q

العالم اليوم، يعيش في ظل علاقات جديدة تنظم الوقت على أساس ارتباطه بالإنسان، وهذه العلاقات تحفزه على الخلق والابتكار والمضي قدماً في مسيرة الحياة. وعلى مايبدو، فإن المجتمعات المنحازة للمعرفة؛ هي التي تتفوق وتتقدم على تلك التي ظلت أسيرة المفاهيم التقليدية التي تنتهج المادية مع تغييب لقيمة الوعي.

كل شيء اليوم أصبح خاضعاً للتنظيم، بعد أن تلاشت العناصر التي تكبل أيقونات التحول في الفكر والثقافة، حيث تم الانطلاق بثقة وجدية إلى عوالم القراءات المتعددة، وفهم واستيعاب المتغيرات الحضارية المتسارعة على صعيد النظام التقني ممثلاً بالثورة الصناعية منذ القرن الثامن عشر، أو حتى على صعيد تبني الأفكار التي قد تُدحض بفعل التقادم الزمني، وهو ما نلمسه بوضوح بعد عقد ونصف من بداية القرن الحادي والعشرين الحالي، وسخونة الأحداث السياسية، واعادة رسم صورة التحالفات بين مراكز القوى العالمية، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية، وغيرها من الأمور التي عجلت في انهيار القيم التي لم ترتكز ــ رغم زمنها الطويل ــ على أرضية صلبة ؛ لذلك يشهد العالم اليوم تلاشيها بفعل التحديثات الاجتماعية والثقافية، والتي أحدثت مايطلق عليه اليوم بـ (الصدمة الارتدادية) التي جعلت العالم يعود لتبني الدين بوصفه التعبير الأمثل للهوية أو ربما التعبير الأخير لها.

لاشك أن الأنسنة اليوم تفرض الثورة على اللامعنى، والتغريب، والتوحش الذي أنتج أحادية أريد لها أن تقود العالم إلى الأبد قبل أن يصاب بتخمة الهذيان اللامنتج، والعودة لتبني فكرة العدالة، والعودة إلى الذات، وممارسة النقد الذاتي، وبالتالي تشكيل المجتمع المنفتح والمتصالح مع الثقافة بوصفها بعداً (روحانياً للإنسانية) تتعاطى مع الحركة الواعية والناضجة، رافضة أي سكون وانغلاق على الذات.

في الغرب، وفي أمريكا على وجه الخصوص كثيراً ماتم التبشير اقتصادياً بالتحولات العالمية

ممثلة بثورة المعلومات والتكنلوجيا، وكان التبشير مدعوماً من الليبراليين يتنبأ بعالم وردي تزدهر فيه القيم والمعارف، لكن الواقع على الخريطة العالمية بالكامل أثبت عكس ذلك، إذ أن هذه التحولات لم تكن سوى تعزيز للنفوذ النرجسي المغرور للقوى الكبيرة التي عززت تحولاتها من قوتها في المناطق التي خططت لها هذه القوى أن تكون أماكن لتعزيز نفوذها من البوابة العولمية ، وقد أكد أحد الصحفيين الأمريكيين (روبرت كابلان) في كتاب له بعنوان (نحو نهايات الأرض)، أن البشرية متجهة للدمار، وهذه النظرة وإن كانت تشاؤمية أكثر من اللازم ؛ إلا أنها واقعية في جزء كبير منها، خصوصاً عندما يقارن (بول كينيدي) في مقال له بعنوان (قلق في العولمة) بين آليات استخدام الإنترنت كنظام اتصالي فرض نفسه بقوة على العالم فيقول : "إننا نتكلم عن (التعليم للجميع) و (مجتمع المعرفة)، لكن من المحتمل أن تكون هذه الثورة التكنلوجية قد أحدثت شرخاً بين الناس بدل أن تردم الهوة بينهم. لقد ضاعف الإنترنت حتى يومنا هذا الفروقات بين البلدان التي تمتلك التكنلوجيا، وتلك التي تجد نفسها محرومة منها. ففي الولايات المتحدة بالذات، زاد الحاسوب والبريد الإلكتروني من الفروقات الاجتماعية، فتضاعفت المسافة بين الأكثر تعلماً (وهم بشكل خاص من البيض والآسيويين) ومن هم دونهم في المستوى التعليمي (السود بشكل أساسي)، وهو الفارق الذي نلحظه في كل مرحلة من مراحل الحياة، من التعليم الابتدائي، مروراً بالتعليم الجامعي، وصولاً إلى الانخراط المهني . إن أمريكا سوف تضم قريباً طبقتين اجتماعيتين أساسيتين: واحدة تتقن استعمال الوسائل المعلوماتية، وأخرى غير قادرة على ذلك"1.

وهذه الظاهرة التي يتحدث عنها (بول كينيدي) في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تعتبر من أكبر القوى المبشرة بالتحولات العالمية ؛ تنتشر كذلك في البلدان الأخرى الأقل أهمية بحسب موازين القوى كبلدان الشرق الأوسط وأفريقيا، فكيف يمكن لمجتمعات هذه البلدان انتاج المعرفة في ظل هذا البون الشاسع بين من يستخدم تقنيات الاتصال وبين من لايستخدمها ؛ لأسباب تتعلق بالفقر والوضع الاقتصادي؟ والواقع لم تستطع تلك التحولات المغرورة من معالجة هذا الوضع، بل زادت وعمّقت من مساحة التشظي البشري معرفياً واقتصادياً لدرجة أن بعض البلدان ــ بحسب بول كينيدي ــ أصبحت أضعف مما كانت عليه قبل ظهور هذه التحولات.

ينبغي على المجتمعات، إذا أرادت أن تبني نفسها على أسس حضارية ؛ أن تتعامل بشكل متوازن مع التحولات المعرفية المتسارعة، فضلاً عن السعي الجاد من قبل قنواتها الرسمية، ومؤسساتها المدنية لأن تكون هذه التحولات متاحة لكافة الشرائح المجتمعية ؛ تفادياً لحصول الفارق الذي سينعكس سلباً بالتأكيد على أية عملية أو طريقة تنشد التنمية المجتمعية، في حال ظلت التكنلوجيا وتقنيات الاتصال الحديثة مرتبطة بالشرائح الغنية، الأمر الذي سيجعل العالم إزاء حالة مخيفة من عدم التجانس.

اضف تعليق