاماً من استشهاد أمير المؤمنين، وتكررت التجربة في ابنه يزيد الذي انتصر هو الآخر في معركة الطف، واستشهد الامام الحسين واخوته وابنائه واصحابه، وحصل ما حصل، ولكن! هل المنتصر اليوم، معاوية وابنه يزيد؟!
القرآن الكريم هو الذي يحل هذه المعادلة في الآية الكريمة: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}، (سورة آل عمران، الآية:146).
اضف تعليق