حين يُخيَّر الإنسان بين البقاء والرحيل، يظن أن الرحيل نهاية، وأن ما مضى يصبح طيّ النسيان. لكنه يغفل أن الأثر الحقيقي للإنسان لا ينتهي عند مغادرته، بل يستمر فيما يتركه وراءه من مواقف وقيم وسلوك. ومن أسمى ما يُحفظ للإنسان بعد رحيله هو قدرته على كتم الأسرار، تلك القيمة الأخلاقية الرفيعة...
حين يُخيَّر الإنسان بين البقاء والرحيل، يظن أن الرحيل نهاية، وأن ما مضى يصبح طيّ النسيان. لكنه يغفل أن الأثر الحقيقي للإنسان لا ينتهي عند مغادرته، بل يستمر فيما يتركه وراءه من مواقف وقيم وسلوك. ومن أسمى ما يُحفظ للإنسان بعد رحيله هو قدرته على كتم الأسرار، تلك القيمة الأخلاقية الرفيعة التي قلّ من يتقنها حين يطوي صفحة من حياته مع أشخاص أو أماكن أو تجارب.
اختبار حقيقي للأخلاق
الرحيل في جوهره ليس مجرد تغيير مكان أو إنهاء علاقة أو ترك وظيفة. إنه لحظة صدق بين الإنسان ونفسه، ولحظة اختبار لما تربى عليه من قيم. كثيرون يجيدون التوديع بالكلمات، لكن قلة فقط يجيدون التوديع بصمت شريف، صمت يخبئ في طياته أسرار الآخرين، ويحفظ كراماتهم حتى وهم يغيبون عن حياتنا.
كتم الأسرار عند الرحيل ليس ضعفًا أو خوفًا، بل شجاعة أخلاقية. فحين ينتهي دورك في حياة شخص أو مكان، تبقى الأمانة التي حملتها طوال العلاقة: أسرارهم، عيوبهم، لحظاتهم الضعيفة، وحتى همساتهم التي ائتمنوك عليها. حين تتحدث بها بعد الرحيل، تفقد شرفك قبل أن تفضح غيرك، وتسيء لنفسك أكثر مما تسيء لمن أفشيت سرَّه.
قيمة تصنعها المروءة
إن كتم الأسرار بعد الرحيل يعكس معدن الإنسان الحقيقي. فما أسهل أن ينطق اللسان بما كان خفيًا حين تسوء العلاقات أو تتباعد الطرق. وما أصعب أن يُلجم الإنسان نفسه عن ذكر عيوب من فارقهم أو بث شكواهم للآخرين. هنا يظهر الفرق بين من كان صادقًا في مروءته، ومن كان يستغل القرب ليجمع ما يضعف به من كان يومًا مقرّبًا.
وقد قالوا قديمًا: "الأحرار قبور الأسرار". وهذا القول يحمل حكمة بالغة؛ إذ الحرّ هو الذي يصون الود حتى بعد انقطاعه، ويحفظ العشرة حتى بعد زوالها. لا ينسى فضل من عاش معهم يومًا، ولا يشهر بهم سيف الكلام حين يرحل عنهم. فالرحيل لا يبيح لك هتك الستر، ولا يمنحك مبررًا لتتاجر بالأسرار.
المجتمع وكتم الأسرار
مجتمعنا اليوم أحوج ما يكون إلى تعزيز هذه القيمة. في زمنٍ صار فيه البعض ينشر الأسرار في لحظة غضب أو انتقام، أو يبيعها في سوق الفضائح بحثًا عن انتصار زائف. الرحيل صار لدى البعض مناسبة للتشهير، وكأنهم ما عرفوا إلا السوء فيمن عاشوا معهم، متناسين أن في كل علاقة إنسانية جانبًا جميلاً يستحق التقدير، حتى وإن انتهت.
ومن هنا، فإن كتم الأسرار بعد الرحيل لا يحفظ فقط صورة الآخرين، بل يحفظ المجتمع من الانزلاق في دوامة القطيعة والتشكيك والخذلان. إنه يرسخ ثقافة الاحترام بين الناس، ويمنحنا القدرة على بناء علاقات جديدة أكثر أمانًا، لأن الثقة لا تُشترى، بل تُبنى وتُحفظ بكتم الأسرار.
حين نرحل، فلنترك أثرًا طيبًا يُذكر لنا. لا تجعل من رحيلك فرصة لتلوّث ماضيك بأحاديث لا تليق، أو لتكسر صورة جميلة رسمتها الأيام. كن كبيرًا حتى في الفراق، وصُدق في حفظ الأسرار. فالحياة قصيرة، وما يبقى بعدنا ليس ما قلناه حين كنا غاضبين، بل ما صمتنا عنه احترامًا لأنفسنا وللآخرين. اجعل من كتم الأسرار أدبك الأول في الرحيل، تكن سيد الموقف، وصاحب القلوب التي تذكرك بخير حتى بعد الغياب.
اضف تعليق