عيد العمال ليس مجرد احتفال، إنه درس في الإنسانية. إنه دعوة لأن نحترم العمل أيا كان شكله أو ميدانه، وأن نرفع القبعة لكل من حمل مشقة التعب ليضيء دروب الآخرين. فكل يوم، هناك قصة خفية تكتبها أيادي العمال، قصة جديرة بأن تروى كل يوم، لا مرة في العام فقط...

حينما تصحو المدن على وقع الأقدام المتسارعة، وحين تتنفس المصانع مع أول خيط للفجر، هناك من يقفون في الظل، ينسجون حكاية التقدم، حكاية لم تروَ بما يكفي. هم العمال: صناع الحياة الحقيقيون. ومع كل أول مايو، يقف العالم وقفة امتنان أمام من يحملون مشقة الأيام على أكتافهم، ليصنعوا لنا عالمًا نابضًا بالحركة. لكن، كيف وُلد هذا العيد، وكيف أصبح رمزًا للنضال والكبرياء؟

ترجع حكاية عيد العمال إلى أواخر القرن التاسع عشر، في قلب الثورة الصناعية التي حولت العالم إلى ورشة كبرى. آنذاك، كان العمل شاقًا، والأجور زهيدة، وساعات العمل تمتد إلى أكثر من 14 ساعة يوميًا في ظروف قاسية. ولدت من رحم الألم حركة تطالب بحقوق الإنسان العامل، وكان أول شرارة لها في مدينة شيكاغو الأمريكية عام 1886، حين خرج آلاف العمال في مظاهرات حاشدة مطالبين بتحديد يوم العمل بثماني ساعات.

تلك التظاهرات لم تمر بسلام؛ اندلعت اشتباكات عنيفة بين العمال والشرطة، وسقط ضحايا من الجانبين. ومع ذلك، لم تنطفئ جذوة النضال، بل اشتعلت أكثر، وتحولت حادثة هايماركت الشهيرة إلى رمز عالمي للصمود العمالي.

شيئًا فشيئًا، أدركت الحكومات والأنظمة أن تجاهل صوت العمال قد يكلفها الكثير. بدأ العالم يتحدث بلغة جديدة: لغة الحقوق، لا لغة الاستغلال. واعترفت دول عدة بعيد العمال كيوم للاحتفال بالعامل وجهوده، وتخليد تضحياته.

في عالمنا العربي، دخل عيد العمال إلى الوجدان الشعبي تدريجيًا، حيث شهدت العواصم العربية الكبرى احتفالات وتكريمات، وتحول الأول من مايو إلى مناسبة وطنية رسمية. وغدا مشهد العمال وهم يرفعون لافتات الشكر والفرح مشهدًا مألوفًا، لا يخص مدينة دون أخرى.

تتعدد وجوه العامل: هو الفلاح الذي يقف تحت الشمس ليزرع القمح، وهو المعلم الذي ينحت في عقول الأجيال، وهو المهندس الذي يصمم، والطبيب الذي يعالج، والنجار، والحداد، وعامل النظافة، وغيرهم كثيرون. عيد العمال لا يخص فئة دون أخرى، بل هو عيد لكل من يؤمن أن العرق شرف، وأن العمل رسالة.

اليوم، تغيرت ساحات النضال، وتطورت أدوات العمل. ظهر العمل عن بعد، وانتشرت التكنولوجيا، لكن الجوهر بقي ثابتًا: الكرامة العمالية، والحق في بيئة عمل آمنة وعادلة. ومع كل تقدم تقني، تزداد أهمية أن نتذكر أن وراء كل جهاز، وكل مبنى، وكل منتج، أيادي بشرية ضحت بالكثير.

في كل عام، حين يأتي الأول من مايو، يجب ألا يكون مجرد يوم إجازة نمرره كحدث عابر. بل علينا أن نتوقف للحظة، ونفكر في كل يد ساهمت في بناء عالمنا الحديث. لنجعل من هذا اليوم فرصة لإعادة الاعتبار لكل مجهود بسيط يمر بنا دون أن نشعر.

عيد العمال ليس مجرد احتفال، إنه درس في الإنسانية. إنه دعوة لأن نحترم العمل أيا كان شكله أو ميدانه، وأن نرفع القبعة لكل من حمل مشقة التعب ليضيء دروب الآخرين. فكل يوم، هناك قصة خفية تكتبها أيادي العمال، قصة جديرة بأن تروى كل يوم، لا مرة في العام فقط.

اضف تعليق