ربما لن يفهمه العالم. ربما لن تعود الصداقة، ولا العائلة، ولا الحب. لكنه أدرك أن الدخان، مهما خفف الألم، لا يمنعه. فقط يؤجله. والصمت لا يشفي، بل يزيد الطعن عمقًا، نهض، ترك السكاره على السطح، ونزل إلى الغرفة. فتح دفتره، وبدأ يكتب. كتب أول كلماته: "أنا شاب... وهذا وجعي...
في الحياة، لا أحد يولد وحيدًا، ولكن البعض يُجبَر على أن يكون كذلك. يُجبر على أن يحمل ألمه بصمت، ويبتلع خيباته بصدرٍ ضيّق، ويقنع نفسه كل مساء أن غدًا سيكون مختلفًا. هذه ليست قصة بطل خارق، ولا حكاية ندم، بل هي حكاية شابٍ وجد في الدخان صديقه الوحيد، حين غاب الجميع.
الصديق الذي كان أخًا
كان "الشاب" شابًا هادئًا، لا يتكلم كثيرًا، ولكنه يسمع الجميع. يحتفظ بالكلمات داخله كمن يخاف أن يجرح الهواء بصوته. في بداية رحلته، كان لديه صديق، بل كان يعتبره أخًا. يتقاسمان الضحك والطعام والسر، ويتعاهدان ألا يخذل أحدهما الآخر. لكن الأيام تُظهر ما تخفيه النفوس. في لحظة احتاج فيها الشاب لصديقه، تخلى عنه. لم يكن الأمر بسيطًا؛ كانت طعنة من الخلف.
جلس الشاب في زاوية الشارع، لا يدري إن كان يبكي أم فقط ينهار. مرّ رجل من أمامه، رمى بسكاره مشتعلة بجانبه، ثم اختفى في الزحام. التقطها، لا يعرف لمَ فعل ذلك، وضعها في فمه، وسحب أول نفس. لم يكن يعرف أن هذه اللحظة ستكون بداية صداقة طويلة، مع من لا يلوم، لا يخذل، لا يرحل: "الدخان".
العائلة التي لم تسمع
عاد الشاب إلى بيته مثقلًا، متعبًا، عله يجد حضنًا يحتضنه. لكنّه وجد أبوابًا موصدة، وآذانًا لا تسمع، وقلوبًا مشغولة بالمظاهر لا بالجوهر. كلما حاول أن يتكلم، قُطعت كلماته بنصائح جاهزة، واتهامات بالتقصير، وجُمل تبدأ بـ"في عمرنا كنا...".
فهم أن صوته لا يُسمع، وأن حزنه لا يُعترف به. فأين يذهب؟ عاد إلى صديقه الوحيد. جلس على سطح المنزل، أخرج سكاره، وأشعلها ببطء. كان الدخان يتصاعد أمام عينيه، فيرسم وجهه في السماء، وجهًا لا يعبأ بالعائلة ولا بالخذلان. فقط ينفثه، وينفث معه ما تبقى من صبر.
الحبّ الذي أطفأ الضوء
ثم أحب. ككل البشر، ظن أن الحب سيكمل ما نقص، وسيجبر ما انكسر. كانت فتاةً تشبه المطر، حين يهطل على قلبٍ جاف. أعطاها قلبه دون قيد، صدّق كل كلمة، وخطّط لمستقبلٍ يجمعهما. لكنه لم يكن يعلم أن حتى الحب قد يخذل، وأن من نحب قد يكون أول من يرحل.
رحلت، دون تفسير، دون وداع. كأنها كانت سحابة، مرّت، وأمطرت، ثم اختفت. لم يسألها لماذا. هو لا يسأل أحدًا شيئًا. بل عاد إلى السطح، إلى وحدته، إلى صديقه الوحيد. كانت السكاره هذه المرة مختلفة؛ كأنها تحترق في داخله لا بين شفتيه.
الصمت الذي يقتل
الشاب لم يكن ضعيفًا، لكنه كان صامتًا. يحرق الألم داخله، ولا يبوح. يتكسر، ولا يُظهر شيئًا. يتألم، ولا يشتكي. الناس من حوله يرونه طبيعيًا، وهو يغرق ببطء. لم يعرف أحد أن الدخان لم يكن عادةً، بل وسيلة. وسيلته للهرب، للصراخ بصمت، للبكاء دون دموع. مع كل سكاره، كان يدفن خذلانًا، ويخسر شيئًا من قلبه.
حين أدرك أن لا أحد يرافق الحزن للأبد
وفي ليلة صامتة كعادته، جلس على السطح نفسه، فتح علبة السكائر فلم يجد فيها إلا واحدة. نظر إليها طويلًا، ثم أطفأ الولاعة دون أن يشعلها. لأول مرة، لم يرغب أن يدخن. لأول مرة، أحس أنه يريد أن يصرخ، أن يتكلم، أن يسمعه أحد.
ربما لن يفهمه العالم. ربما لن تعود الصداقة، ولا العائلة، ولا الحب. لكنه أدرك أن الدخان، مهما خفف الألم، لا يمنعه. فقط يؤجله. والصمت لا يشفي، بل يزيد الطعن عمقًا.
نهض، ترك السكاره على السطح، ونزل إلى الغرفة. فتح دفتره، وبدأ يكتب. كتب أول كلماته: "أنا شاب... وهذا وجعي."
ومن يومها، لم يعد الدخان صديقه الوحيد.
اضف تعليق