تكتسب المفردة أو الجملة في العمل الأدبي دورها المميز من خلال قدرتها على الإيحاء بأكثر من دلالة معنوية، ولا يكون هذا مالم يتوفر عنصر الخيال الخلاق الذي يوفر الأرضية المناسبة للمتلقي للسياحة على سطح النص فيجوس تضاريسه ويتلقف مفاجآته.
والقارئ للمجموعة القصصية (سواقي العسل المر) للقاص أحمد الجنديل يلاحظ سيطرة فعل التهكم على تفاصيل الحدث القصصي بشكل يمكن أن يكون مقصوداً لذاته ولا مشاحة في ذلك ، إذ أن الجنديل أراد للوهلة الأولى أن ان تكون قصصه في مجموعته هذه مترعة بالعسل المر مهداة الى اولئك الذين استبدلوا رؤوسهم برؤوس الأوثان ، فهو يخبرنا منذ البداية أنه بصدد كتابة بيان رافض وثوري لفضح أساليب المتاجرة بالمشاعر الإنسانية السامية عن طريق الغوص في تفاصيل الحياة .
وعليه فإنَّ قصص المجموعة قد تبدو للقارئ مصابة بالجنون لكنها في ذات الوقت مطهرة بتعاويذ الألم ، فمن جهة قد توحي تلك القصص بأنها حكايات عالم خرافي لتحكي لنا مدى الإثم الذي يقترفه الذين استبدلوا رؤوسهم ، وتارة أخرى توحي تلك القصص بأنها معزوفات من الحزن الذي يقطر دماً دون أن يعرف أحد لماذا وكيف ، لكننا لانملك ازائها الا الابتسامة المرة .
يلجأ القاص أحمد الجنديل في قصة ( النسانيس ) إلى التلاعب اللفظي في أسماء الأعلام من أجل خلق حالة التهكم والسخرية بوصف ذلك وسيلة فعالة في التأثير لذلك أصبح اسم ( زكية أم الخير ) ( الحاجة زكو ) كناية عن الأفعال المخزية التي ترتكبها مع أرباب الكذب الذين يمتهنون النساء للانغماس في الرذيلة على حساب مشاعر الفقراء .
ويتنوع فعل التهكم ليثير في القارئ فعل الشفقة وربما التأثر حد البكاء وهو أمام. شخصية (شبيب ) الذي عنون القاص قصته الثالثة بإسمه ، هذا الشخص البوهيمي الذي يشبه المجنون بملابسه وكثافة شعره وغرابة أطواره ، يقدمه القاص احمد الجنديل لنا بوصفه ضحية من ضحايا أزلام السلطة وان لم يصرح للقارئ بذلك صراحة لكن قارئ القصة قد يصل لهذه النتيجة من خلال أخلاقيات الضابط ( عمران ) الذي اقترف جريمة قتل والدي ( شبيب ) عندما كان طفلاً بطريقة بشعة لكنه نال جزاءه بعد ثلاثين عاماً على يد شبيب نفسه وكأن القاص يريد ان يقول ان الثلاثة عقود التي مرت على شبيب قد تكون هي ذاتها التي مرت على العراق وهو يصارع الحكم البائد ، وقد أحسن القاص الجنديل الوصف في هذه القصة لولا انه ناقض نفسه في معرفة أهل المنطقة لشبيب ، فقد عبر القاص بصدق عن حياة العشرات ممن يشبهون شبيب ، فكانت قصته تجربة أدبية عبرت - بالنثر - عن لحظة حياة انسان بكل تركيز وتكثيف .
ويتواصل فعل التهكم في قصص المجموعة الأخرى ، فنجده في قصة ( جفاف ) يتمثل في المفارقة بين حالي البطل المذعور الذي لايملك شيئاً وحال اولئك المحترفين الذين يقضون الليالي الحمراء في الفنادق الفارهة .
ونجد فعلاً تهكمياً جديداً في قصة ( سيدة من ورق ) حيث يسيطر على الثيمة الأساسية في القصة التي يوحي عنوانها بمفارقة حادة تعكس عمق الهوة التي وصل اليها البطل - الذي تكلم بضمير الأنا - وهو يجد أن النهاية التي وصل اليها مع انثاه ليست الا لعبة قد انتهت فماعادت تلك السيدة الا امرأة من ورق .
ونجد ان القاص احمد الجنديل في قصصه القصيرة الأخرى وهي ( الغروب ، العبور ،دعوة ، فانتازيا ، قصاص ، رمادي ، بالون ، أحلام ، حب ، حفلة ، سكران ، الفاتحة ) يرصد تفاصيلاً أكثر دقة مما هي عليه في الواقع فقد أكسب الأحداث ايحاء مركزاً وحرارة في الوصف ، وقد كتب عدداً من تلك القصص بأسلوب شعري أخاذ وكأنه يكتب قصيدة نثر ، فقد كان الإيقاع الفكري متحداً مع الإيقاع النفسي ، فضلا عن الوصف اللغوي الدقيق ، والتراكيب التي لاتحتمل الزيادة ، مما جعل تلك القصص تتسم بطابع جمالي واضح .
اضف تعليق