الظاهراتية في اللغة من الظاهرة أو الظهور وهي المقابل العربي للمصطلح الأجنبي (فينومينولوجيا Phenomenology)، ويراد بهذه المفردة الدلالة على مذهب فلسفي مشهور وضع أسسه الفيلسوف الألماني هوسرل نتيجة تأثره بأفكار سابقة مشابهة، وقد وتأثر به آخرون، يؤكد على كيفية تكوّن الظواهر في وعينا دون أي ملابسات خارجية، أي إنها تؤكد على الذهاب إلى ماهيات الأشياء، كما تتبدى لنا عارية عن متعلقاتها.
ويبدو أن صفة المذهب الفلسفي لا تنطبق على الظاهراتية تمام الانطباق، فهي أقرب إلى المنهج لتعلم التفكير الجيد؛ التفكير الذي لا يوقعنا في أوهام وتناقضات.
وهوسرل لم يكن أول من قال بهذه الفكرة، فقد كانت تتردد في كتابات فلاسفة قبله لكن بمعان مشوشة فقد أراد منها الألماني لمبرت الدلالة على نظريّة الظواهر الأساسية للمعرفة التجريبيّة وأفادت عند كانت مثل هذا المعنى ولكن في حد أضيق وعند هيجل دلت على المراحل التي يمرّ بها الإنسان حتى يصل إلى الشعور بالروح أما هاملتون فقد كان يقصد بها فرعا من علم الفكر وهو الذي يلاحظ مختلف الظواهر الفكريّة ويعممها، لكنها مع هوسرل أكتسبت معناها الإصطلاحي المتداول في المدونة الفلسفية المعاصرة.
ويبدو أن الظاهراتية اكتسبت الشيوع والانتشار بفترة وجيزة بعد ظهورها لما انمازت بها من صفات أهمها التأكيد على التجرد والموضوعية فقد نالت الحظوة عند أكثر من مفكر وفيلسوف على تعدد وجهات نظرهم واختلاف ميادين تطبيقها.
لقد طبق عالما الإجتماع ماكس شيلر وكارل مانهايم الظاهراتية في دراساتهم للقيم وعلم الإجتماع، فيما وظفها ليبس في علم الجمال، وطبقها فيلسوف الأديان رودولف أوتو في دراساته اللاهوتية، ونجد الظاهراتية مطبقة أيضا في الدراسات الأخلاقية عند هارتمان، ولا تخفى إفادة الفلاسفة الوجوديين من الظاهراتية لا سيما هيدجر وكيركجورد وسارتر.
فضلا على تأثر فلاسفة ومفكرين آخرين بها مثل : ميرلوبونتي وباشلار وانجاردن ولفينياس وبول ريكور وعدد من علماء النفس.
والظاهراتية تنشد الذهاب إلى الأشياء نفسها بعد تشذيبها مما يعلق بها من الأعراض الثانوية، فلو أردنا دراسة ظاهرة الانتحار مثلا فعلينا أولا أن نضع هذا المفهوم بمعناه المتعارف بيننا بين قوسين ــ يطلق هوسرل على هذه المرحلة: التعليق أو التوقف عن الحكم أو الأبوخية ــ، ثم نبدأ بتأمل هذا المفهوم وكأنه معطى جديد يظهر لنا أول مرة.
والملاحظ على المرحلة المتقدمة أنها مرحلة شكية تشبه إلى حد ما ذكره ديكارت في شكه المؤقت وما ذكره هيوم في بعض الأوجه وما ذكره كانت في قضية عدم معرفة الشيء في ذاته، وبذلك يكون هوسرل قد أفاد من كل هؤلاء.
والملاحظة الأخرى التي يجب أن نذكرها هنا أن هوسرل في هذه المرحلة أقرب إلى أن يكون عالم نفس، فهو حين يؤكد على التأكيد على معطيات التفكير المباشر فأنه يطلب منا أن نتعامل مع وعينا الذاتي الخاص، وقد كان الأمر موضعا طالما أنتقد هوسرل منه بتهمة الذاتية الضيقة والمثالية.
والملاحظة الثالثة على مرحلة التعليق الهوسرلية تتعلق بالجنبة العلمية الصارمة التي يتطلبها المنهج الهوسرلي، فقد كان هوسرل تلميذا نجيبا لفرانس برنتانو عالم الرياضيات وقد أكتسب منه الصرامة في التفكير حتى أنه كان يسعى من خلال فلسفته إلى إقامة فلسفة تعتمد على المنهج العلمي الدقيق ولا تنشغل بالتهويمات اللاعلمية.
والنقطة الرابعة التي تتعلق بهذه المرحلة تتمثل في رفض الآراء السابقة جميعا لغرض التوجه مجردين من كل السوابق نحو الأشياء مباشرة وهذا الأمر يذكرنا بالخطوات التي طرحها فرنسيس بيكون للتخلص مما أسماه أصنام العقل التي تتمثل عنده : أوهام الكهف وأوهام القبيلة وأوهام السوق وأوهام المسرح.
والمرحلة الثانية في المنهج الظاهراتي تتمثل في الذهاب إلى الأشياء عن طريق التسامي في الشعور بها حتى نصل إلى مراحل متقدمة جدا من الحدس وهنا مكمن الصعوبة في فلسفة هوسرل، فهوسرل يطالبنا بأن نستمر في اختزال الظاهرة وتجريدها حتى نصل إلى تصور الأنا المتعالية التي قد تكون الله نفسه، أي الانطلاق من كثرة التصورات وتنوعها إلى الوحدة عن بتجريدها.
والملاحظ على هذه المرحلة الثانية أن هوسرل بمنهجه ينشد الماهيات المجردة وهي عنده إما ماهيات عامة مثل: ماهية الإدراك وماهية التصور وماهية العدد وماهية الحقيقة، وهناك أيضا ماهيات الأمور المادية مثل: ماهية الصوت وماهية اللون وماهية، وهذه الماهيات تمثل معان مجردة ولا تمثل الموجودات العينية، ومن خلال تلك الماهيات نكتشف الأحوال النموذجية للشيء المراد فهمه مثل حاله كما يُدرك وحاله كما يُتخيل وحاله كما يراد له أن يكون، وحاله كما يُحكم عليه.
وقد أختصرنا هنا المراحل التي ذكرها هوسرل بمرحلتين فقط أما هوسرل فقد جعلها أربع مراحل، وهي عنده: وضع التاريخ بين أقواس، والتاريخ هنا معلوماتنا السابقة ومعتقداتنا، ووضع الوجود بين أقواس والمقصود بالوجود هنا البحث عن الماهيات مجردة، ومرحلة الاختزال، ومرحلة الاختزال المتعالي.
اضف تعليق